الإسلام السياسي: المصطلح والمفهوم والمصائر

رضوان السيد

TT

لا أعرف مقالة أو كتابا ظهر فيه مصطلح «الإسلام السياسي» قبل مقتل الرئيس أنور السادات على أيدي أفراد من تنظيم الجهاد المصري. لكن منذ الثمانينات وحتى اليوم، لا يكاد يمضي أسبوع إلا ويظهر فيه كتاب عن «الإسلام السياسي». ومع ذلك فإن المعني بذلك يظل غامضا أو مشكلا. فالثورة الإسلامية في إيران يعتبرها الدارسون الغربيون إسلاما سياسيا، وكذلك الأمر مع جماعة الإخوان المسلمين بمصر، أو حتى مع تنظيم القاعدة. ولذا يمكن القول إن الإسلام السياسي في نظر الدارسين للأوضاع والسياسات في العالم الإسلامي منذ الستينات من القرن الماضي، هو تلك الحركات والتنظيمات التي تمارس العمل السياسي بشعارات إسلامية، أو أنه تلك الحركات التي تسعى بشتى الوسائل لإقامة دولة إسلامية تطبق الشريعة. وبين يدي ثلاثة كتب، كلها صادرة عام 2010، وكلها تعنى بالإسلام السياسي؛ وهي: «إعادة التفكير في سياسات الإسلاميين» لسلوى إسماعيل و«الإسلام بوصفه دينا سياسيا، مستقبل ديانة عالمية أو دعوية» لشابير أختر، و«الإسلام السياسي، نصوص ووثائق»، ترجمة ونشر فريدريك فولبي.

وقد تنوعت الدراسات منذ الثمانينات من القرن الماضي، فبعضها ينصب على قراءة برامج وتحركات الأحزاب الإسلامية، ومدى تلاؤمها مع قوانين الدول التي ظهرت فيها، وهل هي قابلة للديمقراطية. وبعضها الآخر يدرس أنظمة الحكم التي قامت على أساس من هذه الإسلامية الجديدة مثل إيران والسودان، متتبعا سياساتها الداخلية والخارجية، وتأثيراتها في مجتمعاتها وفي محيطها. بيد أن البعض الثالث، مثل كتاب شابير أختر، فقد تجاوز مرحلة الاستكشاف للحكم على الإسلام بأنه دين سياسي، وهو يتناوله على هذا الأساس. فقد لاحظ أختر أنه منذ ظهور الإسلام، ما خلا عصر من العصور من دولة ترفع شعارات الإسلام. ولذلك فإن هذا الدين كان في القديم دينا عالميا فاتحا، وهو في الأزمنة الحديثة يلعب دورا مشكلا حتى في سياسات الدول التي لا ترفع بالضرورة شعارات إسلامية، أو أنها لا تملك مشروعا إسلاميا بالداخل وتجاه الخارج.

إنما بغض النظر عن هذه الدعاوى، فإن أحدا حتى من الغربيين ما كان يزعجه من الإسلام في المائتي عام الأخيرة غير النزوع الجهادي. وإذا كانت هذه الجهادية فاتحة في أفريقيا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر؛ فإنها في سائر أنحاء الأرض ما كانت غير رد دفاعي على المستعمر، أو الذي يحاول الدخول إلى الديار والاستعمار. لكن في الواقع؛ فإنه منذ منتصف القرن العشرين تبين تكون حركتين إسلاميتين سياسيتين تريدان المشاركة في السلطة السياسية أو قيادة الدولة باسم الإسلام. والحركتان اللتان نقصدهما هما الجماعة الإسلامية في باكستان، وجماعة الإخوان المسلمين بمصر، التي نشأت لها فروع في عدد من الدول العربية. وقد صحب ظهور هاتين الحركتين الكبيرتين تنظير لما صار يعرف بالدولة الإسلامية، التي صارت ضرورية في أنظار هؤلاء لاستعادة الشرعية التي فقدت كليا أو جزئيا بعد إلغاء الخلافة بتركيا عام 1924. وهكذا ففي نظر منظري الحركتين، وأنظار سائر الإسلاميين بعدهما؛ فإن الإسلام يملك نظرية سياسية، لأنه قام في الأساس بإنشاء دولة الخلافة على أثر وفاة النبي، صلى الله عليه وسلم، مباشرة. وما تصور أحد من المسلمين عبر العصور أن تخلو دار الإسلام من نظام سياسي يقوم على القواعد الإسلامية، ويقع في أولوياته تطبيق الشريعة أو الحدود. إنما كيف تضاءلت الشرعية في نظر الإسلاميين وما هو الموقف الآن؟ الموقف في نظر المودودي وسيد قطب على الخصوص، أن الحاكمية أو السيادة العليا في ديار الإسلام هي لله، عز وجل، ويتولى السلطة أو الأمور التدبيرية أناس يطبقون الشريعة التي أنزلها الله على نبيه. وقد حدث الانحراف عندما استولى الغرب على ديار المسلمين، وهو غرب تحدوه دوافع تبشيرية تارة، أو علمانية قوية تارة أخرى. وقد فرض على ديار المسلمين ثقافته وقوانينه وأحيانا دينه. ومن طريق هذا الاجتياح عبر نحو القرنين، والغزو الثقافي، ظهرت عمليات تلاؤم، كما ظهرت ظواهر تمرد وتشدد. وبشكل عام فإن الغرب استطاع اختراق مجتمعاتنا وسلطاتنا، فصار التغريب داء داخليا. ولذا فإن ضرورة الدولة الإسلامية تأتي من جهتين: تطهير المجتمعات من أوضار التغريب، واستعادة الشرعية والمشروعية للدولة والمجتمع في ديار الإسلام. وهكذا فقد صار «الإسلام السياسي» في العقود الخمسة الأخيرة علما على عدة أمور: أن الدين الإسلامي يملك نظاما كاملا لقيادة المجتمعات وإقامة الدول والأنظمة، وتسويد نمط اقتصادي غير ربوي وغير استغلالي - وأن المسلم «مكلف» بتطبيق شرع الله في الأرض، أي إقامة الدولة الإسلامية - وأن ذلك ينبغي أن يحصل بالحسنى (كما تقول الاتجاهات الرئيسية في حركات الإسلام السياسي)، أو بالقوة (كما يقول الجهاديون). ولذا فإن العقود الماضية شهدت صراعا مستعرا بين الأنظمة العربية والإسلامية من جهة، وحركات الإسلام السياسي من جهة ثانية.

