ليوناردو بوف.. من لاهوت التحرير إلى لاهوت البيئة

إميل أمين

TT

هل باتت الكرة الأرضية في خطر حقيقي يمكن أن يتهدد حياة البشر عليها؟

يبدو أن ذلك كذلك، والدليل واضح للعيان في حالة الاحتباس الحراري، والتغيرات المناخية المثيرة والخطيرة، التي باتت تلم بالبسيطة، الأمر الذي دفع ليوناردو بوف إلى القول إنه «لن تكون هناك أي سفينة نوح هذه المرة» في إشارة إلى الوسيلة التي تم بها إنقاذ البشرية في زمن الطوفان العظيم كما في القصص الدينية.

من هو ليوناردو بوف الآتي من أقاصي البرازيل الذي يطلق تلك الصرخة إما أن ننقذ أنفسنا معا.. أو نهلك معا؟

لمن لا يعرف الرجل فهو أحد رموز حركة التيار الديني في أميركا اللاتينية، التي عرفت باسم لاهوت التحرير، وكان ينتمي في السابق إلى الرهبنة الفرنسيسكانية، وقد دخل في مواجهة فكرية مع الفاتيكان، الذي ألزمه الصمت لسنوات اعتراضا على توجهاته الفكرية والدينية، وإن لم يمنعه ذلك من البحث والدرس والكتابة والتأليف ليضحى أحد أهم اللاهوتيين والناشطين البيئيين في أميركا اللاتينية، ويقوم بتدريس علم الأخلاق وفلسفة الدين وعلم البيئة.

والحق أن حديث ليوناردو بوف الأخير يؤكد أن حركة لاهوت التحرير لا تزال فاعلة نشطة في القارة اللاتينية، رغم مرور نحو أربعة عقود على انطلاقها، وحديثه يؤكد كذلك أن رجل الدين لا ينفصل في آماله وآلامه عن بقية الخليقة وأوجاعها وفي مقدمتها «أمنا الأرض».

يلفت بوف إلى النتائج الحتمية للرأسمالية المتوحشة التي يدفع الآن ثمنها الفقراء والمستضعفون في الأرض، ذلك النظام «الذي خلق المشكلة، والذي لن يخرجنا منها لأن كل بلد يريد أن ينمو كل عام ويدمر الطبيعة، ويرفع الانحباس الحراري، ولهذا فهو نظام معاد للحياة».

وكمثال على خطورة الوضع الراهن يذكر بوف بأن «هناك مناطق في العالم قد تغيرت كثيرا بحيث كادت تصبح غير صالحة للعيش والسكن، لذا فهناك 60 مليون مشرد في أفريقيا وجنوب شرقي آسيا، وهم الأكثر تضررا والأقل تلويثا».

وعنده أنه «إذا لم نوقف هذا الوضع في السنوات الخمس أو السبع المقبلة لبلغ عدد لاجئي المناخ 100 مليون نسمة، وهذا سيخلق مشكلة سياسية».

والشاهد أن تصريحات بوف فرصة تذكرنا بالدور الواجب على أتباع الأديان اتخاذه في سبيل الدفاع عن الكرامة الإنسانية، وعن احترام الكوكب الذي يأوي الإنسان، وبخاصة بعد أن بات البشر يستهلكون 30 في المائة أكثر من طاقة الأرض وقدرتها على تجديد الموارد، وهذا يعود بنا إلى مناقشة أهم الخطوط العريضة التي ينطلق منها فكر بوف، كما جاءت في كتابه الذي سبب له قلاقل كثيرة في أوائل السبعينات مع الفاتيكان (يسوع المسيح المحرر) دراسة نقدية لعلم المسيح».

غير أن مصطلح «لاهوت التحرير» ربما يلفت انتباه القارئ للوهلة الأولى ويتساءل «ما هو؟».

يمكن القول إن «لاهوت التحرير» هو الرؤية الثورية للقراءة الإنجيلية، وهو يرى أن المسيح هو محرر الشعوب التي ترزح تحت وطأة الظلم، مشددا على أن تطبيق الإيمان المسيحي يتم بمساعدة الفقراء والدفاع عن المظلومين من خلال الانخراط في السياسة والعمل الاجتماعي، وربما العسكري.

ويصف ديزموند توتو أسقف جنوب أفريقيا على اختلاف توجهاته العقائدية مع الكنيسة الكاثوليكية، لاهوت التحرير بـ«أنه ليس مجرد تمرينات ذهنية، أو هذيان فكري، فالقضايا التي يطرحها قضايا حياة أو موت، هو يحاول أن يعيد إلى ضحايا القهر إنسانيتهم المفقودة».

