نظريات العدالة.. قراءة في تحولاتها التاريخية

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

تمتاز فكرة العدالة في كل تقاليد المدنيات الشرقية العتيقة، بكونها لا تقتصر على الجانب الخلقي فحسب؛ وإنما تتسع لتصبح مبدأً كونيا عاما يحقق الاتساق والانسجام بين أجزائه المتعددة. وبالتالي يصح القول إن مفهوم «العدل» بهذا المعنى يؤكد حقيقة أنه، كمبدأ كوني عام، قد أُوحِي به إلى بني الإنسان: لا ليعملوا به، ويطبقوه فيما بينهم فحسب - كما يتوهم بعض من لا يرون فيه سوى فضيلة خلقية - وإنما ليسهموا في «تعقل» مبدأ نظام الكون، واتساق نواحيه، والتئام أجزائه.

ولما كان الإسلام هو دين الفطرة بأسمى معاني الكلمة «فأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون»، وكان دائما متوجها نحو الإنسانية، معلنا عن مظاهرهِ الجوهريةِ الثلاثة، وهي: التبيين، والتوفيق، والإتمام؛ فقد كان من الطبيعي أن نلتقي فيه بهذا المعنى الجليل، إذا ما دققنا النظر في نصوصه، وأنعمنا التفكير في مراميه البعيدة التي تهدف من وراء العدل إلى ما هو أبعد من الفضيلة الخلقية التي تسوي بين الناس أمام القانون، وترمي إلى جوهره الحقيقي الذي هو أساس الكون، وعماد الوجود.

وبحسب ما يؤكد الدكتور محمد غلاب؛ فإن المدنيات الشرقية القديمة قد استطاعت أنْ تحتفظ بكثير من أصولها السماوية، على عكس الغرب الذي تجهم للمسيحية، فنسي العام، وتعلق بالخاص، حتى تعرى من نصيبه الطبيعي في الديانات الفطرية الأولى التي جاء الإسلام مذكرا بها، ومتمما لنقائصها. وكان أفلاطون، بحكم ثقافته الشرقية، قد أعلن منذ آلاف السنين أن «الكون هو نظام تسوده النسبة الهندسية» وتبعا لذلك؛ فإن خير الإنسان - هو الآخر - في جوهره عبارة عن قياس ونسبة وانسجام، وهذا الانسجام هو الذي يجب تحقيقه فينا كأفراد ومجتمعات عبر الالتزام بالفضيلة المنظمة له بأجلى معاني هذه الكلمة؛ ألا وهي العدل.

فالعدل، فضلا عن أنه يمنح الناس جمال الباطن، فإنه يهب المجتمعات الإنسانية ذلك النوع من المساواة التي «توضع بين الأشياء غير المتساوية بطريقة تلتئم مع طبيعتها». وبما أن الإنسان جزء من هذا الكون المنسجم المنظم؛ فإنه يتعين عليه «أن يتطابق (في سلوكه وأخلاقه) مع هذا النظام العام (المنظم)». وبذلك يبدو «العدل» بمثابة مبدأ عام تأسيسي به يُدبّر نظام الكون والنظام البشري، قبل أن يكون معبرا عن مجرد فضيلة أخلاقية غائية.

العدل بهذا المعنى يحقق الاتزان الأساسي للكون، والانسجام التام الذي ينتج من ذلك النظام بما في ذلك عالم الإنسان. ولما كان الدين علاقة بين الله والإنسان، وكان العدل مبدأ من مبادئ القوانين الإلهية؛ فقد عرّفه البعض بأنه «الخضوع الكامل للقانون الإلهي». وبهذا نجد أنفسنا إزاء تفسيرين للمعنى الميتافيزيقي من جهة، والمعنى الديني لمبدأ العدل من جهة أخرى، وهما في الأصل مظهران مختلفان لحقيقة واحدة. والسر في ذلك؛ أن كل حقيقة دينية يمكن لها أن تتحول - ولو في مظهرها الخارجي على الأقل - إلى حقيقة ميتافيزيقية، وذلك عبر ترجمة فعلية أو رمزية تجعل تلك الحقيقة في متناول العقل البشري القويم، ومتمشية مع منطقه المستقيم.

ولذلك؛ لم يقتصر «مبدأ العدل في الإسلام» على المعنى الأخلاقي المتعارف عليه، كما لم يهمل تلك الحقيقة العظمى، التي مفادها أن العدل «مبدأ كوني منظم، ومبدأ إسلامي تأسيسي»، وليس مجرد فضيلة أخلاقية على نحو ما هو متعارف عليه في جميع الثقافات. وآية ذلك؛ قوله تعالى في سورة «الرحمن»: «وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَان»، وقوله صلى الله عليه وسلم «بالعدل استقام ميزان السماوات والأرض»، وفي رواية أخرى «بالعدل قام نظام السماوات والأرض».

