ريجيس دوبريه.. أصولية متعصبة أم علمانية عمياء؟

إميل أمين

TT

يعد هذا المقال في واقع الأمر القسم الثاني من المقال الأخير المتعلق بحالة العلمانية في أوروبا، كما تبدت مؤخرا في إشكالية مسجد ميلانو، وقد اختتمنا بالإشارة إلى مفكر وفيلسوف فرنسا الثائر دائما، المثير للضجيج الفكري أبدا، ريجيس دوبريه.

وفي الحق أنه قل مؤخرا جدا أن تجد مثقفا عضويا من الفئة التي تحدث عنها ووصفها المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، لا سيما في زمن العولمة المتوحشة، والأكثر إثارة أن يذهب ضد رياح العنصرية، ولا يماري اتجاهات الإمبريالية، بل يعلي صوته ضد كل ما يحقر كرامة الإنسان.

وريجيس دوبريه ليس مفكرا يساريا فرنسيا ولا فيلسوفا متمردا فقط على مثالب عقود طوال من القهر والظلم الإنساني، لكنه في واقع الحال منارة تنويرية، نحاول في ضوئها أن نقرا سطورا من الواقع الحي المعيش بكل آلامه وآماله.

في أطروحته للدكتوراه عن «حياة وموت الصورة.. قصة النظرة للغرب»، دليل على أن كاثوليكيته التي نشأ عليها لا تزال دافعا ثوريا ضمن أفكاره، وبدا أن اهتمام الرجل بمسألة الشأن الديني عميقة الجذور، وعنده أنه ليس هناك من مجتمع لا يؤمن بالله المتعالي كلي القوة، وأنه لا يمكن لجماعة ما أن تحدد نفسها، إلا من خلال إحالة على «المتعالي».

أُطلقت على ريجيس دوبريه ألقاب كثيرة، فوصف بالمفكر وبالفيلسوف وبالثوري، وقد تكون كلها صحيحة، غير أن الصفة الأعم هي أن الرجل شاهد على التحولات الفكرية والثورية للقرن العشرين وبامتياز.

من بين القضايا المهمة للغاية التي أفرد لها ريجيس دوبريه صفحات أحد كتبه الأخيرة وهو كتاب «الأنوار التي تعمي»، قضية العلمانية الغربية، وكيف أن الغرب ذهب في شطحاته إلى أقصى اليسار بينما دول أخرى مضت إلى الإغراق في اليمين الديني المسيحي كما في الولايات المتحدة الأميركية.

في مقدمة كتابه يلفت دوبريه إلى بروز عدة ظواهر اجتماعية جديدة تدل في مجملها على نوع من استقالة الذكاء، ويؤكد على أنه تجري عملية تزييف وتضليل كبيرة ضد أفكار عصر التنوير، ولكن باسم هذه الأفكار تحديدا، ثم إن شعارات كبيرة يتم رفعها باسم «العلم والعدالة والحرية»، لكن يكفي التمعن فيها عن قرب كي يراها المرء على حقيقتها، وما يؤكده دوبريه أن رفع الشعارات والاحتماء وراء أفكار التنوير من أجل كسب المعارك الراهنة لا يكفيان، وإنما ينبغي التأقلم مع معطيات العصر إذ لا يمكن لأي إنسان أن يقفز فوق زمنه.

ولعل أفضل من ناقش تحولات المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه الآيديولوجية في هذا السياق كان المفكر العربي هاشم صالح، الذي يرى أن ما يدينه المؤلف في كتابه ليس الأنوار في حد ذاتها، وإنما الصورة القدسية الإطلاقية التي شكلها الفرنسيون عنها، وهي صورة أصبحت متكلسة ومتحجرة بمرور الزمن، كما يحصل لأي تراث ثقافي عندما ينجح وينتصر.

وملاك القول أن ريجيس دوبريه يفرق بين التنوير العميق على طريقة جان جاك روسو أو كانط، والتنوير السطحي على طريقة فولتير، أو بالأحرى «الفولتيريين الضيقي الأفق». وهو لا يهاجم إلا التنوير الثاني، وفكرته الأساسية تذهب إلى التالي «أننا تنقصنا المنهجية الموازنة التي تعرف كيف تصالح بين المتضادات، فنحن لا نريد عقلانية جافة سطحية تستبعد الدين كليا بحجة أنه ظلاميات، ولا نريد أصولية متعصبة تكفر الآخرين، وتدعو إلى ذبحهم». وعليه فإن دراسة الدين أو الاهتمام به لا يعني أنك أصبحت شيخا أصوليا متعصبا مكشرا عن أسنانك، فلماذا تمنعنا العلمانية المتطرفة من تدريس الدين في المدارس كظاهرة ثقافية وتاريخية كبرى؟

والخلاصة عند دوبريه في هذا الشأن أنه ليس ضد العلمانية المنفتحة المتسامحة، إنما ضد العلمانوية الضيقة والسائدة في أوساط المثقفين الفرنسيين أو قسم كبير منهم.

