في أوقات المحن والأزمات يفر المرء أحيانا من الحاضر بآلامه إلى المستقبل بآماله، وفي أحيان أخرى إلى الماضي، سيما إذا كان جميلا بما يتيح للمرء أن يجد فيه تعزية وأملا في تغير وتبدل الأوضاع.
لا نريد المزيد من أحاديث الفتنة الطائفية وأسبابها، ولا تأصيلا للمشهد ومدركاته، فقد سئم الجميع الكلام، وبات الرمز والحديث غير المباشر أبلغ مائة مرة، عل أحدا ما يجد في الود الذي كان، مسارب لأمل جديد، عوضا عن القارعة الواقفة خلف الباب مهددة بجفاف ضرع الأرض المصرية.
«مسيحيون ومسلمون.. إخوة أمام الله»، كانت تلك آخر السطور التي كتبها الراهب اليسوعي كريستيان فان نسبن، الهولندي الأصل، وربما أراد بها أن ينهي رحلة طالت نحو أربعة عقود في العالم العربي، قضى جلها في مصر، قبل أن يضرب القدر ضربته، وينسى الرجل اسمه ورسمه ونفسه أيضا من جراء «ألزهايمر» اللعين.
شاب مؤمن استهوته فكرة المصالحة بين البشر، ولهذا أراد أن يكرس نفسه «كي أخدم كافة البشر، وأمثل جسرا للفهم والتفاهم بين الأديان».
في العام 1958 طلبت إليه رئاسته الدينية أن يتوجه إلى لبنان للخدمة هناك، وهناك بدأ في دراسة اللغة العربية بآدابها وشعرها القديم والحديث، ولأنه أحب لغة الضاد وأبدى اهتمامه بها، لذا فكر رؤساؤه في أن يتخصص بصورة أعمق في الدراسات العربية والإسلامية.
في القاهرة حط الرحال عام 1962، ليلتحق بكلية الآداب قسم الفلسفة، ويغوص في عمق الفلسفة الإسلامية بوجه خاص، هناك كان الانفتاح الأوسع والأنفع له على الإسلام والمسلمين، لكن الخبرة الحياتية الخاصة كانت في منزل الشيخ الأزهري «رجب» والد صديق عمره «محمود رجب».
يصف فان نسبن تلك الفترة من حياته بأنها الأساس الروحي الذي عرف وبنى على معرفته تلك أفكاره عن مصر والمصريين، فيحدثنا في كتابه «مسلمون ومسيحيون.. إخوة أمام الله» قائلا: «في جامعة عين شمس عقدت أول صلاتي العميقة بالمسلمين. وبعضها لا يزال مستمرا حتى اليوم وأصبح جزءا لا يتجزأ من كياني. أما علاقة الصداقة الأقوى فكانت مع محمود رجب. وكان أبوه شيخا تخرج في جامعة الأزهر الشهيرة، وأصبح في نهاية حياته مديرا عاما للمعاهد الأزهرية قبل الجامعة. تبنتني هذه العائلة سريعا وأصبحت عضوا كامل الأهلية فيها، واعتبرني الشيخ ابنا له.. لقد كان إنسانيا بصورة غاية في الرقة. عندما رحلت إلى فرنسا لدراسة العلوم اللاهوتية طلب الشيخ من ابنته، الرسامة والطالبة في كلية الفنون الجميلة، أن ترسم لي لوحة لمريم العذراء مع ابنها يسوع كي يقدمها لي على سبيل الذكرى».
يؤرخ فان نسبن لمفهوم الدين في مصر في تلك الأوقات بالعلاقة التي كانت بين الشيخ رجب وابنه محمود إذ يقول: كان يقبل باحترام شديد أن يعبر ابنه «صديقي» عن إيمانه بالإسلام، بطريقة تختلف عن طريقته، وهو ما لا يمنعهما من أن يكونا «معا أمام الله». واستمر الشيخ رجب طيلة حياته يسكن في منزل متواضع في حي شعبي. كان رجلا في غاية الاستقامة، ذا حكمة عميقة، يتحلى بروح الفكاهة الراقية، رجلا مستقيما صحيحا.
الراهب اليسوعي فان نسبن كان يرى في الشيخ رجب مثالا للإسلام السمح، بطبعته المصرية إن جاز القول: «إذا كنت أتحدث عن هذا الشيخ بمثل هذا التبجيل، والحب، فذلك لأنه كان يجسد أمامي نوعا من «الإنسانية الإسلامية»، التي تعاش ببساطة وأصالة فائقتين. في الوقت نفسه الذي يمثل فيه المؤسسة الدينية الرسمية، هذا النمط من الرجال الذي ربما لم يألفه البعض. ما زال موجودا في أيامنا هذه».