وبحسب الدكتور غلاب؛ فإننا إذا ما تدبرنا معنى هذه الآية الكريمة، وتلك الأحاديث الجليلة، وأنعمنا فيها النظر مليا، ألفيناها محتوية على كلمات: الميزان، والاستقامة، والاستقرار، والعدل. ورأينا أن العدل هو الأداة التي بها تحقق قيام السماوات والأرض، وتم استقرار نظامها. وفي السياق ذاته؛ يمكننا أيضا ملاحظة أن كلمات من مثل: عدل، واعتدال، وعادل، وتعادل، أو بالأحرى: العدالة، والاعتدال، والمعادلة، والتعادل.. كلها مشتقة من مصدر «العدل»؛ وبملاحظتنا ذلك؛ فإنه لا معنى على الإطلاق لترجيح أحد المشتقات على بقيتها، واختصاصه وحده بالهدفية المقصودة، والغائية المنشودة، وادعاء أنه المراد الوحيد للحديث النبوي، رغم أنه يوجد بين نظائره من المشتقات ما هو أعظم منه، وأجدر بالعناية، وأولى بالرعاية، ألا وهو «التعادل».

وحجته في ذلك أن «العدل الخلقي» إنساني الطابع على حين أن «التعادل» كوني، والكوني أولى بالعناية والرعاية من الإنساني! فالذرة مثلا مؤلفة من نواة، ومقدار من الإلكترونات يعادل هذه النواة معادلة دقيقة، وتفجير الذرة ليس إلا تحطيم شيء من إلكتروناتها، مما يعني أن هذا الانفجار ليس له أي سبب آخر سوى فقدان «التعادل» الذي وضعته الحكمة الإلهية في الذرة لتحفظ به كيانها، وكذلك الحال بالنسبة إلى كيان أكبر الكواكب، كما أن كيان السماوات العملاقة والأرض القزمة، هو تعادلهما.

ومما يضاعف من ضرورة مضاعفة العناية بالعدل، كمبدأ كوني أكثر منه فضيلة خلقية، أن كل دين مؤلف من ثلاثة عناصر جوهرية هي: الفكر، والأخلاق، والشعائر.. وأنه متى تغلب الجانب الطقوسي الشعائري في دين ما، صار جسدا من دون روح، ومتى تغلب العنصر الخلقي على غيره أصبح الدين روحا من دون عقل، أما إذا ظفر الفكر بالصدارة فجعل يوجه العنصرين الآخرين، فسوف يتحقق الكمال والتمام لهذا الدين «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا».

يتحصل مما سبق أن العدل في الإسلام مبدأ تأسيسي قبل أن يكون فضيلة خلقية عامة يلتزم بها كل من الفرد والمجتمع. إلا أن ذلك لا ينبغي أن يُفهم مطلقا باعتباره تقليلا من قيمة «العدالة الخلقية أو الاجتماعية»؛ وإنما قصدنا ألا تتغلب العاطفة في هذين المحيطين العمليين على العقل الديني في محيطه التشريعي، الذي هو سياج البقاء، وحصن الخلود «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار».. «فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَار».

ومن المعلوم أن العدل، من حيث هو فضيلة خلقية، قد ورد في القرآن الكريم على صورتين: على الصورة الفكرية أو النظرية أولا، ثم على الصورة العملية أو التطبيقية ثانيا. ومجمل هاتين المرحلتين أن أساس كل خلق إنساني هو ملاحظة القانون الإلهي، والإذعان له في أمانة ودقة كاملتين. فكما أن العدل هو دعامة النظام الكوني، كذلك القانون الإلهي هو دعامة العدل الخلقي «فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِير».. «اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيب».. «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْط..».

وهذا كله يصور لنا مقدار أهمية العدل باعتباره مبدأ تأسيسيا في الإسلام، يوشك أنْ يكون بعد درجة التوحيد مباشرة. أضف إلى ذلك أيضا، أنه جعله أقرب المراتب إلى «التقوى» التي هي أساس كل وضع معنوي وعملي في الإسلام «وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب». ناهيك عن أن التقنيات الحكيمة في القرآن، والتي تؤكد مركزية هذا المعنى، توضح أنه تعالى يُصَدّرُ به (العدل) أوامره تصديرا يشهد بأساسيته، إذ لا يمكن من الناحية الفنية المحضة إهمال صدارة «العدالة» في قوله تعالى: «إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْي يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون».. وتلك قضية أخرى.

* كاتب مصري