كتاب «عندما تنطق الجماجم».. شهادة حية على فظائع الإبادة في البوسنة

حظي باهتمام غير مسبوق في منطقة البلقان

حرب البوسنة والهرسك أسفرت عن آلاف الضحايا المدنيين (أ.ب)
TT

حظي كتاب «عندما تنطق الجماجم»، أو «الجماجم تستطيع أن تتكلم»، الذي أعده الصحافي صالح إسماعيلوفيتش في جريدة «بريبورود» البوسنية، باهتمام غير مسبوق في البوسنة، ومنطقة البلقان، واعتبر شيئا مميزا، عما سبقه من كتب تناولت حرب الإبادة في البوسنة في الفترة ما بين 1992 و1995. كما تلقته الأوساط الرسمية والشعبية بتلهف بالغ رغم أن الكثير من نصوصه نشرت في مقالات على مدى سنوات خلت.

صدر الكتاب، عن دار «القلم» في شهر أبريل (نيسان) 2011، في 228 صفحة من القطع المتوسط. ونفدت الكثير من نسخه في الساعات الأولى، من عرضه للبيع. وقال الكاتب صالح إسماعيلوفيتش لـ«الشرق الأوسط» «اسم الكتاب جاء من خلال شهادة والدة فقدت خمسة من أطفالها، ولم تكن تعرف ماذا حدث لهم، وبعد إجراء فحص الحمض النووي (دي إن إيه) تبين لها أنهم قتلوا على مسافة قريبة، من خلال طلقات جميعها في الرأس، كما علمت أنهم قيدوا قبل قتلهم ووضعهم في مقابر جماعية، ولذلك سميت كتابي، عندما تنطق الجماجم. وتابع «القصة الأخرى التي تأثرت بها شخصيا، وجميع القصص مؤثرة، قصة نجار مسلم قام بوضع كل ما تحتاجه كنيسة بناها الصرب من ديكور، ومعالم خشبية، ورفض استلام أي مقابل، وعندما بدأت حملة الإبادة دعاه الصرب قائلين تعالَ نكافئك، وكان جزاؤه القتل» أما القصص التي تبعث على الرجاء فمنها ما ترويه الكاتبة غازية بيغوفيتش، لها 8 أبناء قدمت 4 منهم شهداء، قالت لي إنها مستعدة لتقديم أبنائها الأربعة الباقين إذا دعا داعي الدفاع عن البوسنة مرة أخرى».

وقال الباحث في «معهد جرائم الحرب» في سراييفو، الدكتور فكرت بشيروفيتش، «كتاب، الجماجم تستطيع أن تتكلم، تسجيل وتوثيق للكثير مما حدث من جرائم بحق الإنسانية في البوسنة، وهي جرائم الإبادة بحق المسلمين في بلادهم التي ليس لديهم بديل عنها». وتابع «مهما تحدثنا عن الكتاب، فإنه يقول أكثر من ذلك، ومهما تحدثنا عن جرائم الإبادة، فإن ما وقع كان أفظع» وضرب عدة أمثلة منها تسجيل الكتاب، لفظائع الإبادة، وشهادات الضحايا، ووقائع المقابر الجماعية التي تم العثور عليها، حتى طباعة الكتاب.

الكتاب مهم جدا فهو شهادة على مرحلة تاريخية دامية عاشتها البوسنة والهرسك، وهو مجموعة من التقارير والتحقيقات الميدانية التي أعدها الكاتب في أعقاب زياراته للقرى والمدن والأطلال التي شهدت فظائع الإبادة. روى صالح إسماعيلوفيتش، قصصا تقشعر منها الأبدان، وتهز المشاعر، كيف لا وهو يتحدث عن جرائم إبادة كلاسيكية، تورط فيها الجيش اليوغسلافي، ومن ثم العصابات الصربية، والكرواتية من داخل البوسنة وخارجها، بل هناك مقابر للروس والرومانيين واليونانيين والبلغار وغيرهم، من الذين قتلوا في البوسنة، وكانوا في صفوف المعتدين» ويؤكد الكاتب على أن «جرائم الحرب، لم تكن أعمالا فردية، ولا أخطاء بعض القادة العسكريين، والسياسيين، بل خطط لها من أعلى الهرم السياسي والعسكري، في كل من بلغراد، وزغرب، مستشهدا بالعديد من الوثائق، التي تؤكد ما ذهب إليه، ومنها مشروع الأكاديمية الصربية للعلوم» الذي خطط للإبادة. واجتماع الرئيس الصربي الأسبق سلوبودان ميلوسيفيتش، بالرئيس الكرواتي الهالك، فرانيو توجمان، مرتين أثناء الحرب، لتقسيم البوسنة، وقتل جزء من المسلمين، وتهجير البقية، عبر سياسات الترويع والصدمة.

