قراءة فصحية.. في أسانيد قيام الدولة اليهودية

إميل أمين

TT

هذه هي الحلقة المكملة لتلك السلسلة التي تتماس فيها شؤون وشجون الدين مع معطيات السياسة، التي بدأت بالحديث عن فكرة هدم الأقصى وبناء الهيكل، ثم الحديث عن معركة هرمجدون، وصولا إلى الملك الألفي، وقد تصادف أن تأتي هذه القراءة الأخيرة في زمن الفصح، بحسب التوقيت اليهودي.

وحتما أن الغرض الوحيد من تلك السلسة هو البحث بموضوعية، وتجرد في منظومة فكرية أثرت ولا تزال على علاقات الشرق بالغرب من جهة، وعلى علاقات الأديان في منطقة الشرق الأوسط، عطفا على حروب اشتعلت ومرشحة للاشتعال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، طالما بقيت النزعة العنصرية حاكمة في إسرائيل الدولة، وفي الصهيونية كمذهب، وفي اليهود كشعب مختار بحسب الادعاء.

على أن التساؤل في هذا الزمن الفصحي؛ هل قيام دولة إسرائيل مدعوم قولا وفعلا بأسانيد كتابية توراتية تعزز قيامها على أساس أن تحققها هو إرادة إلهية غير بشرية؟

يمكن الإشارة، بادئ بدء، إلى أن الحركة الصهيونية قد مرت بأطوار مختلفة قبل أن تصل إلى مرحلتها السياسية الحاضرة، وقد كان أول أساس أراد الصهيونيون الارتكاز عليه هو ترويج فكرة وجود شعب يهودي وجنس يهودي وأمة يهودية متسلسلة من العبرانيين القدماء، وأن اليهود ليسوا مرتبطين ببعضهم بعضا برباط الدين فقط، ولكنهم يكونون أمة مميزة عن غيرها.

إلا أن التاريخ يشهد بأن اليهود الحاليين لا علاقة لهم بسلالة العبرانيين، وأنهم إذا كونوا في وقت من الأوقات أمة حقيقية، فهذا الوقت كان وجيزا جدا، وقد اضمحلت هذه الأمة واختفت تماما.

فمدة ملك داود وملك سليمان لم تدم إلا ثماني وسبعين سنة، وحتى مملكتا يهودا والسامرة اللتان أسستا على أنقاض المملكة الوحيدة، لم يلعبا في تاريخ اليهودية إلا دورا محدودا وثانويا، لذا فإن مملكة إسرائيل قد تلاشت في الإمبراطورية الآشورية منذ سنة 772 قبل الميلاد، وسقطت مملكة يهوذا في أيدي الفرس سنة 587 قبل الميلاد، ولم تبق ذكرى لهاتين المملكتين في التاريخ السياسي والاجتماعي، ولكن فقط ذكرى دينية عابرة.

والشاهد أنه إذا القينا نظرة على اليهود الذين نزحوا من البلاد المختلفة، واستوطنوا في فلسطين، نجزم أنهم ليسوا سلالة العبرانيين القدماء الذين سكنوا الأراضي المقدسة، فإنه قد حدث أن انضم عدد كبير في أوروبا إلى اليهودية في القرون الوسطى وفي عهد الأتراك الذين سادوا على روسيا الجنوبية الشرقية، انضم عدد كبير إلى اليهودية وعلى رأسهم الملك «بولان» في سنة 740 ميلادية، وفي القرن الثامن عشر انضم عدد كبير إلى اليهودية تحت تأثير اليهود البيزنطيين، وكثر عدد المنضمين في القوقاز، وانتشروا في أوروبا الوسطى وفي بروسيا وبولندا وروسيا، وهاجر عدد كبير منهم إلى الولايات المتحدة، منهم هؤلاء الذين نزحوا إلى إسرائيل أو بالأحرى سلالتهم، وهم الذين يدبرون سياستها، كما لا ننسى أنه لا يوجد يهود صفر وسود وملابار وأحباش، أشكيناز وسفارديم؛ فهل يمكن بعد هذا أن يعتبر اليهود أمة حقيقية بينما الخلاف واضح في الجنس واللغة والأصل والتقاليد، وحتى في المعتقد؟

ولعل التساؤل الذي يثير جماعة اللاهوتيين هو «هل من العدل الإلهي والحق الإنساني إبدال شعب يملك أرضا استوطن فيها منذ آلاف السنين، ويُطرد منها ويُلقى في العراء في الصحراء لتحل محله جماعات غريبة من أجناس ولغات مختلفة وتقاليد بالية متباينة لا يربطهم إلا اسم اليهودية؟

ثم هل من العدل والحق الإنساني أن يُبرَّأ الظالم ويُحكم على المظلوم؟

بكل تأكيد تجيء إجابة جمهور اللاهوتيين الأمناء على شرف الكلمة وسمو الرسالة بالرفض الكامل. فحاشا لله أن يكون غير عادل حسب المسوغات التي قدمتها الصهيونية لقيام دولة إسرائيل على حساب العرب الذين عاشوا فيها منذ آلاف السنين، لذا فإن قيامها يتنافى شكلا وموضوعا مع عدل الله المطلق، إذ إن الحق يعلو ولا يعلى عليه.