هل كان لدوبريه موقف ما من الأصولية المكفرة للآخر والداعية لعزله وإقصائه كما كانت له مواقف متقدمة من العلمانية الجافة؟ وهل في قراءة الرجل تأصيل لبعض من جذور الظاهرة؟

غداة الأزمة التي تولدت عن الرسوم الكاريكاتيرية الدانمركية المسيئة للإسلام والمسلمين، وجه بن لادن رسالة لمن سماهم «أصحاب الذكاء في الاتحاد الأوروبي» تتضمن تساؤلات وتحميلا للمسؤولية، غير أن دوبريه ذهب في رده على بن لادن عبر صفحات «اللوموند» الفرنسية، إلى النقد الذاتي لأوروبا وأميركا، والذي يستشف من خلاله أنهما كانا ولا يزالان وراء تصاعد المد الأصولي حول العالم الإسلامي.. كيف ذلك؟

يتساءل دوبريه في حديثه مع بن لادن «لماذا تلقون اللوم على الأوروبيين؟»، ويجيب مقرا بحقيقة مؤلمة، بأن هؤلاء «الأوروبيين وضعوا أنفسهم في خدمتكم في أفغانستان عندما انضموا إلى أميركا، في تحالف يجهل تماما اللغة والعادات والتاريخ لهذا البلد».

يصف دوبريه هذا التحالف بأنه يجهل تماما اللغة والعادات والتاريخ لهذا البلد، مضيفا أنه «تحالف لم يفعل شيئا سوى المزيد من التوغل في اتجاه صدام الحضارات مع التنديد به، وسوف يؤدي هذا الحلف مثل كل احتلال أجنبي بابتزازاته وتجاوزاته، وضحاياه المدنيين، إلى انتفاضة وطنية وقبلية تعيد إلى الساحة أصدقاءكم القدامى من الطالبان الذين سوف نسلم لهم بكل غباوة راية الاستقلال».

وعند دوبريه كذلك أن «الأفغانيين تمكنوا من طرد غزاتهم.. بالأمس البريطانيون، ثم السوفيات، وغدا الأطلسيون.. أما نخبنا فإنهم لم يتعلموا شيئا من حربي الجزائر وفيتنام، واعترافهم بخطئهم يأتي دوما متأخرا بنصف قرن».

هل في الكلمات السابقة مواراة ما للدور الواضح الذي لعبته الأجهزة المعنية في الغرب، وفي مقدمتها القوى والأحلاف العسكرية، في إذكاء الأصولية الإسلامية الرافضة للاحتلال الغربي؟

يؤكد دوبريه على أن حرية التعبير ليست بلا حدود، وفي كل الثقافات عناصر من قدسية، ولتجنب الوقوع بين أيدي «مجانين الله» من الأصوليين فلا بد من الاعتدال والحصافة واحترام الآخر حتى لا تنمو الأصولية من جديد.

في ستينات القرن الماضي يحكى أن أديب فرنسا الكبير «أندريه مالرو» تساءل «هل سيكون القرن الحادي والعشرين قرنا دينيا أم لا؟». هذا التساؤل ألقى بظلاله في العقود الماضية على أرض الأحداث، لا سيما أن رياحا كثيرة حملت أفكار التدين سواء الحقيقي أو المحول.. والسؤال «ما الذي جعل مفكرا يساريا ثوريا مثل دوبريه يجنح إلى الخوض في أبعاد المسألة الدينية في كتاباته من جديد؟».

مثير هو الجواب عند الرجل، إذ يرى أن دراسته لظاهرة الدعوة الدينية تعود لكونها من مفرزات العولمة وعجائبها في الوقت نفسه، ويقول «منذ نصف قرن كنا نعتقد أن التقدم العلمي كفيل بتخفيف وطأة الموروث الديني، لكننا اكتشفنا على العكس من ذلك أنهما قد اتحدا معا، مع فارق فقط في خطاب كل منهما».

ويقدم دوبريه مشاهد الصحوة الدينية في العالم العربي على أساس أنها رد فعل لأخطاء غربية، وعنده على سبيل المثال والدعابة أنه «كلما أغدقنا على بلد كميات أكبر من الكوكاكولا، استيقظت المشاعر الدينية الأصولية بشكل أعمق. بمعنى أن الإمعان في فرض الثقافة الغربية على بلد ما، غالبا ما ينتج ردود فعل أكثر أصولية، الأمر الذي أدهش الكثير من المفكرين الغربيين وأنا واحد منهم».

