السياسة والأخلاق وحركات التغيير العربية

رضوان السيد

TT

في ظل حركات التغيير الجارية في العالم العربي، ينشغل العلماء والاستراتيجيون بمسائل ثلاث: علاقة الدين والحركات الدينية بالأحداث والوقائع الجارية، والقيم الأخلاقية (الدينية وغير الدينية) السائدة في أوساط شباب التغيير وما تدل عليه، وماذا ينبغي فعله لتجنب أمرين اثنين: ظهور استبداد من نوع آخر، أو الأيلولة للفوضى.

إن السؤال عن علاقة الدين والحركات الدينية بالأحداث، مهم لنا نحن العرب، أكثر من أهميته للغربيين. فالغربيون إنما طرحوا هذا السؤال أو التساؤل، لأنهم يعتبرون أن حركات الإسلام السياسي معادية لهم، ويستدلون على ذلك بالثقافة التي نشروها في كتاباتهم الكثيرة عبر العقود الماضية. وأذكر عندما ذهبت للدراسة بألمانيا عام 1972/1973 أن أحد الزملاء وعلى سبيل المزاح عندما كنت لا أزال أتعلم اللغة الألمانية، أعطاني ترجمة لكتاب الشيخ محمد الغزالي: «ظلام من الغرب»، لكي أتدرب من خلاله على اللغة الجديدة، في ضوء الأصل العربي! وكتاب محمد عبد السلام فرج: «الفريضة الغائبة» ترجم إلى الإنجليزية بعد وقت قصير على مقتل الرئيس أنور السادات على يد أفراد من حركة الجهاد المصرية، ومؤلف الكتاب كما هو معروف ينظر فيه للجهاد الداخلي، وإمكان القتل للردة أو الخيانة. ثم إنهم يستشهدون لحذرهم الدائم من أصوليات الإسلام وجهادياته المعاصرة بـ«القاعدة» وهجماتها ونشاطها. وقد عرفوا جيدا في العقدين الأخيرين الحركات الإسلامية غير العنيفة، والراغبة في العمل بالشأن العام من ضمن الآليات السائدة، لكن الحذر لم يفارقهم لسببين: أنهم – وبخاصة الأوروبيون من بينهم - لا يريدون أن يكون للدين تأثير في السياسات العامة والخارجية لدولنا، وأن عددا من الأنظمة السائدة لعقود، والتي تغيرت أو تتغير الآن، كانت تنذرهم بالويل والثبور وعظائم الأمور إن استطاع الإسلاميون هؤلاء، والذين يتظاهرون بالوداعة، أن يصلوا إلى السلطة أو يشاركوا فيها. وهكذا فإن اهتمامات الغربيين باستبعاد الإسلام السياسي، تتصل بخوفهم من تأثيرها على الاستقرار وعلى مصالحهم. وما أقصده بالقول إن اهتمامنا أكبر أو ينبغي أن يكون أكبر، فلأسباب مختلفة تماما عن أسباب الغربيين، وإن كنا مثلهم بل أكثر من حيث الاهتمام بالاستقرار، وبهوية السلطات السائدة وطبائعها. نحن مهتمون بمسألة الإسلام السياسي هذه، لأن الحركات الإسلامية المسيسة، هناك جانب أخلاقي مهم حتى في دعوتها السياسية. والأخلاق السياسية لديهم يغلب عليها طابع الواجب ذي الأبعاد التعبدية من جهة، والقيمية من جانب آخر. وهذا لا يعني أن العنصر الأخلاقي لديهم حاضر وحده، فالعوامل الشخصية والطموحات تلعب دورا بارزا كما لدى سائر البشر. لكن الدوافع الأصلية أو الأولية تحمل عندهم - كما سبق القول - هذه السمة الأخلاقية البارزة أيضا، سواء أكانت محقة أم غير محقة. وكما يمكن أن تتبدى تلك الدوافع في ظروف التأزم بصورة التعصب المذموم؛ فإنها في ظروف المسؤولية والإحساس الكبير بالواجب تفسح المجال لتصرفات مسؤولة في حرمة الدم والمال والعرض، هي من مميزات كل متخلق بأخلاق الإسلام.