والواقع أنه من خلال البحث الممحص لأسفار التوراة يمكن التثبت من أن العرب كانوا أول سكان فلسطين منذ ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة قبل الميلاد، واستمر سكناهم فيها بعد الميلاد اليوم.

والثابت والمحقق تاريخيا، وهو أمر يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سرديته، أن تسمية فلسطين إنما جاءت نسبة إلى القبيلة العربية «فلستينا» التي جاءت إلى الأرض التي كان يسكنها منذ فجر التاريخ الكنعانيون، وهم عرب أيضا، وأصبح اسم فلسطين يطلق على جميع الأراضي الساحلية والداخلية التي يسكنها الكنعانيون، وظلت فلسطين عربية أصيلة لمدة خمسة آلاف سنة. ومدة استعمار اليهود لفلسطين طبقا لنصوص التوراة لا تزيد عن 380 سنة، وكلها إقامات متفرقة وبصفة استعمار دخيل لا وجود أصيل.

واحتلال بلد في واقع الأمر ثم الخروج منه لا يخول للشعب المحتل الدخيل ادعاء الملكية، فضلا عن أنه من العبث بالتاريخ أن تصنع جنسية في ديانة.

ونأتي إلى ركيزة رئيسية أساسية توضح زيف دعوى إقامة إسرائيل من أجل مرضاة الله أو تحقيقا لوعوده، مما يؤكد أن هذا الوجود ليس من الله في شيء، وهو أن إسرائيل تستند في دعواها لإنشاء دولتها الصهيونية العدوانية التوسعية إلى ما ورد في سفر التكوين من وعد الله لإبراهيم «لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات».

وليس من رد على هذا الزعم الذي أثرت به الصهيونية على قطاع واسع من المسيحيين، خاصة في الولايات المتحدة الأميركية ومن التيارات البروتستانتية على وجه الدقة.

غير أن تفسير النص الذي ورد في العهد القديم حول نسل إبراهيم إنما يشمل العرب أيضا من مسلمين ومسيحيين، لأنهم نسل إبراهيم من ابنه إسماعيل، وكان إسماعيل أبا لعدد كبير من القبائل العربية، وإسماعيل هو الابن الأكبر والأول لإبراهيم من زوجته المصرية هاجر، وإذا كان قول التوراة هو «إنني أجعل عهدي مع إسحق» فإنه، وعد كذلك بأن «أجعل إسماعيل أمة كبيرة»، كما أن إبراهيم تزوج قطورة أيضا ولإبراهيم منها قبائل كثيرة من عرب الشمال.

والوعد الإلهي بإعطاء إبراهيم ونسله من بعده أرض كنعان ملكا أبديا، كان في أيام إسماعيل، لأن الذي اختتن كان إسماعيل، لأن إسحق لم يكن قد ولد بعد.

بل إن الموعد بالامتداد من النيل إلى الفرات، حدث قبل أن يولد إسماعيل، ولهذا فإن تفسيره بأنه يختص بالإسرائيليين دون غيرهم مغالطة دينية وتاريخية معا، خاصة أن هذه المنطقة كانت على الدوام يحكمها العرب الذين هم من نسل إسماعيل, فضلا عن أن الترجمة للكلمة العربية في التوراة «أبديا» في الترجمات غير دقيقة، لأن المعنى الصحيح لهذه الكلمة في أصلها العبري «حين من الدهر أو فترة من الزمن»، فالنبوءات التي وردت ليست أبدية، بل مشروطة بفترة معينة، وقد تمت جميعا قبل مجيء السيد المسيح.

فالعودة تحققت في العهد القديم، أي قبل الميلاد، وليس من طبيعة النبوءة أن تتحقق مرة أخرى، كما لا تشير جميع أسفار العهد القديم إلى نبوءة تقول بعودة ثانية.

