«الثورات العربية» تمتحن إسلاميين استهلكوا الشعارات طويلا ويكتفون الآن بجمع الغنائم

دعوات إلى قوائم بالمتخاذلين من الدعاة والمفكرين تجاه الثورات أسوة بقوائم الفنانين والإعلاميين

جانب من المسيرات المليونية في ميدان التحرير بالقاهرة (أ.ب)
TT

على غرار ما قيل في السابق عن محرضين على «الاستشهاد» يبعدون أبناءهم عن ضجيج المعارك إلى المقاعد الوثيرة في الجامعات، بينما يزفون أبناء الآخرين إلى الموت، يتوقع أن يواجه عدد من الإسلاميين حسابا جماهيريا قاسيا، بعد أن استهلكوا الشعارات طويلا، حتى إذا جاءت ساعة التطبيق كان دورهم صفرا، وما إن بدأت الثورات تحقق مكاسبها، حتى استغرقوا في جمع الغنائم.

وبحسب مناوئيهم، لا تنتهي تناقضات هذه الشريحة، عند قولهم ما لا يفعلون، بل تتجاوز إلى تمجيد ما كانوا يعتبرونه بالأمس مروقا من الدين، وموالاة لأعداء الله.

فالإخوان المسلمون في معظم دول العالم، والسعوديون من بينهم، جلبوا بخيلهم ورجلهم في معركة تحرير الكويت، لتصوير المعسكر الآخر بكل ما ساء من التهم، ثم بعد نحو عقد، إذا هم ينقضون مبادئهم فيباركون ويحرضون التحالف على دك حصون العقيد معمر القذافي، في استجابة للمنطق الذي كانت أدبياته ترفضه جملة وتفصيلا.

وهنالك آخرون يصرخون في كل محاضرة ينذرون بأن تحرير القدس قد اقترب وأن الهبة حانت وأن دخولهم إلى القدس إنما سيكون بصفتهم «فاتحين»، إلا أنهم حين تعلق الأمر بالجولان السوري، إذا هم يصمتون.

شمل ذلك المفاجأة الكبرى، بدعم زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن في أشرطته المسجلة أخيرا قبيل مقتله، لثورات الشباب، المنادية بالديمقراطية والليبرالية، التي عدت أكبر تحول في مبادئ أشد التنظيمات الإسلامية المسلحة، والمحسوبة على السلفية، حيث لطالما اعتبرتها منتجات ومستحضرات غربية لا قوام لها في «الشريعة الإسلامية الحقة»، فكان هتاف بن لادن ولأول مرة «لأبناء الثورات» عوضا عن «مجاهديه».

اتهامات التأرجح وتبدل المواقف بحسب المصالح وجمع الغنائم، من قبل بعض التيارات والأحزاب الإسلامية، سواء أكانت سلفية تقليدية بكل أجنحتها المختلفة، أو إخوانية على مختلف توزيعها الجغرافي، مترشحة في أعقاب الثورات العربية الجارية، نفاها جمال أبو بكر الناطق الإعلامي باسم الإخوان المسلمين في الأردن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط» جملة وتفصيلا.

وأكد أبو بكر أن يوم «الزحف على القدس» سجل مشاركة جميع الإسلاميين ومن مختلف الاتجاهات في الحدود القريبة المشتركة مع إسرائيل، وفي تجمعات مختلفة في الأردن، ولم يكن الأمر كما أشيع، بحسبه، تجاهلا للدعوة من قبل الإخوان المسلمون، مستدركا في ذلك «إخوان مصر» التي اكتفت بالتجمع في القاهرة، نتيجة للأوضاع الأمنية الراهنة في مصر، مشددا على عدم معارضة أي فرد محسوب على تيار الإخوان ما اتجه إليه الشباب.

وبشأن خجل أو غياب صوت المسؤولين في تيار «الإخوان»، وبالأخص من الداخل الفلسطيني، بشأن مسيرة «الزحف على القدس»، أوضح أبو بكر أن طرق التعبير عن التأييد تكون بأنماط مختلفة، إضافة إلى أن التجاوب مع الحالات الطارئة، حتما سيختلف عما تكون عليه الأمور مع القضايا المعدة والمجهز لها مسبقا.

