مقاربات أولية حول مفهوم الأصولية

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

لعل التساؤل الرئيس الذي يشغل أغلب الباحثين المهتمين بظاهرة «الأصولية» يمكن تلخيصه فيما يلي: كيف ولماذا تنبثق الأصوليات - أو لا تنبثق - لدى أمة من الأمم دون غيرها، أو في منطقة ثقافية معينة، أو تشكيلة اجتماعية ما؟! ولماذا تهتز وتنكمش قاعدة التجديد والاجتهاد في بقعة جغرافية ما، فيما تتسع ضمن مناطق أخرى مرت تقريبا بمجمل الظروف والملابسات التاريخية ذاتها؟! وهل الأصولية ظاهرة عامة في كل دين؟ أم أنها سمة مميزة للفكر الإسلامي على وجه الخصوص؟! وما موقف الأصولية الإسلامية من قضايا العلمنة والديمقراطية والحداثة والتعددية؟! بداية يمكن القول: إنه لا يوجد مفهوم بيّن بإطلاقية البيان، مثلما لا يوجد مفهوم غامض بإطلاقية الغموض. فالمفاهيم تولد وتحيا وتموت وتبعث، وتتكرر دورات اشتغالها بين حقل وآخر، كما أنها تنتج دلالات لا تخضع بسهولة للتحديد، مثلما تنتج ظلالا عديدة لا يمكن تحديدها قط. أما ما يحدد ضرورتها في وقت دون آخر، وفي حقل دون غيره، فهو إمكان قابليتها لأن تكون جزءا من عتاد تستدعيه ضرورة التداول المعرفي في حقبة تاريخية محددة.

وإذا كانت النزعة الأصولية حاضرة بلا انقطاع في كافة البنى الآيديولوجية ذات النمط الكنسي، حتى لو كانت علمانية!، وإذا كانت تتوقف في حدة مظاهرها على الصدف إلى درجة كبيرة، خاصة في العالم الأدنى أو الخارجي عن الجماعة، فإن هنالك - على الرغم من ذلك - شروطا يجب توافرها في البنية الأساسية لأية أصولية بإمكانها أن تشجع من تطور هذه السيرورات، أو أن تجعلها أكثر صعوبة، أو أن تكبحها على حد سواء.

لكن قبل أن يأخذنا الحديث عن شروط الظاهرة وفوارقها ينبغي أن نؤكد أولا أن تداولية المفاهيم تفضي إلى انخراطها وتورطها. بمعنى آخر، إرادتها في أن تتجاوز الممكن المنفتح دائما بالركون إلى الالتزام باتجاه محدد. خاصة أن مفهوم الأصولية يواجه مشكلة كبرى فيما يتعلق ببيئته وتوطينه، أي قابلية أن يأخذ مكانه في الحقل الذي تم التفكير فيه لأجله. فبدلا من ذلك نعثر في هذه العملية المتسمة بالتقدم والاطراد على ما يطلق عليه البعض لقب «التغذية الارتجاعية» التي تبقى على حالها من التناوب ما بين المتن والأدوات.

على أن هذه التغذية الارتجاعية إنما تذهب في هذه الحالة إلى مصدر المفهوم لا إلى المفهوم نفسه. بمعنى أن أدائية المفاهيم تتحول عندنا من الشأن الفكري المحض إلى الشأن السياسي المحض! وتلك هي المفارقة الكبرى التي يبدو أن الثقافة بدونها تفقد ممكناتها، فكلما كانت المفاهيم أصيلة، تفعّل المتن الثقافي العام واتسم بالأصالة، ولكنها بقدر ما تكون مستعارة، بقدر ما يصيب ذلك المتن حال من الازدواج في أدائه.

أما فيما يتعلق بظهور مصطلح «الأصولية» تاريخيا، فثمة من يرجع ذلك إلى بروز الأصولية الحديثة في الغرب كحركة بروتستانتية إبان القرن التاسع عشر بعيد مؤتمر نياجرا 1895، الذي انعقد وقتها بقصد إحياء ألأفكار المتعلقة بعقيدة المجيء الثاني للمسيح (عليه السلام) مجيئا حرفيا حقيقيا.

أما على المستوى الأكاديمي، فقد ورد المفهوم في أول توثيق له في المعاجم الإنجليزية العام 1950 في قاموس أوكسفورد. مع إقرارنا أن الأصولية، كحركة أو كتيار أو اتجاه، ليست جديدة إلى هذا الحد؛ وبالتالي فإن الأصولية كونها عملية إضفاء لصفة صبغة الديني على ما هو سياسي لا يمكن نسبتها في سياق الحضارة الإسلامية إلا إلى التأسلم؛ إلى الادعاء لا إلى الدين نفسه.

أما جيمس بار، وهو مرجع أساسي في الأصولية، فيرى أن الكلمة جاءت من عنوان سلسلة نشرات أو كتيبات سميت بـ «نشرات الأصول وخلفاؤهم المباشرون»، والتي ظهرت في الولايات المتحدة الأميركية خلال الفترة 1910 - 1915، واستخدم فيها مصطلح «الأصول» ليعني عناصر العقيدة التقليدية، أي النص كوحي وسلطة والقول بألوهية المسيح وغيرها من الثوابت التي يراها الأصوليون المسيحيون اليوم. لكن إلى جانب ذلك؛ ثمة أيضا مرجعية مسيحية أخرى للأصولية وهى البروتستانتية التي نشأت في الولايات المتحدة الأميركية إبان العشرينات من القرن الماضي.