لم تكن معايشة الراهب الكاثوليكي للشيخ الأزهري شأنا اعتياديا، أو ضيافة عربية - مصرية، عابرة، بل تجربة حياتية، كانت تمثل في ذلك الوقت أحد أوجه الحياة المصرية، بأصالتها وعمقها: «استمرت صداقتي مع محمود. ابن الشيخ، ونضجت وتعمقت عبر الخبرات والتطورات التي عرفها كل واحد منا، كان اتصالنا عميقا لا يحتاج إلى كثير من الكلام، كان الله حاضرا في قلب هذه الصداقة، أنا متأكد من ذلك.. مع الزمن أدركت كم يمثل الاتصال الشخصي والصداقة الحقيقية بابا واسعا لاكتشاف دين آخر وبدون هذا تظل المعرفة النظرية مهما كانت كبيرة تنطوي على خلل، فالدين بالفعل هو واقع يشكله الأشخاص المتدينون قبل أن يكون نظاما دينيا».
كيف تحولت مصر من نموذج الراهب الكاثوليكي والشيخ الأزهري إلى النموذج المؤلم الذي رأيناه في إمبابة، الحي الشعبي، رؤية العين؟
عرفت فان نسبن ولم أتجاوز بعد السابعة من العمر، كان صديقا لأسرتي، التي خرجت إكليروس وعلمانيين، يفاخرون بمصريتهم بادئ بدء، وبثقافتهم العربية الإسلامية من ثم، دون أن يختزل ذلك من إيمانهم أو معتقدهم.
وفي محاورات لاحقة بعد عقدين من الزمن، كنت فيها قد أصبت بحرفة «بضم الحاء» الأدب، كان فان نسبن يؤكد غير مرة على أن أول ما يعجبه في الإسلام هو ذلك الإحساس العميق بالله، فالمسلم يشعر أن الله في كل تفاصيل حياته، بل هو كل شيء في حياته، وثانيا الرحمة وارتباطها باسم الله الذي هو رحمن رحيم.
لكن ما كان يحزن قلب فان نسبن أحيانا هو.. «عندما يكون فهم البعض للإسلام سببا في التمييز ضد الإنسان المختلف معي في الدين، أو أن يتحول الدين إلى وسيلة لتبرير العنف».
وعنده أيضا: «أن يقول البعض إن الأديان سبب في التصادم، فهذا تناقض ضخم، فالدين هو سلوك إيماني، والإيمان انفتاح القلب على الله. وبالتالي على الآخر الإنسان». ويضيف.. «أنا شخصيا لم أشعر أبدا أن مسيحيتي تضعني في تناقض مع الآخرين. والقول بوجود «مؤمن متعصب» بالنسبة لي هو مقولة هزلية مثل «دائرة مربعة»، إما أن أكون مؤمنا أو أكون متعصبا. لكن الاثنين مع بعض مستحيل فالتعصب سلوك غير إيماني.
في ليون بفرنسا، تعرف فان نسبن عن طريق البروفسور «روجيه ارنالديز» على تفسير المنار للشيخين محمد عبده ورشيد رضا، وقد جعل الموضوع رسالته للدكتوراه، بدأها العام 1968 وكتب لها أن تضيع منه مرة وتحرق ثانية وتسرق ثالثة، ليعاود كتابتها من جديد، حاصلا على درجته العلمية عام 1987.
يفرق فان نسبن بين دراسة دين ما ودراسة الفلسفة، فلا يشترط في تقديره أنه لكي يدرس المرء فلسفة معينة، أن تربطه علاقة بأشخاص ينتمون لهذه الفلسفة، بينما ينبغي أن تمر دراسة دين ما عبر المؤمنين به، لأن الدين هو أساسا تعبير عن موقف إيماني، موقف علاقة بالله، وبالتالي فلا يمكن معرفة دين آخر من غير معرفة أناس ينتمون لهذا الدين، وكيف ينعكس إيمانهم على حياتهم، وهكذا كانت صداقة الشيخ والقسيس مدخلا لوضع النظرية موضع التطبيق.
أربعون سنة قضاها كريستيان فان نسبن في الربوع العربية، يسأل عن التفاهم، ويطلب الفهم، ويؤكد على أنه عندما انصرف تركيزه على دراسة الفلسفة الإسلامية، كان الهدف فهم وتفهم الثقافة والفكر والإيمان الإسلامي، وهكذا صار الإسلام والمسلمون جزءا من الأنا الشخصية التي تخصه، وهو مفهوم على حد تعبيره، يختلف عن الذوبان، وإنما هو أقرب إلى مفهوم الوحدة في الاختلاف.