وفي كتابات دوبريه يكتشف المرء أن الشعور الديني يستيقظ عادة ليملأ فراغا أحدثه غياب الإحساس بالمواطنة، أو فقدان القناعة بجدوى المجتمعات المدنية، أو فشل العلمانيين في تلبية ما يطمحون إليه. عندما يحدث فراغ بهذا الحجم من الطبيعي أن يقتحم الفكر الديني الفراغ ليملأه. وفي كل الأحوال يبقى دوبريه ناقدا شديدا للعولمة التي تنطوي «على الكثير من الأسرار، وهي منبع لا ينضب من المفارقات، والتي هي ليست واحدة من حكايات الجن، ولا اللعنة، بل ظاهرة تقنية اقتصادية تدل على توسع المنظومة الرأسمالية على سطح الكوكب».

وللعولمة على حد تعبير دوبريه مفارقات ذات آثار سياسية، ثقافية، غير متوقعة، ومتناقضة، ذلك أنه إذا كانت عولمة السوق تزيل الفوارق والحدود الاقتصادية فإن دوبريه يجادل بأنها لا تزيل الحدود الإثنية والثقافية، فالعولمة في تقديره عالم هش ليس من السهل التوقع فيه أو تنظيم التعايش، خاصة مع نشوء مقاومة الدولة الإثنية، وانتشار السيادات، ولذا يبدو التحدي الأول أمام العولمة هو أن نتعلم التحكم في السرعة، لأن العولمة في العمق هي «زمكان» جديد، تقليص للمكان وتسارع في الزمان. وباختصار غير مخل، العولمة عند دوبريه هي التناقض بعينه، نظرا لما تتضمنه من نزعة قوية لبلقنة العالم..

ففي الوقت الذي أخذ فيه العالم يزدهر اقتصاديا وماليا، وجدناه ينقسم ويتشرذم سياسيا ودينيا وعرقيا. فبقدر ما عملت العولمة على توحيد الاقتصادات العالمية، عملت بالقدر نفسه على بلقنة العالم وزعزعة استقراره، ليتبين في نهاية الأمر أن الاقتصاد لا يكفي لتكوين جماعات بشرية متقدمة، وبالتالي نحن أبعد ما نكون عن مصداقية القرية الكونية الصغيرة، وبدلا منها شهدنا ظهور الجدران العالية بين المدن والبلدان، وتعزيز الحدود المنيعة.

هل الأزمات الأخيرة التي يعيشها الغرب هي نتاج ضمن نواتج كثر للعولمة المتوحشة؟

يرى دوبريه أن الاقتصاد الرأسمالي طيلة تعايشه مع الأزمات كان أشبه بمحرك انفجاري، ينطلق بأزمة، ثم يتعايش معها، ثم يمر بمرحلة ركود، ثم انتعاش، ويكمل دورته التقليدية المعروفة..

لكن الأزمة الأخيرة كشفت عن وصول النظام الرأسمالي إلى نهاية المحطة، وكشفت أيضا عن عمق الأزمة الأخلاقية للمجتمعات التي احتضنته، وأنه بالتالي لا يمكن للمال أن يكون لغة معيارية للقيم الإنسانية.

لقد قدمت المجتمعات الغربية الكثير من القرابين للآلهة «المال وسطوته».. المسألة أكثر من أزمة أخلاق.. إنها إفلاس حقيقي لمنظومة قيم، اعتقد الغرب أنها الأفضل لقرون كثيرة.

هل هذه هي خلاصة شهادة ضمير حي على أهم فعاليات القرن العشرين منذ منتصف الستينات حتى الآن؟

ليس بعد، ذلك أن رؤية ريجيس دوبريه المستقبلية تحمل لنا أبعادا أخرى، من بينها أننا سوف نشهد في المدى المنظور دعوات تناشد الدولة استرداد دورها التدخلي في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وفي المدى الطويل العمل على تعميق العامل الثقافي الذي يشكل الذاكرة الجمعية للأمة، بعد أن سحقت الليبرالية المنفلتة العنصر الثقافي للمجتمعات الغربية، وبعد أن رضخت الدول لقوانين السوق التي فرضتها الليبرالية الاقتصادية المتوحشة غير المنطلقة على هدى.

ويبقى القول إن عنصر البناء والركيزة الأساسية في فكر ريجيس دوبريه، هو الإنسان، فالإنسان عنده هو القضية وهو الحل، وكفاحه الطويل ورؤيته ينطلقان من عند حدود كرامة الفرد وحريته، كنواة لبناء مجتمعات بشرية، غير مصابة بأوبئة الأصولية القاتلة، أو العلمانية العمياء، وهما آفتا القرن الحادي والعشرين إن مضت المقادير الكونية على نحو ما نشهده الآن، وما هي سائرة على غير هدى في منعطفاته، منعطفات الانتقاء، ومزالق الانتقائية.

* كاتب مصري