ملاحظات ختامية حول إشكالية الأصولية

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

حاولنا، على مدار الحلقات الأربع السابقة، أن نقدم للقارئ تحليلا وتفكيكا لإشكالية الأصولية في عالمنا المعاصر. وها نحن نود اليوم أن نختم هذه السلسلة من المقالات بإبراز مجموعة من الملاحظات الختامية حول ظاهرة الأصولية وتداعياتها السلبية على مستوى كل من: النص والوعي والتاريخ.

وأول ما يلفت انتباهنا في هذا السياق، نتيجة مبدئية مفادها أنه لا إمكانية لتجاوز مشكلة الوعي الأصولي في سعيه الحثيث لتسييس الدين، إلا بفصل الدين عن الدولة. وهذا الأمر، أعني الفصل، يخدم الدين بالدرجة الأولى قبل أن يخدم العملية السياسية؛ لأن من شأن التسييس الدائم لتعاليم الإسلام الحنيف أن يحوله من قوة جامعة للناس إلى قوة مشتتة ومفككة للمجتمع جاعلا من القيم الدينية محل خلاف ونزاع دائم، وبحيث تضطر القوى الأخرى في المجتمع إلى رفع السلاح نفسه لتقاوم باسم الدين القوى الأصولية، فتخلق بذلك أصوليتها الخاصة/المضادة، وتصبح السياسة صراعا على العقائد بدلا من المصالح! خاصة إذا وضعنا بعين الاعتبار حقيقة أن جوهر المشكلة بالنسبة للعقل الأصولي؛ إنما يكمن في أنه ليس بوسعه فهم التعددية الثقافية - الدينية بغير لغة الهوية النقية الصافية المعصومة من الخطأ والنسيان إلا ما استكرهت عليه، والنافية لكل آخر مغاير لها على الدوام. ولغة الهوية هذه ترى التعدد كمعرقل لمشروع التوحيد الآيديولوجي القسري، أو ما يطلق عليه هيغل اسم «تحقق الفكرة في التاريخ عبر الدولة الأمة».

ولعل ذلك هو ما دفع البعض إلى تقرير أنه لا يمكن للأصوليات - على اختلاف تلاوينها ومسمياتها - إلا أن تكون قمعية استبدادية وعنصرية، إذ تعتبر كل اختلاف لغوي أو مذهبي أو ثقافي آفة ينبغي إزالتها، أو على أفضل تقدير مجرد هرطقات وبدع يجب ضربها واجتثاثها لتستقيم بذلك حياة الأمة الواحدة.

أضف إلى ذلك أيضا، أن الأصولية لا تعترف بأن كل فرد منا ينتمي حقيقة إلى ثقافات متعددة، قد تكون الواحدة منها مستوعبة للأخرى، أو متقاطعة معها: إسلام، عروبة، تسنن، تشيع، .. إلخ. وأن جوهر المشكلة لا يكمن في التعددية أو الاختلاف والتنوع، فتلك سنة إلهية بنص القرآن الكريم ذاته: «وجعلْناكمْ شعوبا وقبائل لتعارفوا»، و«ولوْ شاء الله لجعلكمْ أمة واحدة»، و«ولوْ شاء ربك لآمن منْ في الْأرْض كلهمْ جميعا»؛ فضلا عن أنها معطى بشري - تكويني وتاريخي. ومن ثم؛ لا يكمن الخطر في تعدد الطوائف أيضا، وإنما في الممارسة الأصولية الاستعلائية الإلغائية التي تحول التعدد إلى محض تصورات سلبية! والحال، أن الذاكرة الرجعية الارتدادية - وليست التعددية - هي التي تحْبس الناس في كهوف الماضي وضمن أنساق ودوائر مغلقة من النزاعات والمشاحنات والصراعات التي لا تنتهي. وأنها هي التي تؤطرهم وتحشدهم إلى أن يتحول التراث قيودا وأصفادا ذهنية تكبل الناس: فلا هم يستطيعون منها فكاكا، ولا يفتح لـ«الآخر» منه بابا للخروج من أسره! ونتيجة لذلك، تصير الآيديولوجيا الدينية بمثابة المحدد الفعلي للوعي وللسلوك، وفي ظل التعبئة الحزبية والمواجهة مع المجتمع أو الدولة أو العالم تتحول هذه الآيديولوجيا إلى بناء مغلق ويصبح كل فكر لا يتطابق مع بنيته الآيديولوجية مرفوضا، وكل إنسان لا يؤمن بما تؤمن به كافرا؛ فالنظرة الشمولية التي تحملها الأصولية في بنيتها الفكرية تجعلها قوة قاهرة للتعدد والتنوع. وفي حالة سيطرتها على المجال السياسي؛ فإن قوة السياسة والدولة تتحول إلى أداة قاهرة للآخر أو استبعاده في أحسن الظروف شريطة أن ينطوي على نفسه، وأن يسلم ذاته كلية للإرادة الأصولية التي لا راد لقضائها! ولا أدري كيف لا يلتفت الأصوليون الإسلاميون إلى تعدد طرق النظر في القرآن الكريم، وتأكيد مبدع الكون، ومنشئ العقول والأفكار، ومصدر المعارف والعلوم، ومبدأ الإلهامات والأنوار، أن الناس – في الفهم والتفكير، وإدراك الحقائق، والوصول إلى المعارف - لن يكونوا على درجة واحدة أو متماثلين، وإنما سيكونون في هذا كله على درجات مختلفة، ومراتب متباينة، بل وستفصل فيما بينهم فروق شاسعة «ولذلك خلقهمْ»؟! فقد أكد القرآن الكريم، في غير موضع من آياته، على بديهية الاختلاف بين الناس وأن فريقا منهم لن تهيئ له حالاته، والظروف المحيطة به، إلا نتفا من العلم، أو نبذا من المعرفة، وأن فريقا آخر لن تعده وراثته إلا للسطحي من المعارف، وثالثا قصرته بيئته على إدراك القشور من العلوم، ورابعا حصرته تربيته في دائرة ظواهر المرئيات، وخامسا سجنته عقيدته في منطقة الأساطير والخرافات، وسادسا جرفه تيار عصره المادي إلى الاقتناع بأن الوجود الحقيقي لم يثبت إلا للمادة وحدها، وسابعا يرى أن القوة العارفة هي الحواس وحدها، وثامنا يرى أنها الذهن المعتمد على الحاس والمحسوس، وتاسعا يرى أنها العقل المجرد الذي لا يأبه للحس مطلقا، وعاشرا يؤمن بأنها البصيرة النقية الطاهرة عندما تتخلص من علائق الحس والمادة معا.. إلخ.