وإذا كانت الستينات تاريخيا هي الموعد الذي انطلقت فيه تلك الحركة اللاهوتية إلا أن واقع الحال يشير إلى قدم ذلك الصراع داخل الكنيسة وفي أوساط مسيحيين كثر ما بين تعاليم المسيح التي تحث على الرحمة والمغفرة والصفح وبين عبادة رأس المال، التي فرضتها فلسفة السوق في العالم الغربي، ولأجلها سخرت الجيوش ورؤوس الأموال لإذلال وإضعاف العالم.

ومع ذلك يمكن القول إن الستينات تاريخيا كانت موعد التجديد داخل الكنيسة الكاثوليكية، بسبب انعقاد ما عرف بالمجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني 1962 - 1965 «وقد شهد هذا المجمع الشهير مواجهات حادة بين التيارات اللاهوتية المحافظة، وبين الداعين للحداثة والتجديد في أروقة الفاتيكان، وخرج في نهاية الأمر بصبغة توافقية ظهرت معالمها في ما عرف بـ«الدساتير المجمعية» وأبرزها (فرح ورجاء)، الذي تميز بانفتاح الكنيسة على العالم، والذي ساهم بصياغته الأسقف البرازيلي دوم هلدر كامارا، أحد أعلام تلك المدرسة اللاهوتية».

والشاهد أن هذا التيار قد لقي مجابهة شديدة من البابا يوحنا بولس الثاني الراحل، ومن البابا الحالي بنديكتوس السادس عشر لخوفهما من دخول أفكار ماركسية أو شيوعية إلى أوساط المؤمنين، لكن القراءة المعمقة لتلك الحركة تعكس أن تلك المخاوف كان مغالى فيها، والدليل أن النظرة لـ«لاهوت التحرير» ولاهوتيه ومفكريه قد أخذت لاحقا في التغير بدرجة أو بأخرى.

ما الذي يقوله ليونارد بوف في كتابه المشار إليه سلفا وماذا يعكس؟

يتبنى بوف طريقة جديدة في التفسير للمفهوم والمنظور الإيماني، يمكن تلخيصها في عدة نقاط من أهمها:

* أولوية علم الإنسان على علم الكنيسة، لأن الاهتمام الأول ينصب على الإنسان الذي سلبت إنسانيته، أكثر من أن ينصب على الكنيسة التي لا يمكن أن تقوم بنيتها الحقيقية إلا من منطلق هذا الإنسان، في ضوء فهم الإنجيل الخلاق والمحرر.

* أولوية «اليوتوبي» على «الواقعي» واليوتوبي هنا هو الأمل والرجاء، لا الأوهام التي يجب أن يولدها الإيمان بإمكانية تغيير الوضع الظالم، والانفتاح على مستقبل مشرق، وهذا لا يعني إهمال الواقع بل تجاوزه إلى ما هو أفضل.

* أولوية ما هو «نقدي» على ما هو «عقائدي» لأن العقيدة جامدة بطبعها تدافع عن المؤسسات وتبرر وجودها، والظرف الحالي في أميركا اللاتينية يحتاج إلى تطوير المؤسسات الكنسية، وتطوير فهمها للإنجيل بطريقة جديدة تتماشى مع التغيرات التاريخية فتصبح أولوية النظرة النقدية أمرا ملحا.

* أولوية الاجتماعي على الشخصي، لأن الخلاص لا يقتصر على التحول الشخصي، بل إن هناك ظواهر اجتماعية مرتبطة به، كوجود فئات عريضة من الناس لا صوت لهم، يفتقرون إلى أبسط حقوقهم من السكن والتعليم، ومن هنا يصبح البعد الاجتماعي، ضرورة تسبق البعد الشخصي، وإن لم تهمله.

ومما لا شك فيه أن الحديث عن لاهوت التحرير كفكر ومنطلق إنساني أوسع وأعمق من أن يشار إليه في سطور بتحليلاته ونقده ورؤاه، غير أن السؤال المرتبط بفكر بوف كما يتضح بين ثنايا كتابه.. هل وصلت الأمور على الأرض إلى الدرجة التي بات يرى معها اللاهوتيون خطورة تمثل، أو تماثل إن شئت الدقة، مرحلة الطوفان في زمان نوح وبنيه؟

نقرأ في الأساطير الإغريقية والرومانية القديمة، أنه عندما كانت الأرض تصل إلى حافة الدمار الشامل، كان الحل يأتي بأن تنزل الآلهة درجة من الأعلى لتسوية الأمور وإعادة كل شيء لمكانة من دون دمار، غير أننا لسنا بعد في زمن الأساطير، وإن كان الدمار بدوره قريبا، ولهذا يتقدم علم الإنسان على علم الكنيسة، وعلى بحوث اللاهوتيين ومجادلاتهم الثيولوجية، وباتت تيارات إيمانية عريضة ترى أن التلوث البيئي الذي يؤدي بالخليقة إلى التهلكة اليوم، هو انتهاك للوصايا العشر، وأنه ما لم يعد تصحيح أخلاقيات ومعتقدات وتصرفات الناس تجاه البيئة، فإن الهول الأعظم قادم ولا شك، لا سيما إذا لم تستفق الدول الصناعية الكبرى.