إن العالم العربي يمر اليوم بظروف ثورية بالفعل، والثورات تجلب معها إلى جانب تغييراتها الهائلة، الكثير من احتمالات التجاوز والخروج، وبخاصة في مراحل الانتقال الكبرى والراديكالية. ولذا فإن أخلاقيات الدين تعتبر ضمانا قويا يحول دون الشطح أو التردي الذي لا مرد له. فمن صنع هذه الثورات، وما دور أو أدوار شباب الإسلاميين فيها؟ والإجابة عن ذلك أن الإسلاميين ما صنعوا هذه الثورات، رغم مساعيهم للتغيير منذ عقود، لكنهم شاركوا ويشاركون فيها، بعد التهابها واشتعالها. أما الذين اندفعوا للتغيير من الشبان الأوائل، فقد تأثروا بلحظتين: العولمة، والصحوة. فالعولمة ولدت لدى الأجيال الشابة الإحساس بضرورة المشاركة في العصر بأدواته بل وبقيمه في الحريات الاجتماعية والثقافية والسياسية. وليس من النافر القول إن العولمة بشتى ظواهرها هي غربية بقدر ما هي عالمية. ومن العبث الذهاب – كما ذهب أسلافنا في القرنين التاسع عشر والعشرين - إلى أنه يمكن أن نأخذ من الغرب التكنولوجيا والتمأسس، ونظل فيما تبقى من ثقافة وأخلاق في حدود موروثنا وتقاليدنا. فالإنسان واحد فكرا وتقنية، وإنما تحدث هناك عمليات تلاؤم وملاءمة معقدة بعض الشيء بين الثقافة والتقليد والأدوات المستوردة أو المتبناة. وهنا يأتي دور الصحوة الإسلامية العامة، التي عنت في الوقت نفسه: التشبث بالخصوصية ورموزها، والتلاؤم مع الاحتياجات في زمن العولمة بأبعادها العامة. وهذا التكون المزدوج أو المتمازج الذي لا تتسق عناصره أحيانا، هو الذي دفع هؤلاء الشباب - في ظل الالتزام بخصوصياتنا وانتمائنا - إلى انتهاج مسارات في فهم الدولة ووظائفها وواجباتها تتلاقى مع السائد في العالم. وبذلك فقد امتزج لديهم المدني (= العولمي) والديني، وبرز المدني بأدواته وآلياته على السطح، دون أن يلغي الخصوصيات ذات الأبعاد الأخلاقية والدينية. وبذلك فقد برز هؤلاء باعتبارهم ممثلين للفئات الوسطى الجديدة التي أفادت من متغيرات العالم، ومتغيرات بلدانهم في العقدين الماضيين. وعندما دخل عليهم الإسلاميون في المرحلة الثانية، ظهروا بمظهر الكابح والمصحح والمهدئ، وهي ظواهر صحية أو أنها كذلك حتى الآن، وهذا الواقع الذي لا يزال في مرحلة التشكل، لا يتكرر بالصيغة ذاتها في كل بلدان الثورة العربية، لكن نموذجيه البارزين حتى الآن تونس ومصر، ومصر أكثر من تونس. ولدينا ليبيا واليمن وسوريا، حيث يظهر الاختلاف في النسبة بين المدني والإسلامي. بمعنى أن المدني قد يصبح جزءا من الإسلامي في الأقطار الثلاثة، بينما كان الإسلامي، أو بدا الإسلامي بحسبانه جزءا من المدني في مصر وتونس.