وقال الناطق الإعلامي باسم الإخوان المسلمون في الأردن إن «هذه محاولة واحدة وغير منظمة لا يمكن الحكم من خلالها على مواقف الحركات الإسلامية بشأن تخليها أو تراجعها عن قضيتها، وإنما في حالة استمرار هذا المشروع، فبالتأكيد لن يتم التخلي عنهم»، مضيفا أن الحركة الإسلامية منشغلة بعملية الإصلاح الداخلي وهو أيضا ما اعتبره في سبيل القضية الفلسطينية.

أما بشأن نقض دعاة لمواقفهم التي كانت إبان حرب تحرير الكويت، ثم بعد نحو من عقد، إذا هم ينقضون مبادئهم فيباركون ويحرضون التحالف على دك حصون أنظمة عربية مختلفة، بما في ذلك ترويجهم لقرب أوان فتح بيت المقدس، والذي انتظر في المسيرة السلمية «الزحف إلى القدس»، دخول أي منهم ليسوا «فاتحين» وإنما على الأقل «متفرجين».

فكان بسبب ما أحدثته الثورات العربية من لغط وارتباك وتردد داخل صف بعض الجماعات والتنظيمات كما قال الدكتور سامي الماجد أستاذ الفقه المساعد بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية موضحا أن الأحداث المتسارعة الأخيرة بدءا من ثورة تونس، أن أفرزت مفارقات عجيبة، وتناقضا فاضحا في المواقف؛ إلا أنه لا يصح، وبحسبه، إطلاق التهمة على جماعات أو تيارات بأكملها، فقد أحدثت هذه الثورات العربية لغطا وارتباكا وترددا داخل صف بعض الجماعات والتنظيمات؛ الإسلامية منها وغير الإسلامية، بل أحدثت أيضا انشقاقا واختلافا داخل التيار نفسه، فتباينت المواقف والآراء من الجماعة والتيار الواحد، وأكثر ما ظهر هذا جليا في الموقف من الثورات نفسها، تأييدا ومشاركة، أو تحفظا وارتيابا.

واعتبر الماجد أن الإشكال لا يكمن في تغير الاجتهاد أو الموقف، وإنما في أن يكون ذلك على حساب المبادئ والقيم التي تدعو إليها وتجاهد في سبيلها، أما مجرد اختلاف رأي الإنسان وموقفه بناء على تغير المصلحة الشرعية، فلا يصح - في نظره - أن نجعلها تهمة ننال بها من صاحبها ما دام متجردا للمصلحة الشرعية التي تراعي جانب المصلحة العامة وليست الخاصة، وهو – حينئذ - غير متهم في نيته، ولا متقلب لظروف مصلحته الشخصية، أو الحزبية.

وبشأن مظاهرة الزحف إلى القدس، فهو في نظره لا يدل لزاما على تناقض أولئك الذين طالما دعوا وحشدوا وتظاهروا من أجل فك الحصار عن غزة؛ لأن الحالتين متغايرتان، فالدعوة للزحف إلى القدس - كما أرادوا أن يسموها - ليست هي نفسها الدعوة إلى فك الحصار عن غزة، والفرق بينهما جد كبير؛ فالمسألة الأولى مسألة إنقاذية إغاثية إنسانية لا تحتاج إلى جيوش ولا إلى عتاد وتقنيات عسكرية، ولذا اشتركت فيها طوائف متباينة كأعظم ما يكون التباين، من مسلم، ويهودي، ونصراني، ووثني.

أما الدعوة للزحف إلى القدس، فهي دعوة تجاوز فك الحصار عن غزة من وجهة نظره إلى ما لم يحن وقته بعد، ويحتاج ما لا يحتاجه فك الحصار من قوة ووحدة وأخذ بالأسباب، «فهذه غير تلك قطعا».

وعلى الرغم من تأييد الماجد لفك الحصار بكل وسيلة سلمية تحرك المشاعر الإنسانية، فإنه في الوقت نفسه يبقى معارضا لمظاهرة الزحف للقدس، وإن لم يكن القصد هو الزحف حقيقة، وإنما مجرد التهديد وإثبات الوجود والإرهاب النفسي للعدو الصهيوني، معتبرا التظاهر والاحتشاد عملا عفويا شعبيا ساذجا، ضرره أكبر من نفعه حتى على حركة الثورة وشبابها، وليس ببعيد أن يكون من مكائد أعدائها الذين يحاولون إجهاضها والتأليب عليها بكل سبيل.