والمقطوع به أن السبب الوحيد الذي أدى إلى أن يقوم الإنسان بقطع أشجار الغابات بوحشية واستهلاك المياه الجوفية بغزارة وإطلاق غازات كيمائية بكثافة في الجو، إنما هو أن الإنسان نسي أن الطبيعة شيء مقدس عند الخالق، خاصة أن الذين يتخذون القرارات في العالم، هم في الغالب أشخاص غير متدينين، ولا يرون في العالم إلا مكاسب مادية وأرباحا وخدمات، تعتبر أهم من الالتزام بالأخلاق الدينية ومنها احترام الطبيعة.

أين يوجد الحل الإنساني والإيماني في مواجهة غياب سفينة نوح، وتهديد وجه الأرض مرة جديدة بفعل إنسان القرون الحديثة، وتسلطه العنفي غير الآدمي؟

بحسب رؤية بوف، يوجد في نضال شعوب الأرض الأصلية، من أجل تغيير العلاقة مع الطبيعة، «فالأرض عنده» كائن حي يجب احترامه ورعايته، وليس فقط استغلاله. وهذا هو عكس الرؤية المسيطرة على السياق الاقتصادي: فمثلا يعني بيع أرصدة كربون ضمان حق مواصلة التلويث ولهذا نرى اللاهوتي البرازيلي يقرر «أن المجتمعات المهيمنة تنظر إلى الأرض اليوم كصندوق للموارد، يمكن الأخذ منه إلى أجل غير مسمى» وأن «الفارق الآن هو أنها تواصل انتزاع هذه الموارد ولكن مع السعي لضمان استدامتها لأنها شحيحة».

هل يمكن لأساطين الرأسمالية التي تسعى للهيمنة عبر أدوات بعينها للسيطرة على مقدرات البشر، أن تعير التفاتا لرؤية لاهوتي بوزن بوف؟

قطعا لا، فكيف لمن يريدون أن يصبغوا - على سبيل المثال - القرن الحادي والعشرين بصبغة أميركية بالمطلق أو لدولة مثل الصين، لا همّ لها سوى الحصول على المواد الخام من العالم قاطبة، في صراعها القطبي مع الولايات المتحدة الأميركية، أن تنظر أو يجب أن تنظر إلى الأرض «باعتبارها امتدادا لجسمها، وحاجة لضمان هويتها» عوضا عن أن تنظر إليها - كما الحال الآن - على أساس أنها فقط أداة من أدوات الإنتاج؟

ولعل علامة الاستفهام التي نطرحها في هذا المقال على الكنيسة ورجالاتها، مخلصين التساؤل والبحث عن جواب وترياق شاف «هل حان الوقت للانتقال من زمن لاهوت التحرير إلى لاهوت البيئة؟» هل هذا هو الوقت الذي يجب أن تتدخل فيه الكنيسة بكل قواها الروحية والأخلاقية والأدبية لحث مؤمنيها على إنقاذ الأرض واحترام البيئة؟

الثابت أنه في عام 1983 شهدت مدينة فانكوفر في ألمانيا «جمعية عامة» لمجلس الكنائس العالمي، كان شعارها «العدالة والسلام ووحدة الخليقة»، فقد رأى المجتمعون أنه من الواجب النظر إلى المشكلات البيئية، بالعلاقة مع العدالة والسلام، مثل مسألة نزع السلاح النووي في العالم.

في هذه الجمعية العامة المسكونية وما بعدها من جمعيات عامة تحولت نظرة المسيحيين - أو هكذا كان يجب - من نظرة استثمار ثروات الأرض لمنفعة الإنسان، إلى نظرة أكثر شمولية، تلك التي تحترم قيم كل الخليقة، بما فيها الكائنات الحية وغير الحية، ومسؤولية الإنسان في الحفاظ على شمولية الخليقة، أي البعد الكوني، انطلاقا من أن محبة الخالق تنسحب على كل الخليقة، وليس على الإنسان وحده.. هل لقيت هذه الدعوة تجاوبا في العالم الصناعي الغربي؟

يكشف روبرت ريبيتو أحد أبرز علماء الاقتصاد البيئي الأميركيين عن الخديعة الكبرى التي يقوم عليها قطاع الطاقة الأحفورية والمتمثلة في إنفاق ملايين من الدولارات سنويا للضغط على الكونغرس وتمويل جماعات تضليل الرأي العام وتغطية الساسة الذين يمولهم بغية التشكيك في مدى خطورة التغير المناخي.

ويشدد ريبيتو على «أن الوقت ينفد وأن العالم يجازف بمواجهة مخاطر لا يمكن السيطرة عليها».

هل لذلك تبقى صرخة ليونارد بوف هي الأعلى صوتا.. أنقذوا الأرض.. ما من سفينة نوح ثانية؟

* كاتب مصري