وفي عودة إلى سؤال الأخلاق الضامنة؛ فإن هناك نوافر ظهرت لدى الطرفين. فقد بدا أحيانا لدى المدنيين أن قيم الحداثة أو العولمة لديهم تتركز على تصفية الحسابات مع كل الماضي القريب بالطرائق المعاصرة، دونما اهتمام كثير بالمعالم المستقبلية أو العالم الجديد الذي يراد صنعه؛ وبذلك فقد غلبت لديهم أحيانا اعتبارات الطهورية ذات الأصول غير التقليدية، التي لم تألفها مجتمعاتنا؛ بينما ظهرت لدى الإسلاميين الاعتبارات العملية (ولا أقول غير الأخلاقية، لأن الأمر يتعلق بالوعي وليس بالسلوك)، أي الاهتمام بالدور والموقع فيما يستقبل من الزمان. وهكذا فعندما يتجاوز الأمر النموذج والمثال، فإن المدني يتصرف كما كان ينبغي أن يتصرف الإسلامي، والإسلامي يتصرف كما كان ينبغي أن يتصرف المدني! وهذه ليست أحجية، لأن التطورات ما وصلت حتى اليوم إلى مآل، وقد يحتاج الأمر إلى سنوات لتتبلور المعالم كلها والتي لا يمكن التنبؤ بها مسبقا. وإنما بالوسع القول دونما ابتسار أو استباق، إن السؤال الأخلاقي ظل مهما لدى الطرفين، وهو ما لم تعرفه ثورات الشباب في العالم المعاصر بنفس القدر والدرجة.

هل هناك مبرر للخوف من أن تحدث الفوضى أو يعود الاستبداد؟ لقد كان السؤال الأخلاقي رئيسيا في حضارتنا العربية الإسلامية. وقد أظهرت حركات التغيير أنه لا يزال حاضرا وقويا ولدى سائر الفرقاء. ولذا فلا خوف في تقديري من الفوضى بالمعنى المسيء للأخلاق (انتهاك حرمات الدم والملك والشرف في المجال العام). وقد كان هذا الشأن ذو الطابع الأخلاقي بين أهم ما أخذ على الأنظمة التي كانت سائدة. فأكبر الاتهامات التي وجهت وتوجه للجمهوريات الخالدة أن «الفساد» يشيع فيها، وأنها تنتهك أعرافا أخلاقية عامة وسط دعواها للطليعية وأنها لا تأبه للتقاليد الرجعية. إنما تدخل بلدان التغيير في هموم وصراعات وتنافسات إعادة تكوين السلطة أو السلطات. والظروف هذه والتي تحفل بالتنافسات فيها الكثير من المزايدات، وقد تحدث فيها انفلاتات غوغائية وسط غياب قوات الأمن أو ضعفها، ووجود بقايا من مراكز القوى السابقة. وهذه الاختلالات في المرحلة الانتقالية والتي قد تطول تشجع دعوات العودة للاستقرار بأي شكل، فيستفيد من ذلك مستبدون جدد.

يميل الغربيون دائما إلى ربط التغييرات الثورية نسبا بإحدى الثورتين الفرنسية أو الروسية. أما التغييرات الراديكالية بالمشرق، فيسدلون عليها أحد رداءين: الثورة الإسلامية في إيران، وتحركات «القاعدة» والجهاديين. والواقع أن الأنظمة التي تنقضي الآن في مشرق العالم العربي ومغاربه، هي – شأنها في ذلك شأن أنظمة في أميركا اللاتينية - ذات نسب أوروبي قريب أو بعيد. أما حركات التغيير العربية الجارية، فتملك وعيا مختلفا وثقافة مختلفة، ولذا فإنها تملك أخلاقيات مختلفة تشكلت في ظروف العولمة والصحوة معا. واستطرادا؛ فإنها مختلفة في الأصل والمنزع والمآل (= الدخول في العالم) عن الثورة الإيرانية (= الأصالة والعودة للجذور)، وعن «القاعدة» (= التمرد المسلح على الهيمنة الأميركية). لقد بلغت الأزمة في محيطنا الإنساني والسياسي حدودا عظمى رمزية وأخلاقية. ولذلك فإن التغييرات الحاصلة حملت في قلبها وعقلها معاني أخلاقية، يجري توظيفها في عدة اتجاهات. وتبقى التباسات الفوضى والاستبداد، لكنها التباسات واحتمالات مؤقتة، سيحول دونها في الغالب الطابع الأخلاقي الصارم لهذه الحركات المدنية الواعية.