نظام القيم في القرآن والتجربة الإسلامية الوسيطة والمعاصرة

رضوان السيد

TT

نشطت في العقد الأخير بحوث القيم والأخلاق في الأديان والثقافات. وكان من ضمن تلك البحوث دراسات انصبت على مراجعة منظومات القيم في القرآن والإسلام. وكان من ضمن تلك الدراسات مراجعات نقدية لمداخلات سابقة. وقد برزت من بينها كتابات إيزوتسو الياباني، ومحمد عبد الله دراز المصري، ومحمد عابد الجابري المغربي. أما إيزوتسو فقال إنه يقوم بقراءة سيمانطيقية لأخلاقيات القرآن، واعتمد في ذلك على مرات التكرار في المفردات التي تحمل مضامين أخلاقية. لكنه في المحصلة إنما قام بقراءة تاريخية فيما بين الجاهلية والإسلام، أي بين أخلاق المروءة الجاهلية، وأخلاق القرآن في العدالة والتقوى. ولست أدري لماذا لم يذكر الرحمة ولا التعارف والمعروف، رغم كثرة ذكرهما في القرآن. ودرس دراز أخلاقيات القرآن من وجهة نظر أخلاق الواجب الكانطية. فكل الأوامر والنواهي في القرآن عنده تحمل معاني ودلالات أخلاقية. واستظهر الجابري وجود خمس منظومات أخلاقية في التجربة الإسلامية الوسيطة هي: الأخلاق العربية (المروءة)، والأخلاق الفلسفية (السعادة)، والأخلاق العربية - الإسلامية (وهي في نظره مزيج من الأمرين)، والأخلاق الإسلامية (العدالة والتقوى)، والأخلاق الفارسية (الطاعة والخضوع). ويرى الجابري أخيرا أن الأخلاق الفارسية أو أخلاق أردشير هي التي فازت في عالم الإسلام كله! لقد التزمت الجانب السيمانطيقي أو الوجود والتكرار، فتبين لي أن منظومة القيم في القرآن تتكون من ستة مفاهيم هي: المساواة والكرامة والرحمة والعدالة والتعارف والمعروف والخير العام. أما المساواة فتقوم على تأكيد الخلق من نفس واحدة، فتكون ذات جانبين: التساوي أمام الله، ونظرة البشر بعضهم إلى بعض باعتبارهم متساوين فيما بينهم. ويبدو مفهوم الكرامة أو تبدو قيمتها في تقرير القرآن: «ولقد كرمنا بني آدم»، وتظهر مقتضيات ذلك ومترتباته في مفاهيم التمييز على المخلوقات والاستخلاف والتمكين والإقدار والتسخير. ويظهر مفهوم الرحمة الهائل الانتشار في القرآن الكريم من خلال قوله تعالى: «كتب على نفسه الرحمة»، ووجود الرحمة ومشتقاتها ومترادفاتها في أسماء الله تعالى، وفي أمره بها وينتشر مفهوم العدل في القرآن الكريم من خلال اتصاف الله سبحانه وتعالى به، ومن خلال أمر الناس به، ومن خلال المجازاة عليه، ومن خلال ربطه بالتقوى والعمل الصالح. وتظهر قيمة التعارف في قوله تعالى «لتعارفوا»، وفي تكرر ذكر المعروف في مئات المواطن. وقيمة الخير ظاهرة في «فاستبقوا الخيرات»، وفي المفرد ومشتقاته في مئات المواطن في القرآن الكريم. وتبدو هذه المفاهيم الستة متعالقة ومتشابكة ومترابطة في القرآن، بحيث يمكن بالاستطلاع أو الاستقراء اعتبارها نظاما أو منظومة. وهذه المفاهيم تظهر بوصفها قيمة في الذكر والنظر، وتصبح خلقا للأفراد والجماعات على المستوى العملي.