فلو أن المبدع العالم بكل شيء، أكره هذه الطوائف كلها على أن تكون في مستوى واحد، وأن تنظر إلى الموجودات بمنظار واحد، وأن تفكر في محيط واحد، وأن تنحصر في دائرة واحدة، وأن تتطلع في أمر معرفتها إلى أفق واحد، لكان ذلك مباينا للحكمة، متعارضا مع العدالة. ولذلك رسم الحكيم العادل للمعرفة طرقا تلتئم مع كل الطوائف، وتناسب كل العقليات، وتضع في اعتبارها تباين الملكات، فما بال الأصوليين من شتى الملل والنحل يمضون على عكس إرادة الله، وهم أكثر الناس تحدثا باسمه، ومصادرة لتوراته وإنجيله وقرآنه؟! ومما يزيد المشكلة تأزما في عالمنا المعاصر ما يتمتع به الدين من جاذبية وأثر شديدين في النفوس، وسلطان قوي على القلوب، فتأثيره يقوى ويضعف تبعا لقوة الإيمان به. ومع ذلك؛ فإن الإيمان المتين لا يتحقق إلا بعد الفهم الدقيق لأصول الدين وقواعده فهما مدعما بالأدلة والبراهين. ومن هنا، تبدو خطورة التوظيف السلبي للمقولات الدينية، خاصة ما يتعلق بالتوظيف السياسي الذي يجعل من الدين خادما في البلاط السلطاني يستجيب لمطامعه ويخضع لرغباته. فمما لا شك فيه، أن أفكارا من مثل: الواجب الوطني، والتماسك الاجتماعي، تكون أكثر حضورا وأقوى تأكيدا حين يضمن الخطاب الديني لنفسه استقلالا حقيقيا عن كل ما يؤثر فيه سلبا بطريقة مغرضة.

لقد أصبح العالم اليوم، بفضل تقدم وسائل الاتصال، قرية صغيرة؛ ولهذا فإن أي حركة قائمة على الخصومة والعداء - سياسية كانت أم دينية - لن تؤدي إلى أي نتيجة إيجابية، بل يجب الانفتاح على الإنسانية بأسرها، وإبلاغ العالم كله بأن الإسلام دين رحمة وعدالة، يدعو إلى الأخوة بين بني البشر، لا أن يقسم العالم إلى دار إسلام ودار حرب! وأن المسلم الحق لا يمكن أن يكون إرهابيا وأن الإرهابي لا يمكن أن يكون مسلما.

إننا في أمس الحاجة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى ثورة روحية كبرى في التفكير الديني، تعلي من شأن القيم الأخلاقية وترسم صورة تطبيقية للإسلام النابض الحي من خلال مبادئه التأسيسية. وكما يقول فتح الله كولن: «أريد حفنة من المجانين، يثورون على كل المعايير المألوفة، ويتجاوزون كل المقاييس المعروفة، فبينما يتهافت عوام الناس إلى المغريات، يفر أولئك منها دون التفات! أريد حفنة ممن نسبوا إلى خفة العقل لشدة حرصهم على دينهم وتعلقهم بنشر إيمانهم، فلا يفكرون بملذات أنفسهم، ولا يتطلعون إلى قرب سلطاني، ولا يرومون متعة الحياة الدنيا وزينتها. يا رب، إني أتضرع إليك.. فخزائن رحمتك بلا نهاية أو حد، أعط كل سائل مسألته، أما أنا.. فأعطني حفنة من المجانين»!!

* كاتب مصري