بيت القصيد في قراءة أوراق فان نسبن هذه الأيام الحزينة، يتوقف ولا بد عند نظرته لعلاقة المسيحيين والمسلمين في مصر، وهو يرى أن التعايش الإسلامي المسيحي، في مصر وعبر أربعة عشر قرنا، هو تجربة فريدة متفردة قائمة بذاتها، لها خصوصياتها التي تميزها عن سائر دول المنطقة.
لماذا؟. لأنها علاقة مشاركة في بناء وطن حقيقي، منذ بداية انتشار الإسلام إلى الآن، ليس هذا فحسب، بل يرى الراهب الكاثوليكي، أنها قد تأثرت بالمتغيرات القوية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي حدثت منذ سبعينات القرن الماضي، إلا أن تلك العلاقة العريقة استطاعت أن تبقى حية على الرغم من كل المؤثرات، وربما السبب الرئيس في ذلك هو الغنى التراثي العظيم الذي يميزها.
لكن هل يعني ذلك الاستكانة إلى ما قد كان وإغفال الحراك الاجتماعي والسياسي والديني المتجدد على سطح الأحداث مصريا وعربيا وعالميا؟
يؤكد فان نسبن أن تلك العلاقة الفريدة بين مسلمي مصر ومسيحييها لا يجب أن نأخذها كقضية مسلم بها، تتحرك بشكل آلي، ولأنها علاقة تبلورت عبر الممارسة والحياة اليومية، ومن خلال هموم التجارب المشتركة، لذا فإنها تحتاج دائما، وبوجه خاص في حاضرات أيامنا، إلى التجديد من أجل إعادة الحقيقة لها، من خلال الأساس القوي والإرث التاريخي المشترك الذي يتأسس عبر مفهوم الوحدة في الاختلاف.
عاش كريستيان عاشقا لمصر، ومدافعا عن الثقافة الإسلامية، فقد كرس حياته لطرح حلول موضوعية لمشكلة الاختلافات التي سعّرها طموح قوى سياسية ودينية للتسيد على الإنسانية كلها، ولم تجد وسيلة لذلك، إلا تفكيك الوحدات بواسطة إشعال الاختلافات حتى تتفتت قوة التصدي لهيمنتها، ونتيجة لهذا انقسمت الأديان إلى طوائف ومذاهب وفرق وجماعات، انبتت عقائد جديدة، فاشتعل الصراع والعنف بينها، وتفتتت الأوطان إلى أعراق وقوميات، وأغلبيات وأقليات، كما تقول الدكتورة زينب الخضيري أستاذ الفلسفة في مقدمتها لكتاب فان نسبن.
يرفض كريستيان تحميل الإسلام أخطاء بعض من أبنائه، معتبرا ذلك تشويها لواقع ولصورة الإسلام، وهو ما يرفضه شكلا وموضوعا، فاختزال الإسلام لديه، في جماعة ما أو فكر محدد بعينه، أمر يشوبه قصور فكري وعلمي بحثي من البداية، ناهيك عن مجافاته لحقائق الواقع الإيماني الإسلامي والذي يحوي الكثير من الحث على السلام والتعايش مع الآخر، وهذا يعني أن المسلم ليس إرهابيا بالسليقة كما يذهب كثير من غير المنصفين.
كرس فان نسبن جزءا بالغا من وقته وفكره طوال سنوات حياته لتعميق مفهوم الحوار والتواصل مع الآخر، رافضا فكرة التعميم الذي هو مصدر كل ظلم، ولذلك فإن وصية الراهب اليسوعي الأخيرة هي ضرورة العودة إلى البعد الديني الأصيل في كل دين، لأنه الأساس، وأن حقيقة كل دين في الانفتاح على الآخر وقبوله بمحبة وبإخلاص، بعكس الآيديولوجيات التي هي تقوقع على الذات ورفض للآخر، انفتاح وتعاون يسعى عبر العمل المشترك لدعم العدالة الاجتماعية، ونشر القيم الأخلاقية، وسيادة المشيئة الربانية..
هل بلغ نموذج فان نسبن والشيخ رجب مسامع إمبابة والقاطنين من حولها؟
إن لم يكن بعد، فتبقى مهمة النخبة أن تحمل لهم تلك البشرى «نحن إخوة أمام الله».
*كاتب مصري