إلا أنه من جانب آخر، رأى الماجد ضرورة فضح الازدواجية الممجوجة لمن أطلق عليهم وصف «المتأرجحين حسب توجه بوصلة النفعية» ممن حذروا سابقا من التدخل الأجنبي أيام أزمة الخليج ورأوه مخططا لتوسعة النفوذ وإنشاء القواعد العسكرية في الخليج، وباتوا اليوم يمارسون الازدواجية نفسها في مواقفهم مع أحداث اليوم والأمس، حيث لم يحذروا ذلك الحذر الذي وجد منهم إبان أزمة الخليج، ولم يستنكروا التدخل الغربي اليوم في ليبيا كما كانوا يستنكرونه من قبل، قائلا: «لم يجرؤوا أن يقولوا: إن هذا التدخل العسكري الغربي ظاهره إسقاط نظام طاغية يقتل شعبه، وباطنه الطمع في الثروات وتأمين الطريق لعميل جديد أكثر ولاء»، هنا، والحديث للماجد، «اختلفت لغتهم، وافتقدت منهم هذه المفردات: (تدخل أجنبي)، (مخطط استعماري جديد)».

في مقابل هذه الفئة، فئة أخرى من بعض الرموز الإسلامية التي حذرت أيام أزمة الخليج الثانية من التدخل الأجنبي، مبينة أن هذا التدخل يجب أن لا ينظر إليه على أنه مجرد استعانة بقوات صديقة، وكان مستندا إلى قراءة استشرافية لما كُتِبَ من دراسات غريبة تخطط للنفوذ والتدخل الإمبريالي منذ أمد بعيد، إلا أن هناك من سخر من هذا التحذير واتهم صاحبه بتسييس الدين وبالتحريض والمبالغة والتهويل واللعب بلغة العاطفة.

ثم دالت الأيام، فإذا هذا الذي يتهم غيره بتسييس الدين والمبالغة والتهويل نجده اليوم بعد أن تتابعت الثورات وأصبحت تتهدد كثيرا من الأنظمة العربية، يأخذ باللغة نفسها التي كان يسخر منها، ويمارس الدور نفسه الذي كان يراه في غيره تسييسا وتهويلا، الآن دخل مفردات خطابه: «التدخل الأجنبي»، «المؤامرة الخارجية»، لكنه لا يرى في خطابه أي تسييس للدين ولا تهويل ومبالغة مادامت أن النفعية تقتضي ذلك، وأن مصالحه الشخصية تستوجب مثل هذا الخطاب وهذه المفردات التي كانت في زمن مضى تهمة يحاكم عليها الآخرون.

واختصر الماجد ازدواجية بعض الحركات والشخصيات الإسلامية بعبارة: «هذا (البعض) من هؤلاء وأولئك تبادلوا الأدوار نفسها، وتقاذفوا التهم ذاتها، وتبدلت مواقفهم تبعا لأهوائهم».

أما الخشية على المكاسب السياسية، كما رآها مروان شحادة الخبير في التيارات السلفية، فهي السبب في التحولات بين أطياف الجماعات والتيارات الإسلامية، قائلا: «الأحزاب الإسلامية القائمة بدأت تخشى على مكاسبها السياسية، بإعداد خطابات شكلية آنية، من خلال قناعات ملخصها أن أحداث التغيير لا تتعلق بمسيرة عملية حتى الحدود»، مضيفا أن الحركات والتيارات الإسلامية لم تؤمن بعد بالمسيرات السلمية الديمقراطية.

وطالب شحادة الجيل القديم من التيارات والأحزاب الإسلامية إضافة إلى الوعاظ والمشايخ، بضرورة تجديد خطابهم، وتحديث استراتيجيتهم الحركية والعملية، فهي من وجهة نظره باتت تعاني من تراجع كبير وبحاجة إلى تطوير وتجديد لتحقيق الأهداف، مستشهدا بحركة الإخوان المسلمين، التي وصفها «بالجمود والترهل».

من جهة أخرى، اعتبر الدكتور شحادة رفع شعار القضية الفلسطينية وتحرير الأقصى بالنسبة لكل التيارات والحركات الإسلامية التقليدية عامل جذب لها وحشدا لجمهور الناس، منوها بأن حركة حماس أثناء مقاومتها للاحتلال حققت مكاسب؛ أبرزها النجاح في الانتخابات التشريعية، إلا أنه وعقب دخولها في السياسة ضعفت شعبيتها وبدأت حماس تصادم الجماعات التي أبقت وتمسكت بالجهاد، لما تصادم هذا المبدأ مع خياراتها السياسية.