لقد تتبعت هذه القيم في التجربة الإسلامية الوسيطة لجهة الإدراك والإدخال في المنظومات. ويمكن بالطبع تأمل تجلياتها على مستوى النظر والعمل أو التقرير لدى شتى فئات النخب الإسلامية العالمة. وقد رأيت أن أتتبع مخرجات التجربة الثقافية الإسلامية الوسيطة عبر ثلاث فئات: المتكلمين والفقهاء والصوفية. ولهذا الإيثار أسباب مؤداها أن هذه الفئات ظهرت في وقت مبكر نسبيا ضمن الأمة، وأنها تستشهد بالقرآن الكريم لما ترتئيه من مفاهيم وقيم، وأنها تعمد لصوغ أفكارها في منظومات بالفعل. وقد وجدت أن المتكلمين انقسموا إلى فريقين رئيسيين: المعتزلة والأشاعرة. وقد سمى المعتزلة أنفسهم منذ البداية: أهل العدل والتوحيد. ومع أنهم لا يجيزون اعتبار العدل صفة منفصلة لله عز وجل، لكنهم يصفونه سبحانه بأنه عادل، ويعتبر العدالة هي السمة الرئيسية للعلاقة بين الرب والعبد. كما أن العدل يظهر باعتباره أصلا من أصولهم الخمسة. أما الأشاعرة الذين صاروا هم المذهب الكلامي الرئيسي لدى أهل السنة؛ فإنهم يضعون الرحمة والتراحم باعتبارها السمة الرئيسية لعلاقة الرب بالعبد، ويسأل أهل السنة في دعائهم الله سبحانه أن يعاملهم برحمته وفضله وليس بعدله. وهكذا فقد قام في الإسلام إذا صح التعبير لاهوتان: لاهوت التنزيه والعدل، ولاهوت العناية والرحمة والفضل. وقد تتبعت المنظومة التي يقيمها الماوردي الفقيه في كتابه «أدب الدنيا والدين»، ويعتبرها أساس صلاح الإنسان وسعادته في الدارين، فوجدت أنها تتكون من ستة مفاهيم: الدين المتبع، والسلطان القاهر، والعدل الشامل، والأمن العام، والخصب الدار، والأمل الفسيح. وهي مفاهيم وقيم مستخرجة كما يقرر من الرحمة والمعروف والإنصاف والانتصاف والمعروف والخير والعناية والفضل. ويسود لدى الصوفي مفهومان أو قيمتان في العلاقة بالله، عز وجل، وهما: الرحمة والمحبة.

وعلى مشارف الأزمنة الحديثة والمعاصرة، وعندما كان من عرفوا فيما بعد باسم الإصلاحيين، يحاولون إعادة ترتيب قيم اليقظة والنهوض والتقدم للخروج من زماني الانحطاط والاستعمار، ركزوا على أربع قيم: التمدن، والعدالة، والحرية، والمصالح العامة أو الضرورية. وهم عندما كانوا يقومون بذلك، كانوا متأثرين بالطبع بما شهدوه من تقدم أوروبي، وسطوة غربية اعتبروها قائمة على هذه الأسس أو القيم والأخلاق والممارسات. لكنهم أرادوا دائما استظهارها والتأصيل لها في القرآن الكريم والتجربة الإسلامية المبكرة. فاستدلوا للتمدن بمفهوم السنن القرآني، واستدلوا للعدالة بالموروث القرآني والإسلامي الغزير لهذه الناحية. واستدلوا للحرية بالقرآن وباعتزاز العرب بهذا المفهوم، واستدلوا للمصالح أو المنافع العمومية بمنظومة مقاصد الشريعة كما عرضها الفقهاء المالكية والحنابلة، وهي: حق النفس وحق الدين وحق العقل وحق النسل وحق الملك. لقد اعتبروا هذه القيم جميعا الأسس والمفاهيم التي يكون توافرها ضروريا للنهوض والتقدم. والطريف أن الطاهر بن عاشور عندما كان يكتب في منتصف القرن العشرين في مقاصد الشريعة، أضاف إلى المصالح الضرورية الخمس: الحرية، بحسبان ذلك شرطا للصلاح في الأخلاق الفردية والعامة، وصلاحا للشأن العام على جانب العدالة.

