القيم ومصادرها بين العام والخاص

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

ما كانت ندوة «القيم العُمانية ودور المواطن في التنمية»، التي انعقدت بمدينة مسقط في الفترة من الثالث إلى السادس من يونيو (حزيران) الحالي حدثا عاديا من حيث مبناه أو مبتغاه.. ففضلا عن مشاركة نخبة من مثقفي العالم العربي بها؛ توزعت الأوراق العشر التي قدمت بها على محاور عدة عالجت مسألة القيم في عمومها وفي خصوصية موضوعها (القيم العُمانية)، على وجه الخصوص.

وأول ما يلفت الانتباه في هذه الندوة التي أقامتها وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بسلطنة عمان، أنها جاءت في وقت مناسب تماما، بحيث ظهرت أهميتها لجهة موضوعها، وتوقيتها، لكل من تابعها أو شارك فيها على حد سواء. كما أن الناحية التنظيمية كانت ممتازة، بحيث توافرت الإمكانات والتغطيات الصحافية والإعلامية؛ وذلك من خلال المتابعات اليومية، وإقامة عشر حلقات تلفزيونية على هامش الندوة توزعت موضوعاتها حول «القانون والأخلاق» تارة، و«الخطاب الديني والقيم الأخلاقية» تارة أخرى، مرورا بمسائل تأصيل القيم الأخلاقية، والقيم السياسية في الإسلام، ودور الأخلاق في توجيه المجتمعات، وأخلاقنا بين الدين والتقاليد، والعدالة بين الإسلام والنظم المعاصرة، وليس انتهاء بالمفهوم الأخلاقي في الإسلام، والقدوة وأثرها في توجيه السلوك، والأخلاق بين الإسلام والمواثيق الدولية.

ثاني ما يلفت الانتباه في الندوة ومجرياتها أن جلساتها العشر قد شهدت تعقيبات على الأوراق المقدمة لجهة موضوع الورقة وليس مضمونها المباشر. بمعنى أنه طُلب من معد التعقيب أن يقدم ورقة موازية للورقة الأولى، التي لم يطلع عليها، فإنه يقدمها بحيث لا ينصب اهتمامه على نقد الورقة بقدر ما يقدم إضافة في الموضوع ذاته. وبقدر ما تتسم به هذه الآلية من خطورة ومغامرة تتعلق بإمكانية تكرار الأفكار، فإنها طبعت جلسات الندوة بجو من تعدد الرؤى واكتمالها في الموضوع الواحد على نحو يدفع بضرورة تبني هذه الطريقة مستقبلا.

الأمر الثالث الذي يلفت الانتباه في موضوع الندوة وما دار على هامشها من حوارات متلفزة؛ يتمثل في نوعية المشاركين بها. ويكفي أن يذكر المرء من لبنان كلا من رضوان السيد، وطارق متري، ومن مصر كلا من: محمد كمال إمام، وحسن حنفي، وحسن الشافعي، وعبد الحميد مدكور، ومن المغرب كلا من سعيد بنسعيد العلوي، وعبد الله ولد أباه، وعبد السلام الطويل، ومحمد الشيخ.. إلخ.

نصل الآن إلى إبداء بعض الملاحظات النقدية على مسار الندوة ومآلاتها: فأول ما يسترعي الانتباه هو غياب المناقشة بين الحضور والمؤتمرين! وهذا الأمر مهم جدا لأن من طبيعة إجراء نقاش جاد وفعال يمضي في كلا الاتجاهين، من المنصة إلى القاعة والعكس، أن يخدم الطرفين معا. فبالنسبة إلى الحاضرين يقدمون أسئلتهم وتعقيباتهم، وبالنسبة للمؤتمرين يقدمون إجاباتهم ويفيدون من تعقيبات الحاضرين.

