المثقفون العرب وحركات التغيير

رضوان السيد

TT

انشغل عدد من الكتاب والمثقفين العرب في الشهور الماضية، بالحديث عن الدور المفتقد للمثقفين العرب في حركات التغيير الجارية. أما المسلمون من بينهم فقد عزوا أنفسهم في الأسابيع الأولى للتحرك بتونس ومصر؛ بأن تلك الحركات سوف تؤول إلى بروز الطابع الإسلامي لها، وهكذا فإنه لا علاقة لهم، باعتبارهم متنورين بها، ولا حاجة لتفكير كثير بالمصائر والمآلات. وقد استشهدوا على ذلك بتصريحات المسؤولين الإيرانيين الذين اعتبروا أن الثورة في تونس ومصر توشك أن تنتج نظام حكم إسلامي على النهج الإيراني، والتجربة الثورية الإيرانية. فالثائرون مسلمون، والأمور آيلة إلى أن تكون العقيدة الإسلامية هي محور الاهتمام في مجال التفكير ومجال السلوك. ومع أن الحركات الإسلامية ما شاركت في بدايات التحركات؛ فإن مثقفيها سرعان ما انصرفوا للتنظير لإسلامية التحرك، واستشهدوا على ذلك بالجمهور الذي رفع شعارات إسلامية. وما استطاع مثقفو الأقليات الإسلامية والمسيحية أن يقولوا شيئا في البداية. ثم بدأ البعض منهم بالتصريح بمخاوفهم الناجمة عن تحركات السلفيين ضد الأقباط، ثم ما قاله الإعلام السوري عن الهوية السلفية لتحركات المدن والقرى السورية. وانفردت قلة من المثقفين أكثرهم من المسيحيين بلبنان والمهجر بالذهاب إلى أن التحركات التغييرية هي تحركات مدنية عربية، ويكون على المسيحيين الانضمام إليها، على أساس: «عروبة العيش معا من دون آيديولوجيات».