إن هذا الطواف السريع في القيم القرآنية، وتجلياتها المختلفة في عوالم المسلمين على مدى القرون، يشعر بما كان للمسائل القيمية والأخلاقية من تأثير مهم في المسار والسيرة والمصير. وكما سبق القول؛ فإن المسلمين تأثروا في الأزمنة الحديثة والمعاصرة بالتفكير الغربي في هذه المسائل، والتفكير الغربي عني بالمسألة القيمية باعتبارها إشكالية قيم وأخلاق فردية تأتي في قلب الفهم الجديد لمسألة الإنسان والإنسانية. وفي هذا الصدد هناك مفهومان رئيسيان: الحرية والكرامة، أو ما صار يعرف بحقوق الإنسان، وهي جميعا مترتبة على القيمتين أو المفهومين السابقين. والمفهومان متعالقان بمعنى أن الكرامة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالحرية، والحرية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالكرامة. وهما من «الحقوق الطبيعية» للإنسان. وقد صارت لهذين المفهومين موروثات غربية منذ إعلان الاستقلال والدستور الأميركي ثم شعارات الثورة الفرنسية، إلى ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وقد ورث المسلمون من زمن الاستعمار الطويل نسبيا انتهاكا فاضحا لهذين الحقين. والطريف أنهما عندما صارا قيمتين كبيرتين في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، سارع مفكروهم إلى الملاحظة عليهما أنهما لا يتلاءمان والشريعة، لأن الحقوق بالنسبة للإنسان هي واجبات وتكاليف ذات أصل إلهي، كما أن الغرب إنما يكيل بمكيالين بالنسبة لمراعاة هذه الحقوق. لكن الملحوظ أن نصف القرن الأخير في حياة العرب والمسلمين شهد عدة افتراقات بين ثنائيات تناقضت أطرافها. فصارت العروبة على سبيل المثال مناقضة للإسلام، وصارت الكرامة مناقضة للقدرة على العيش، وصارت الحرية مناقضة للاستقرار. وقد يكون ذلك بين أسباب ذهاب عدد من المفكرين العرب إلى اتهام التراث الإسلامي بأنه هو الذي نصر موروثات الخنوع والتواكل والخضوع والطاعة وعدم الاعتزاز بالكرامة والحرية باعتبارهما قيمتين كبيرتين. واحتجوا لذلك بأن هناك تراثا هائلا في تمجيد الطاعة خوفا من الفتنة، وتمجيد التسليم بالأوامر والنواهي خوفا من الظلم والاضطهاد. والواقع أن الأزمنة الوسيطة مضت بفضائلها ورذائلها، وأن الأوضاع الحاضرة تقع مسؤولياتها على الأزمنة الحديثة والمعاصرة بالذات. ولا يمكن اعتبار الأوضاع السياسية الحاضرة أثرا من آثار الأمويين أو العباسيين أو ما عرف باسم عهود الانحطاط. وفي كل الأحوال؛ فإن الدارسين العرب والمسلمين المعاصرين، عندما أرادوا دراسة مسألة القيم والأخلاق، لجأوا للقرآن باعتباره مؤسسا للنظام القيمي والأخلاقي في الثقافة الوسيطة لأمتنا. وها هي بحوث القيم المعاصرة، تطل على القيم نفسها التي قررها القرآن، وتعود حركات التغيير العربية الجارية لإعادة الاتساق ليس إلى القيم ومفاهيمها في حياتنا الخاصة والعامة فحسب؛ بل إلى علاقتنا الصحية والسليمة وغير المتوترة أو الموتورة بالقيم القرآنية.