أيضا هناك مسألة عامة في أغلب المؤتمرات تتعلق بالجمهور. ففي أغلب الندوات نلاحظ حضورا مكثفا في الجلسة الافتتاحية نظرا لارتباطها بحضور شخصيات سياسية، وكذلك الأمر بالنسبة للجلسة الختامية، على حين يختلف الأمر تماما بالنسبة لباقي الجلسات، حيث يقل عدد الحضور ليس بصورة تدريجية؛ وإنما أحيانا بصورة مباغتة! ومع ذلك استطاعت هذه الندوة أن تحافظ في جميع أيامها على النواة الرئيسية من السادة الحضور.

بقي أن أشير إلى أن الجلسة الختامية كانت قد شهدت تقديم الدكتور رضوان السيد تأملات ستة على الطريقة الكانطية، ما قصد منها قراءة مجريات الندوة أو الوصول إلى تقييم عام أو استنتاجات بشأنها، بقدر ما عمد فيها إلى أن يقدم بعضا من التأملات المفيدة بالنسبة لموضوع الندوة ومآلاتها. أما أنا؛ فقد تقدمت بورقة حول «المصادر المباشرة للأخلاق الفردية والجماعية»، أكدت في خلاصتها على أن الإرث الفلسفي الإنساني، قديمهُ ووسيطه في آن معا، ما عرف فصلا وظيفيا - أو حتى معرفيا - بين الأخلاق «الفردية» ونظيرتها «الجماعية»، على نحو ما هو متعارف عليه اليوم. إنما الذي أدى إلى حدوث هذا الانفصال هو ما نتج من استقلال العلوم الطبيعية والإنسانية - واحدا تلو الآخر - عن دائرة «أم العلوم/ الفلسفة» في بداية عصر النهضة الأوروبية.

كما بينت أيضا أن ثمة تنازعا تاريخيا قد جرى على «مبحث القيم» بين علماء النفس من ناحية، وعلماء الاجتماع من ناحية أخرى. ففيما يرى الفريق الأول أن الشعور الفردي هو أصل كل شيء، وأن كل إنسان محدود بمزاجهِ وطبيعته وشاكلته؛ فلا يستطيع أن يصدر ما يصدر أو يورد ما يورد، إلا وفق ما يقدّر له استعداده وغرائزه؛ وأن واجب علماء التربية إنما ينحصر في عنايتهم بالفروق الفردية عناية خاصة، وأن يُولوها كثيرا من الرعاية قبل أنْ يتحدثوا عن «الجماعة والمجتمع»؛ يرى الفريق الآخر أن المجتمع هو أصل كل شيء، وأنه الجدير بالعناية والتربية، وأن الأخلاق لا تظهر بطبيعتها ولا يُكشف عن سجيتها إلا في إطار جماعي.

وحجتهم في ذلك؛ أن الإنسان لا يتصف في حد ذاته بأنه «ذو أخلاق»، أو بأنه مجرد منها إلا إذا انغمس في غمار جماعة من الجماعات: أسرة أو قبيلة أو جماعة مهنية أو نقابية أو تعاونية.. إلخ. وهم لذلك؛ يرون أن الأسرة هي الحاضنة الأولى للأخلاق، وأنه متى خرجَ الفرد منها يتوجب عليه أن ينضم إلى جماعة من الجماعات التي لا ترتبط معه بوشائج القربى وحدها، وإنما ترتبط معه بكثير من العلاقات المهنية والاقتصادية، الوطنية والسياسية.. إلخ.

والحال؛ أن هذا السجال الذي استمر طويلا في المجال النظري بين علماء النفس وعلماء الاجتماع، قد انتهى في خاتمةِ المطاف بنظرية الوسط في ما يسميه العلم الحديث «علمَ النفس الاجتماعي»، وهو علم يُحاول أن يُوفق بين النظريتين: الفردية والاجتماعية، فلا يهمل أيا منهما.