والواقع أن حركات التغيير العربية جاءت مفاجئة، وبمعزل عن مقولات المثقفين جميعا، ومن هنا كانت ردود الفعل المتحيرة أو المتشككة أو المنكرة. فالمثقفون من الإسلاميين الحزبيين نظروا طوال العقود الماضية للثورة الإسلامية في العالم العربي، على نهج الثورة الإسلامية في إيران. وقد التف هؤلاء في العقدين الماضيين من حول حماس وحزب الله والحركات المشابهة التي انتهجت نهج التصدي لإسرائيل والصهيونية؛ باعتبار أن هذه «المقاومة» لإسرائيل تمثل الجزء الحي من الأمة الراقدة أو الغائبة. وفي حين أن تلك الحركات كانت في الغالب مع مثقفيها في الجانب المعارض للأنظمة القائمة؛ فإنها كانت على طول الخط مع النظام في سوريا، باعتباره نظام مقاومة وممانعة. ولذلك فإن تلك الحركات ومثقفيها ترددوا طويلا عندما بدأ الاضطراب الشعبي في سوريا بعد مصر وتونس واليمن وليبيا. فقد كان سهلا على أولئك المثقفين الملتزمين أن يدينوا الأنظمة في مصر وتونس وحتى ليبيا، باعتبارها ما كانت أنظمة مقاومة أو ممانعة؛ وهذا على الرغم من أن التحركات الشعبية الواسعة في تلك البلدان، ما رفعت شعارات التحرير ولا المقاومة؛ بل أرادت إعادة ترتيب الأوضاع الداخلية في بلدانها. فلما حدث التحرك الكبير في سوريا، تحير هؤلاء. وبدلا من أن يجروا مراجعة لأطروحاتهم الخالدة حول العمالة والأمانة؛ فإنهم انصرفوا لامتداح النظام في سوريا، واتهام المتظاهرين المخاصمين له! وقد توقفوا أخيرا عن إصدار بيانات الامتداح والإدانة؛ لكنهم ما انتقلوا إلى الضفة المقابلة، أي أنهم ما أعلنوا انضمامهم إلى الجمهور في كل مكان، بغض النظر عن طبيعة العلاقة بينهم وبين النظام الذي ثار ذلك الجمهور ضده! وفي الأيام القليلة الماضية، وبمناسبة هزيمة الخامس من يونيو (حزيران) 1967، دفع النظام في سوريا، والمنظمات الفلسطينية الموالية له، بمئات من الشبان الفلسطينيين إلى هضبة الجولان المحتل، حيث واجه عشرات منهم من الشباب العزل رصاص الجيش الإسرائيلي. في حين رفضت حماس في غزة، وحزب الله في لبنان، السماح للشبان بالاندفاع إلى الحدود، فلم يمت أحد. ولذلك ثار أهالي القتلى من الشبان بالمخيمات الفلسطينية بسوريا على أولئك الذين دفعوا أبناءهم إلى حياض الموت، على الجبهة التي كان على الجيش السوري أن يواجه منها العدو بسلاحه، وليس المدنيين الفلسطينيين العزل. وهي الجبهة التي ظلت هادئة منذ حرب عام 1973. وهكذا فإن «المقاومين» في غزة ولبنان ما غامروا باقتحام الحدود؛ في حين اخترق النظام السوري تلك الحدود إنما بالشبان الفلسطينيين! وإذا كانت هذه الوقائع حرية بالدفع إلى إعادة النظر والتفكير بالمقاومات، وبعلائقها بالتحرير، وبمعاني المسلمات التي كانت سائدة في المرحلة الماضية لدى ذوي الآيديولوجيا القومية والإسلامية - فإن المثقفين العرب «التنويريين» كانت مشكلتهم أكبر مع التحركات التغييرية العربية. فقد أصر كبار منهم مثل الجابري وأركون ومروة وتيزيني وحسن حنفي، طوال العقود الماضية؛ على أن مشكلة الأمة ليست مع الأنظمة، ولا حتى مع الأميركيين الغزاة؛ بل هي مع «الانسداد» الذي أحدثه الموروث الإسلامي في الأذهان، وأفضى إلى إعراض عن الدخول في الحداثة، كما أفضى إلى ظهور الإسلام المتطرف العائش على ذلك الموروث. ولذا فإن «المهمة التاريخية» للمثقف العربي تكمن في تفكيك الوعي بذاك الموروث عن طريق النقد الجذري، لتمهيد الطريق للدخول في العقلانية والعصرانية بعد إهلاك ذاك الموروث في التفكير والوعي. وقد أظهرت حركات التغيير العربية لدى الشبان أنه ليس هناك انسداد ولا يحزنون، بل إن أولئك الشبان ليس لديهم مشكلة مع الموروث الذي يحملونه في عقولهم وقلوبهم، ويتصالحون به ومعه مع الأمة والعصر. ولذا فإن الذي ينهار اليوم ليس مزاعم الغربة والتغريب لدى شبابنا اليوم وحسب؛ بل وتنهار أيضا أطروحات المثقفين وحكاياتهم ومقولاتهم القاطعة بشأن رجعية الإسلام، ورجعية معتنقيه وحامليه. وبدلا من أن يبدأ هؤلاء بنقد أطروحاتهم ومراجعتها هم وتلامذتهم؛ فإنهم انصرفوا إلى أحد أمرين أو إليهما معا: الزعم بأن هؤلاء الشبان التغييريين هم علمانيون ضد الإسلام، والزعم بأن الحزبيات الدينية توشك أن تتهدد ثورات الشبان المدنية بالتسلل إليها، ومحاولات الاستيلاء عليها، بمعاونة بقايا الأنظمة، ومعاونة الجيوش الحامية لتحركات الشبان ظاهرا! أما مثقفو الأقليات الإسلامية وغير الإسلامية؛ فإن مشكلتهم مع نزول الجمهور للشارع كانت أعمق وأعقد. فهؤلاء فريقان: فريق انعزل في المرحلة الماضية، وحيد نفسه في الصراع الجاري بين الأنظمة والتمرد الإسلامي. وفريق اعتبر نفسه طليعة ثورية، فشارك مع المستبدين، وحمل على رجعيات الجمهور ومتمرديه الإسلاميين. والفريق الثاني هذا لا يزال على انحيازاته السابقة، وهو يتهم الجمهور ومفكريه ومنظريه؛ باعتبار ذلك كله طائفيات ورجعيات ومؤامرات. وهؤلاء يخشون اليوم إن سقط آخر الأنظمة القومية/ التقدمية؛ أن تسود الطائفيات، وأن تحدث الانقسامات، التي تهدد الاستقرار، وتمكن الأجانب من التدخل في الشأن الداخلي مثلما حدث بالعراق، ويحدث في ليبيا واليمن وأماكن أخرى. ويخشى الفريق الأول أو الانعزالي من انهيار تحالفاته. فهو يعتبر وعيا وتصرفا أن النظام السوري عمل طوال أربعة عقود حاميا للأقليات المسيحية والإسلامية في سوريا ولبنان وفلسطين، وإذا سقط؛ فإن الأكثرية ستطغى، وسيضطر المسيحيون على الخصوص إلى الهجرة والمنفى. وإذا جودلوا بأنه ليست هناك شواهد على مذابح أو اضطهاد قامت بها الأكثرية ضد المسيحيين أو الأقليات الأخرى؛ فإن هؤلاء يصمتون، أو يذهبون إلى أن وعي الأكثرية تغير عبر العقود الماضية، وما عادت آمنة ولا مأمونة.