و«يعد العدوان الذي تعرض له المسلمون، في حرب الإبادة الأخيرة 1992 وحتى 1995 الحملة العاشرة لاستئصالهم. وبذلك تكون محاولات إبادة المسلمين، قد سبقت ما يعرف بالمشروع النازي، أو ما عرف بـ«الحل النهائي» وهو الإبادة والتهجير. لا سيما إذا علمنا أن أكثر من 99 في المائة من الضحايا كانوا من المدنيين، وكان التركيز على الأئمة، والمثقفين، والكوادر العلمية، بهدف إخلاء الساحة البوشناقية من القيادات. إلى جانب قتل الروح الإسلامية المعنوية، حتى المقابر تم تدنيسها وتهديمها» وحول رسالة الكتاب، ذكر أن «الرسالة هي أن لا ننسى، وأن نكون مع الله، وأن نقترب من بعضنا البعض» لم يغفل الكتاب الحديث عن الأكياس التي كان يوضع فيها الضحايا، من قبل الجيش اليوغسلافي السابق، وآثار القيود على أجسادهم، وطول وعرض المقابر الجماعية، التي كان بعضها بطول 5 أمتار وعرض 4 أمتار وعمق يصل أحيانا إلى 20 مترا. وقصص العائلات التي أبيدت عن بكرة أبيها، والأخرى التي فقدت 6 و7 و8 أفراد منها، وأحيانا يكون العدد أكبر من ذلك. وشهادات ذويهم، كما حاول الكاتب نقل مشاعر الضحايا وأهاليهم، وهي إفادات لا تهز المشاعر فحسب، بل تسائل العقل أيضا. كما أن الكتاب يبرز بأن البوشناق ورغم اختلال موازين القوى، لم يستسلموا، ودافعوا عن استقلال البلاد ووحدة أراضيها، قدموا في سبيل ذلك التضحيات الجسام، كما نقل معاناة الأمهات والأرامل والأبناء الذين لم ير كثير منهم آباءهم، حيث ولدوا بعد استشهادهم. وأجمل ما في الكتاب أنه خال من التفلسف، فكل شيء فيه واضح ولا يحتاج لقواميس لفهم بعض كلماته. أما المجرمون فعندما سألوهم لماذا لم قتلتم الأطفال أجابوا، كما حدث في زغرب، «لو قتلنا علي عزت بيغوفيتش، عندما كان طفلا، لما قامت دولة البوسنة والهرسك». و«بنفس تلك الروح الإبليسية تم اغتصاب فتيات لم يبلغوا 8 سنوات». وقد كان الكاتب حاضرا، في كبرى المآسي، سواء في سربرنيتسا، أو أحميتشي، أو فلاسينيتسا، أو تسرنة فره، وغيرها من الأماكن التي شهدت مجازر فظيعة كان ضحاياها بالآلاف. ويرى مصطفى برلاتشا من مؤسسة دار «القلم» التي طبعت الكتاب أن «صالح إسماعيلوفيتش، جعلنا نستمع للعظام وللجماجم، التي عاش أصحابها التراجيديا بتفاصيلها، وكانوا موضوعها. صالح إسماعيلوفيتش، يتحدث في الكتاب عن المأساة، وعن الحياة الاجتماعية التي أورثتها، وعن ضحاياها سواء الذين قتلوا أو الذين تأثروا بفقدهم. تحدث عن ماذا يفعل الأعداء بأجساد الضحايا، ووضع الصلبان عليها، وخطها بالسكاكين على أجساد الضحايا، وعن الوضع النفسي، والاجتماعي لأسرهم من بعدهم». وتابع «عندما قرأت الكتاب من الغلاف إلى الغلاف، لن أعلق سوى كإنسان، كتب الكثير عن العدوان في البوسنة، من قبل المحليين ومن الأجانب، هناك مكتبة كاملة حول الحرب، وإذا ما تمت إقامة متحف للإبادة فستكون فيه هذه المكتبة ولكن كتاب صالح إسماعيلوفيتش، سيأخذ الحيز الأكبر، والمرتبة الأولى في الأهمية. ورسالة الكتاب لا تقف عند قراءته، وإنما رسالة للزمن وللأجيال القادمة».