هل هذا الحديث حديث قومي عربي؟ أو في أسوا أحوال الاتهامات أقوال لا سامية؟

الجواب أن كثيرا من اليهود الصادقين يذهبون إلى ما ننحو إليه، فطبقا لما نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» في عددها الصادر في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1959، أعلن البروفسور «أبراهام هيشيل» أستاذ التصوف اليهودي في كلية اللاهوت اليهودية في نيويورك أن هذه التنبؤات في العهد القديم قد تمت.. وأن الصهيونية التي تدعو إلى قيام إسرائيل جهاز سياسي، ومنظمة عالمية لا صلة لها باليهودية، بل إنها حقرت المعنى النبيل والوحي القديم للفظة «إسرائيل»، الذي كان يدل على فكرة دينية روحية لها قدسيتها، التي نشأت من تقليد مقدس قديم لا يجدونه في كيان دولة مدنية حديثة.

اليهودية في نظر المسيحية الحقيقية قد انتهت كدين وعقيدة، وتحولت إلى مجرد مرحلة تاريخية، وكلمة «إسرائيل» في الإنجيل باتت تعني «كنيسة الله»، و«شعب الله»، لذا فإن قيام دولة إسرائيل بزعم أنها من الله، هو أمر مناف للمسيحية بالمرة، كما أن تأييد إسرائيل عداء لشريعة المسيح، فرسالة السيد المسيح وثبة بالإنسان إلى الأمام.. وتصفية للرجعية الدينية المتمثلة في منظومة الشعب المختار. فالاستعمار لا الدين هو الذي يتحمل المسؤولية الجنائية في إحياء دولة إسرائيل، التي تعد المسيحية ثورة على قيامها واستمرارها، والاستعمار هو المسؤول عن إنشاء وطن عنصري عدواني للشعب اليهودي في فلسطين، على أساس الطرد الجماعي للشعب الأصلي، أما الله فهو بريء من قيام الدولة والملك الأرضي الزمني الذي سيبحثون عنه منذ أيام مملكة إسرائيل الأولى حين عبدوا الأصنام، بينما تمسكت مملكة يهوذا قليلا بالرب، ثم انجرفت هي الأخرى إلى عبادة الأصنام، فأسلمها الرب كذلك إلى السبي، وعندما أراد السيد المسيح أن يملك على قلوب الناس وأفكارهم، وأن يملك على مشاعرهم وحواسهم، وهكذا يقيم مملكة روحية، رفضوه، لأنه لم يأت بالقوة والسلطان، بل بفكر المملكة الروحية التي لم ترق لهم، فتضايقوا من رفضه للملك الأرضي، وتذمروا من قوله «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله».

في هذا الصدد يكتب العلامة المصري الراحل، الأنبا غريغوريس، أسقف البحث العلمي الأشهر في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، في كتابه العمدة «إسرائيل في الميزان من منظور مسيحي» يقول «إن اليهودية الآن هي ديانة الذين أنكروا السيد المسيح ورفضوا دعوته ورسالته وخلاصه وتعاليمه الروحية، متطلعين إلى مسيح آخر من طراز شمشون الجبار، وغيره من المحاربين الأشداء الذين يقودون المعارك الحربية ليحققوا لشعبهم نصرا ماديا أرضيا، ولا يزالون مرتبطين بفكرة المملكة الأرضية، التي تقوم على التوسع المادي والاقتصادي ليسودوا العالم، ويحكموا أو يتسلطوا على غيرهم من الشعوب، اعتقادا منهم أنهم هم وحدهم شعب الله المختار وأما غيرهم من البشر فهم حيوانات لها أشكال آدمية».

هذه النزعة الشريرة القاتلة التي أباحت لهم في كل العصور أن يضروا ويؤذوا كل من لم يكن يهوديا.. وهذا هو سر عدائهم للمسيح والمسيحية؛ فكيف يستقيم إذن بعد ما تقدم أن يكون قيام دولة إسرائيل من الله؟! أما العلامة المصري الآخر، الأب متى المسكين، كبير متصوفي مصر في القرن العشرين، فيرى أن إسرائيل الحالية لا علاقة لها إطلاقا بإسرائيل قديما التي ورد ذكرها في الكتب المقدسة، بل هي عصابات صهيونية تمثل حركة استعمارية فاشية عنصرية، تقوم على مذهبية ترتكز في مبادئها على الاستغلال والعدوان، وتستند إلى نظريات التوسع والسيطرة، وتستخدم العنف في وسائل تطبيقها وممارساتها كأداة لتحقيق أهدافها.

وقد ارتكزت الصهيونية منذ نشأتها على فرضية خاطئة ابتكرها واضعوها، وهي أن اليهودية دين وقومية، ولذا فمن الواجب إيجاد مكان يتكتل فيه اليهود، ويقيمون في ربوعه دولة تعيد لإسرائيل القديمة التي استخرجوها من بطون التاريخ، مجدها وسيادتها، وما أبعدها من دولة عن فكر الله، جل وعلا.

* كاتب مصري