إن خلاصة ما يمكن الذهاب إليه فيما يتعلق بأطروحات المثقفين العرب تجاه حركات التغيير العربية، أنه ليست هناك أطروحات واضحة من أي نوع باستثناء الخوف والتوجس. ويرجع ذلك إلى أن هؤلاء المثقفين - شأنهم في ذلك شأن السياسيين - فوجئوا بحركات الشباب التي ما أمكنهم تصنيفها استنادا إلى المقولات التي كانوا قد طوروها خلال المرحلة المنقضية. وهي مرحلة سادت فيها ثنائية: الأنظمة الجمهورية الخالدة في مواجهة التمرد الإسلامي. وقد وجدوا للأنظمة محاسن أهمها الحفاظ على الاستقرار، بينما مثل التمرد الإسلامي لديهم الفوضى والاختزال والمشكلة مع العالم. ويسقط اليوم الطرفان: الجمهوريون الخالدون، والإسلاميون المتطرفون، بفعل عودة الجمهور الشاب إلى الشارع، من دون آيديولوجيات ظاهرة أو حاكمة. وسينتج هذا الجمهور بالتأكيد ثقافته ومثقفيه، دون أن يعني ذلك الانغلاق على تجارب الآخرين وثقافاتهم ومقولاتهم. إنما كما يراجع الجمهور تجاربه وخطواته التي يسودها القلق، وتسودها طهورية وجذرية مفرطة أحيانا، يكون على المثقفين البارزين في المرحلة الماضية، أن يراجعوا أطروحاتهم السابقة في ضوء الوقائع الجديدة. ولا شك أن أبرز هذه الوقائع هي حضور الجمهور الذي كان غائبا أو مغيبا. ولأنه لا يملك نفسية الأقلية ولا هواجسها؛ فإنه يستطيع بالثقة بالنفس والتصالح معها ومع الآخر، أن يشارك وأن يدعو للمشاركة من دون وجل أو تردد. والحق أن المشاركة - التي كان الجميع محرومين منها - كفيلة بأن تزيل الشكوك والترددات، بما تنتجه من ثقة وطمأنينة. فالذي أقصده أن عالم المثقفين من المرحلة الماضية ضيق أو عاجز، وهذا الفضاء الذي انفتح، ليس بالضروري أن يكون فيه الخلاص المطلق، لكنه يستشرف بالعقل وبالتجربة آفاقا يقتضيها الزمن الجديد.

إن الذي يحدث عندنا ليس فريدا من نوعه. إنما لا يمكن بلوغ فهمه من طريق المقايسة الصماء أو الميكانيكية. فللأمم والثقافات تحولاتها وتجاربها التي لا تتكرر. ويكون علينا جميعا وعي العام، ووعي الخاص في الوقت نفسه، والإفادة من التخصيص ومن التعميم. والعاصم هذا الانتباه الجديد الذي يصنع ثقافة جديدة، بعد أن مضى علينا زمان صارت فيه الثقافة من أي نوع سبة أو تهمة. ولله الأمر من قبل ومن بعد.