مشكلات الاستنزاف ومشكلات التحول لدى أهل السنة

رضوان السيد

TT

بين يدي كتاب يحمل عنوانا ضخما ومفزعا، هو «غروب أهل السنة» «Debora Amos: Eclipse of the Sunnis»، إنما عندما نستعرض فصول الكتاب، نجد أنه يعني بذلك ما حدث في العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003، وتأثيراته على السنة بالعراق وسوريا ولبنان وفلسطين. فالمؤلفة تقول إنه فضلا عن تفكيك الدولة العراقية وصولا إلى ضرب هيكلها العظمي، فقد تهجر من العراق زهاء الأربعة ملايين معظمهم من السنة. واقترن ذلك بمحاولة بناء دولة شيعية بالعراق، التي ترافقت مع صحوة شيعية ونهوض شيعي بسائر أنحاء العالم الإسلامي، وعلى الخصوص الشرق الأوسط والخليج. ذلك أن زوال سلطان صدام حسين إنما حرم السنة بالمعنى الاستراتيجي والتدريجي من أمرين: قيادة العالم العربي والقومية العربية، وقيادة الإسلام الذي يشكل أهل السنة فيه أكثرية في كل مكان! وتذهب ديبورا أموس إلى أن لهذا الانحسار السني أسبابا إضافية؛ من مثل فقد السلطة في العراق، وفي سوريا، وتراجع النفوذ في لبنان، والانكماش في مصر، والانقسام في فلسطين - والهجمة الأميركية من جانب إدارة الرئيس بوش ومحافظيه الجدد - وردة الفعل السنية العنيفة على ظواهر ومظاهر الانحسار من طريق «القاعدة» والتنظيمات المشابهة، وهو الأمر الذي أحدث إرباكا شديدا، وعرض الإسلام السني لهجمة عالمية! وقد لاحظت المؤلفة أنه في كل مكان خسر فيه السنة، حل محلهم الشيعة الذين تقودهم إيران، وبموافقة الولايات المتحدة أو دون موافقتها. وما اختلت العلاقة الإيرانية - السورية طوال العقود الثلاثة الماضية، رغم ما يحاول النظام في سوريا الإيهام به من استقلالية في السياسة الخارجية، وحمل لشعارات القومية العربية.

يقع كتاب ديبورا أموس في أكثر من مائتي صفحة، وهي تسلك فيه سلوكا سرديا قصصيا في تصوير الشخصيات والأحداث، ولذلك قد لا تكون هذه الخلاصة معبرة بدقة عن أطروحتها، لكنني أرى أنها لا تخرج عن الخطوط الكبرى التي عرضتها. وكما هو واضح مما ذكرنا؛ فإن مقاربتها مقاربة سياسية، وبؤرة التركيز هي ما جرى بالعراق، ولجهتين: فقد السلطة، واختلال الديموغرافيا. إنما الذي يفوت السيدة أموس هو أن أكثر البلدان العربية والإسلامية التي نالتها معاناة من الولايات المتحدة أو إسرائيل أو إيران، هي ذات كثرة سنية كبيرة، ولذا فإن الذين في السلطة وخصومهم هم من السنة. إنما الذي يحصل أن بعض أهل السطوة يتحالفون مع الولايات المتحدة، بينما يتحالف آخرون مع إيران. وهذا «الواقع» دخلت عليه في السنوات والشهور الأخيرة ثلاثة عوامل: محاولة مجلس التعاون الخليجي ملء الفراغ الاستراتيجي الذي تحدث عنه وزير الخارجية السعودي في مؤتمر القمة بسرت الليبية وتغير سياسات الولايات المتحدة بالمنطقة وصعود حركات التغيير العربية. وهذه كلها عوامل مستجدة لا تلغي ما حدث بين عامي 2000 و2010، لكنها تدفع الأحداث في اتجاهات أخرى مغيرة بذلك في عناصر الفعالية والتأثير.