لكن في المقابل من ذلك؛ يرى البعض أن هذه النظريات، على اختلافها، إنما ترجع في أصولها وفي مداها إلى ما قرره «القرآنُ الكريم» من مبادئَ أخلاقية ينادي باسمها «الإنسان» تارًة، وينادي باسمها «الناس» تارة أخرى، ثم ينادي بها «جماعة المؤمنين» ليجتمع على مبادئها الناس جميعا، بعد أن يكونوا قد فكروا فعقلوا فآمنوا فاستيقنوا، وهُم بعد جديرون بأن يُسموا «أولي الألباب»، و«أولي الأبصار».

وإذا كانت الأخلاق في جوهرها هي عبارة عن مجموعة من المبادئ والقواعد والقيم العامة التي توجه سلوكنا الإنساني نحو تحقيق ما يعتقد أنه «الخير»، وتجنب ما ينظر إليه بوصفه تجسيدا لـ«الشر»؛ فإنها بهذا المعنى قد وجدت في جميع المجتمعات البشرية على اختلافها؛ حتى في تلك التي توصف من قبل الباحثين والمؤرخين أحيانا بـ«البدائية». صحيح أن هذه القيم لم تكن لتعبر آنذاك عن حقائق موضوعية كونية، بقدر ما كانت دالة على آمال وطموحات ومخاوف المجتمعات البدائية؛ لكننا لا يمكننا بحال من الأحوال أن ننزع عنها «الطابع الأخلاقي القيمي» لمجرد أنها كانت على هذا القدر من السذاجة أو السطحية! وفي كل الأحوال؛ فإن الكثير من المفاهيم والمبادئ الأخلاقية يصعب تفسيرها وتبريرها - على نحو ما لاحظ برتراند رسل - من دون الإحالة إلى مرجعية دينية أو سياسية. وحجته في ذلك؛ أن القيم الأخلاقية، وخلال التاريخ المكتوب كله، كان لها مصدران مختلفان تماما: أحدهما سياسي والآخر ديني! وفي السياق ذاته، أكدتُ على أن التنازع على مبحث القيم قد انعكس سلبا أو إيجابا على مسألة تحديد مصادرها المباشرة بصورة خاصة. ويكفي للتدليل على ذلك؛ أن أغلب النظريات التي وردت في هذا الإطار قد انتهت إلى نفي ما عداها من نظريات أخرى! فالقائلون بأن الشعور أو الوجدان هو المصدر الرئيسي للأخلاق نحوا إلى نفي المصدر العقلي، أو تهميشه على الأقل، وكذلك الأمر بالنسبة للقائلين بالعقل مصدرا وحيدا للأخلاق الفردية والجماعية في موقفهم من الشعور أو الوجدان! ونتيجة لذلك؛ حاولت أن أعمل من جانبي على التوفيق بين هذه المصادر الرئيسية للقيم والأعراف والتقاليد الأخلاقية، في محاولة مبدئية لوضع تصور عام كلي عنها.

وقد انتهيت من كل ذلك إلى القول إنه بإمكاننا أن نقف على ستة مصادر رئيسية للأخلاق الفردية والجماعية تواتر الحديث عنها في الفكر الإنساني، قديمه وحديثه على حد سواء؛ ألا وهي: الدين، والعقل، والضمير، والقانون، والواجب، ومواثيق حقوق الإنسان.. وإن هذه المصادر تتوزع بين الفرد والمجتمع، الداخل والخارج، كما أنها تتداخل وتتقاطع فيما بينها بصورة مباشرة تارة وغير مباشرة تارة أخرى.

وقد أملتُ من وراء ذلك إلى أن أصل، ليس فقط لمرحلة الإلمام بأبرز هذه المصادر، وإنما أيضا التأكيد على أهمية ومحورية «البعد الأخلاقي» بشقيه النظري والعملي، وضرورة أن تتناغم هذه المصادر مجتمعة في إعادة تشكيل قيمنا الفردية والجماعية، وبما يضمنُ دورا محوريا للفرد/ المواطن في صناعة «التنمية»، أو بالأحرى «النهضة»، بمعناها الشامل: نهضة العقل والروح والوجدان معا، على نحو ما بينت الآيتان الكريمتان «قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين* لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِين».

* كاتب مصري