وفي كل الأحوال، فإن الأصولية المسيحية - كظاهرة فكرية لها سمات خاصة - تتلخص في ثلاثة أمور هي: الشمولية، والنصوصية، والانحياز المطلق. فالشمولية تعني أن جميع الأسئلة التي تفرضها الحياة الخاصة والعامة تجيب عنها تعاليم الدين أو الآيديولوجية. أما النصوصية؛ فتعني أن النصوص المقدسة تؤخذ حرفيا، ومن دون الدخول في تأويل أو تفسير بما يعنيه من استكشاف ملابسات أو طرح تساؤلات.. إلخ. أخيرا يعني الانحياز الرفض المطلق لأي مساءلة نقدية لمنظومة المبادئ التي يعتقدها الأصولي، مع ما يقتضيه ذلك من رفض كل ما عداها.

وتبعا لذلك؛ يصح القول: إن الأصوليات المعروفة كافة تلتقي حول فكرة رئيسية مفادها أن النص المرجعي بالنسبة لكل واحدة منها يحتوي على مجموعة من الحقائق الحية الخالدة، والتي هي صالحة لكل زمان ومكان كمؤشر وضمان لمعصوميتها من الخطأ. لذلك تعتبر الأصولية الكتاب أو النص الذي يتخذ كمرشد مكتف ذاتيا، بمعنى أنه توجد فيه كافة الإجابات عن كل الأسئلة الحاضرة أو القادمة على حد سواء.

أما فيما يتعلق بمجال عمل المفهوم، أو حقل تأثيره، فإنه موزع بالتساوي تقريبا ما بين الدين والسياسة. ومن ثم، فمع إقرارنا بصحة أن الكثير من المفاهيم عادة ما تفقد فعاليتها إذا ما جردت من منظوماتها وحقول عملها واشتغالها، فإن مفهوم الأصولية بالذات لا يعني شيئا خارج التوظيف السياسي له وتلك مفارقة أخرى قلما يلتفت إليها كثير من الباحثين.

وتبعا لمكسيم رودنسون؛ فإن العامل الأساسي الذي يشجع على اللجوء إلى الأصولية السياسية في الإسلام هو دستور جماعة المؤمنين بسبب الشروط التاريخية لتشكل الجماعة الأولى ضمن بنية سياسية - دينية (دولة المدينة). لكن رغم ذلك، خلقت المسيحية - على عكس الإسلام - بنى مزدوجة وإن بدت مترابطة بصورة وثيقة. فمن ناحية، لا تملك جماعة المؤمنين في المسيحية، من حيث المبدأ دعوة سياسية بالمعنى الخالص للكلمة لسبب بسيط هو أن مملكة المسيح ليست من هذا العالم في شيء مما يوجب على المؤمنين برسالة يسوع أن يردوا ما لقيصر لقيصر.

أما في الإسلام، فإن الإغراء الأصولي يتمتع بحيوية لا تقارن، حيث تشكل العودة إلى المنابع عودة إلى ظروف أسبغت عليها مسحة أكثر أسطورية حينما كان النبي (عليه الصلاة والسلام) يقوم على رأس دولة المدينة. وعلى عكس ذلك، نمت الكنيسة خلال ثلاثة قرون قبل قسطنطين دون أن تحاول السيطرة على الدولة ودون أن تفكر في ذلك ولو بصورة أولية.

ضمن هذه البنى - ذات النمط الكنسي إذن - نشأت الأصولية الغربية فاستنبطت فئة الواجبات المفروضة على كل منتم إليها، على حين حدد قادة الجماعة آفاق العمل الجمعي كلية. وبموازاة ذلك، تعبئ الحركات الرمزية والطقوس/التعاليم التي تتكرر إلى ما لا نهاية، وبدون انقطاع، حماسة «المؤمنين».

يتحصل مما سبق، أن الإشكالية الرئيسية فيما يتعلق بـ «الأصولية الإسلامية» إنما تكمن في أنها مصطلح يختزن تجارب ورموزا وإيحاءات لا علاقة لها بنا، بل مرتبطة بالتاريخ الأوروبي وبثقافة مسيحية نصية، تلتزم النصوص حرفيا وتعكس أحيانا التوسط بالعنف لتحقيق أهدافها. فكلمة أصولية هي ترجمة رديئة لكلمة Fundamentalism التي تعني في المعاجم: مذهب العصمة الفردية وذلك نسبة إلى حركة بروتستانتية! ووفقا لهذا الطرح، نحن أمام مصطلح غربي يحمل إيحاءات مسيحية غربية، وبالتالي فعندما يطلق الغربي على المسلم صفة الأصولية فإنه لا يترك أدنى مساحة تذكر لأي إيحاء إيجابي وفي ذلك نفي ورفض للتعددية. وفي هذا الإطار، عادة ما يتم التركيز على مسألة خصوصية واختلاف التجربة الأوروبية المسيحية عن نظيرتها الإسلامية وصولا إلى القول بأن هذا الأمر قياس مع الفارق لا يصح الأخذ به، كما الشأن فيما يتعلق بمسألة العلمانية.. وتلك قضية أخرى!

*كاتب مصري