إن الذي أريد الذهاب إليه، حتى لو اتفقنا مع المؤلفة في بعض تهويلاتها، أن هذه المتغيرات ليست ثوابت، وإنما هي نتاج سياسات تتغير وتتبدل، شأن العوامل الثلاثة التي ذكرناها. بيد أن العوامل الأبقى - ما دمنا نتحدث عن أهل السنة - هي ذات الصلة بالمسائل الدينية. ولا شك أن السلطات السياسية - في العقود الأربعة الأخيرة - ما كانت بشوشة مع الإسلام السني على الخصوص، لكن الضعف - إذا صحت تسميته كذلك - ما نجم عن سياسات الولايات المتحدة أو إيران أو الأنظمة وحسب؛ بل نجم بالدرجة الأولى عن انقسام أهل السنة من الناحية الدينية إلى ثلاثة اتجاهات، إن لم نقل ثلاث فرق: السلفيون والصوفية والإخوان المسلمون (وخارج المجال العربي: الجماعة الإسلامية). وقد بدا الإخوان المسلمون بأكبر من حجمهم، لأنهم مارسوا المعارضة العلنية للأنظمة القائمة، كما قادوا نضالا ثقافيا ضد الغرب والتغريب، وإقامة خطط للنموذج الإسلامي الكامل. فقد تملكت «الإخوان» والمودودي (= الجماعة الإسلامية)، الفكرة القائلة إن الدين سيكون مهددا إن لم يؤثر في الشأن العام أو يسيطر عليه. ولذا فإن الصدام مع الأنظمة ما كان مصادفة، بل سعى إليه الطرفان أو اضطرا إليه. وكانت تجربة «الإخوان» السياسية جديدة في الإسلام السني، لأنهم حملوا مشروعا سياسيا مستقلا عن مشروع الدولة الوطنية القائمة، ولأن هذا المشروع اتخذ سمات عقائدية، شأنه في ذلك شأن العقائديات القومية واليسارية فيما بين الخمسينات والسبعينات من القرن الماضي. وقد أهمل «الإخوان» الظاهرة الصوفية، اعتقادا منهم بأن الحداثة كفيلة بالقضاء عليها. وانصرفوا لمناقشة السلفية والتغلغل فيها، وبخاصة أنهم اضطروا إلى اللجوء إلى الخليج من مصر والشام، ووجدوا هناك السلفية المتحالفة مع الدولة. وتملك السلفية مقولات طهورية في تصحيح العقيدة والعبادة، لكنها لا تملك نظرية سياسية مستقلة، وإنما تطيع ولي الأمر الذي يطبق الشرع. وقد تلاقح الطرفان في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، وأفاد «الإخوان» من السلفية الطهورية عقدية مزيدة، كما أن بعض شبان السلفية تسيسوا تحت تأثير أهل الصحوة الإسلامية هؤلاء. ولأن تسيسهم كان حادا، فقد مضوا مباشرة من الحاكمية إلى الجهاد. فابن لادن أثر في الطهورية (= مسألة الفسطاطين)، وأيمن الظواهري المصري الجهادي، أثر في الاندفاعية نحو مقاتلة الأنظمة ورأس الكفر العالمي في الوقت نفسه! وإذا كان الإخواني مسؤولا عن النظرية؛ فإنه ما كان مسؤولا عن الممارسة. كما أن التمرد الجهادي بداخل السلفية ووجه بعنف من جانب سلفيي الدولة والسلفيين التقليديين. وفي كل الأحوال؛ فإن العلائق بين «الإخوان» والسلفيين على اختلاف ألوانهم ساءت، كما أن «الإخوان» خاضوا جدالات دامية أحيانا مع الجهاديين. وهنا تأتي نقطة التقاطع مع دراسة ديبورا أموس، فالتمرد من جانب بعض شباب السلفية، أفضى إلى صراع عنيف وعالمي، أضعف فيه الإسلام السني إضعافا شديدا، ليس نتيجة الهجمة الأميركية فقط؛ بل بسبب ضياع الاتجاه. فما عاد بوسع المسلمين الذين لا يقولون بالعنف رفع أصواتهم بسبب اقتران الهجمتين الأميركية والصهيونية، وتصوير ذلك باعتباره ردا على هجمات الجهاديين والمتطرفين. وهكذا كان على الجمهور والسلطات اتخاذ موقف. وقد اختارت السلطات الانضمام إلى «الحرب على الإرهاب» لأن الجهاديين لم يوفروها. أما الجمهور فقد كانت عواطفه مع الجهاديين، لكنه ما كان يقر العنف، ولا الخراب الذي أحدثه الأميركيون والجهاديون معا. ومن هذا الباب دخل الإيرانيون الذين بدوا الطرف الأوحد الذي يتجاذب مع الأميركيين والإسرائيليين بالمنطقة، واستتبعوا الإسلام السياسي السني، ونشروا مناطق نفوذهم (تحت اسم المقاومة) في بلاد الشام والخليج، وحتى مصر. فالضعف السني إذا كان سببه القريب المتغيرات الجيواستراتيجية الأميركية والإيرانية؛ فإن سببه أيضا التمرد الذي حدث في قلب السلفية - وهي عصب أهل السنة - بحيث انكسرت الشوكة الناجمة عن التوحد. ونصل إلى الاتجاه الثالث أو الفرقة الثالثة (والحقيقة أن مصطلح الفرقة بالمعنى القديم لا ينطبق إلا على الإخوان المسلمين)، وأعني بهم الصوفية. فبخلاف ما اعتقد السلفيون و«الإخوان»؛ شهد التصوف في الخمسين سنة الماضية، إحياء ونموا ما توقف حتى الآن.. إذ هو يبشر بالحياة الهانئة والمسالمة، في علائق ود مع المولى سبحانه، ومع بقية فئات المجتمع. وقد كانت العقود الماضية شديدة الاضطراب، والتصوف يؤمن ملاذا هادئا فيه أوهام، لكن فيه اطمئنانا إلى تدخل الله عز وجل لإصلاح الأمور.

إن الظاهرة الأساسية التي سوف تؤثر في أوضاع أهل السنة دون شك، هي ظاهرة نزول الجمهور السني إلى الشارع في سائر البلاد العربية على وجه التقريب. وبذلك فإن الجمهور ما اختار الأنظمة الجمهورية الخالدة، ولا اختار ميراث «القاعدة»، وإنما نزل إلى الشارع لممارسة شأنه العام بنفسه، بعد غياب طال لأربعين عاما وأكثر. وقد اختار «الإخوان» والصوفية الانضمام إلى هذا الجمهور، رغم اختلاف الأهداف. أما السلفيون فقد أظهروا قلقا شديدا، وما استطاعوا التسليم للجمهور بالمرجعية، وانصرفوا لملاحقة المسيحيين من أجل تطبيق الشريعة عليهم. وهذا دليل على المتغيرات الهائلة التي حدثت، فقد كان السلفيون دائما هم «فقهاء العامة»، لكنهم الآن يتهمون العامة والنخب معا. والذي أراه أنهم مضطرون إلى التلاؤم، أو تكسر نوافرهم بسطوة الأنظمة الجديدة التي تنشئها العامة، والتي لا يمكن معاداتها.

هل يخرج الإسلام السني من أزمته؟ ما عادت هناك أسباب جيوسياسية تحول دون ذلك.. لكن الخروج الفكري والثقافي والسياسي، يحتاج إلى نهوض وإصلاح، يدع فكرة الفسطاطين جانبا، وينطلق على وقع «التعارف» القرآني.