إن الذي أراه أنه ينبغي النظر إلى المسألة على مرحلتين: مرحلة الصحوة الإسلامية، ومرحلة الإسلام السياسي بنوعيه في قلب الصحوة أو على حواشيها. والصحوة ليس لها سبب محدد، ولكنها تحولات في مواجهة الحداثة ترمي إلى الرفض والاستلاف في الوقت نفسه، وهي تحولات مرت بها وتمر كل الديانات وكل شعوب ما عرف بالعالم الثالث. أما المرحلة الثانية التي ظهر أو تبلور فيها الإسلام السياسي، فهي حقبة الصراع العالمي بين القطبين الكبيرين، وقد انقسم العالم كله ومنه نحن وفي السياسة والثقافة والدين بين القطبين. والذي أراه أن الحرب الباردة هذه هي التي أنتجت الإسلام السياسي، والإنجيليين الجدد، وسيست حتى البوذية والهندوسية. والمعروف أن الأنظمة العسكرية العربية اعتنقت القومية والاشتراكية وانحازت إلى الاتحاد السوفياتي، بينما انحازت الملكيات العربية إلى الولايات المتحدة. وما لبث الإسلاميون الذين تسيسوا أن دخلوا في صراع على السلطة مع العسكريين الحاكمين واستخدموا بعد السبعينات كل أنواع الأسلحة، وكان التوجه الإسلامي الجديد لوضع الدولة تحت مظلة الدين الذي أراد الإسلاميون احتكار تمثيله في المجال العام. وهكذا ظهرت أدبيات هائلة فيما بين الستينات وعام 2000 كلها تبني «النظام الكامل» أو تصارع القومية والشيوعية، وواجهتها الأنظمة الجمهورية الخالدة بالقمع وبسيل من الكتابات في نصرة العلمانية والحداثة والقومية والاشتراكية. والطريف أنه ومنذ السبعينات بدأ أنصار الأنظمة من المثقفين يكتبون عن الحداثة الديمقراطية، التي قالوا إن الإسلاميين يعارضونها، ويريدون إنشاء دول ثيوقراطية! وعندما صعد الجهاديون من الإسلاميين صراعهم مع العصر والحداثة، إلى درجة الاصطدام بالولايات المتحدة وبالغرب والعالم، صار الأمر سهلا على الحكام العرب في مواجهتهم. فقد انضم الحكام إلى الحرب التي شنت على الإرهاب، وصاروا حلفاء موضوعيين للولايات المتحدة في زمن الهيمنة، وجزءا من الصراع ضد الإسلاميين المتطرفين.

إن الجديد الجديد أن حركات التغيير العربية الجارية يمكن أن تشكل مخرجا من الأنظمة الخالدة، ومن الإسلام السياسي المأزوم. إذ إن ذلك التأزم في اجتماعنا الإنساني والسياسي هو الذي أنتج الجهاديين، وأنتج أجزاء ضخمة أو ركاما ضخما مما صار يعرف بالإسلام السياسي. ولست أزعم أن ذلك ينطبق على الثورة الإيرانية، فهي ثورة شعبية ضخمة، بينما يظل الإسلام السياسي العربي حركة أو انشقاقا إذا تطرف. لكن النظام الذي أنشأته الثورة الإسلامية بإيران هو نظام مأزوم ومسدود الآن، كما أن إسلام بن لادن مسدود ومأزوم بطرائق أخرى. فالجمهوريات الوراثية عندنا أوجدتها الأزمة ورعتها، والإسلاميون من خصوم الأنظمة، وخصوم الولايات المتحدة، هم أيضا من نتاج مرحلة التأزم السابقة.

ما كان الإسلام أبدا دينا سياسيا، بمعنى أن الدعوة جاءت مثلا لإقامة نظام سياسي أو شرعي. وإنما صار الأمر كذلك في مرحلة التأزم الشديد. والذي أعتقده أننا دخلنا الآن في مرحلة جديدة، يكون على الإسلاميين فيها التصرف بطريقة مختلفة. ما عاد الأمر أمر خشية من أجهزة الأمن؛ بل من آراء الناس وأصواتهم والرأي العام. والإسلام السياسي على هذا النحو، هو إما زائل لعودة الناس إلى الشارع لصون أديانهم ودولهم، أو أنه سيضعف على الأقل إذا استطاع التلاؤم مع ما هو موكول إليه. وبين هذا وذاك، يكون علينا النظر إلى هذا الحراك الماضي بمنظور اجتهادي وتجديدي. هل أبالغ في التوقعات؟ لا أظنني أفعل ذلك، لأن شرائح كثيرة اجتماعية وسياسية دخلت في هذا الحراك، فهو حراك أكثري، ولذلك، وبغض النظر عن أقدار نجاح؛ فإن الوضع لن يعود إلى ما كان عليه، سواء لجهة التداول على السلطة، أو لجهة المشاركة أو لجهة النهوض بالفكر الإسلامي في المرحلة الجديدة.