الفكر الإسلامي وسياقات التجديد والنهوض

رضوان السيد

TT

أصدر الأزهر بمصر في الأسبوع الماضي وثيقة عملت على إنشائها لجنة من العلماء والمثقفين، وبين هؤلاء مسلمون وأقباط، ومحافظون وليبراليون. وكان غرض الوثيقة تحديد الموقف من جانب هذه المؤسسة الإسلامية العريقة من قضايا رئيسية على الساحة المصرية والساحات العربية والإسلامية، في زمن حركات التغيير العربية الجارية. وقد أظهرت الوثيقة أن العقود الستة الأخيرة طرحت على الفكر الإسلامي، والمؤسسات الدينية الإسلامية، تحديات كبرى، ما أمكن الاستجابة الملائمة لها لثلاثة أسباب: الانقسام بين العلماء والمثقفين والمهتمين بالقضايا الإسلامية، وسيطرة الجهات الحزبية وحركات الإسلام السياسي على جدول الأعمال المطروح - والاستنزاف الذي عانى منه التفكير الإسلامي نتيجة دخول حركات الإسلام السياسي في صراع مع الدول والأنظمة، مما دفع بالتوترات إلى المدى الأقصى ونصر الأطروحات الراديكالية والمتطرفة - والقصور الذي ظهر في أوساط العلماء المسلمين فحال دون تطوير قدرات وكفايات في فهم المجريات، والتثقف بثقافة العصر، والاضطراب في تحديد الأولويات. ولذا فعندما اندلعت حركات التغيير؛ فإن شكاوى ظهرت يركز بعضها على الخشية من سيطرة حركات الإسلام السياسي على الأجواء السياسية العامة، كما يركز البعض الآخر على عكس ذلك، أي على النقص في الثقافة الإسلامية لدى الشبان المدنيين الذين قاد جمهورهم الحركات التغييرية.

إن الواقع أن وثيقة الأزهر، كما تظهر القصور الذي تحدثنا عنه، أي تظهر الحاجة إلى مراجعات وجلاء للغموض والاضطراب؛ فإنها من ناحية أخرى تظهر إمكان ذلك، أي إمكان انطلاق حركة نهضوية في الفكر الإسلامي، تجدد ولا تقسم، وتجمع ولا تفرق، وتمتلك أولا وآخرا الهمم والقدرة على المراجعة والنقد والتصحيح والبناء على السابق، وليس المجابهة أو القطيعة.

لقد كانت هناك مسلمة سادت في الحقبة الماضية مؤداها أن الحداثة المجلوبة من الغرب توشك أن تخرج الإسلام من الدولة فالمجتمع. ولذلك فقد انصب جهد حركات الإسلام السياسي في المرحلة الأولى على القيام بحركة نقدية تؤصل للإسلام في مجتمعات المسلمين ودولهم. أما في المرحلة الثانية، فقد انصب الجهد بعد إدانة التغريب على أن يستولي الإسلام أو شريعته على إدارة الدولة، من أجل ضبط المجتمع وإدارته. وقد أظهرت تطورات السنوات الماضية أن المسلمة السالفة الذك، ما كانت صحيحة؛ بمعنى أن المسلمين في عصر الصحوة ازدادوا تشبثا بدينهم وأخلاقهم. ولذا فلا داعي للخوف على الإسلام. أما الأمر الآخر الذي ثبت خطله أو خطأه؛ فهو أن الدولة الوطنية ما كانت مخوفة على الدين، كما أن مصارعة الحركات الإسلامية للأنظمة القائمة باسم الدين والدولة الإسلامية ما جلبت للإسلام شيئا. وذلك لأن المشكلات بين الأنظمة والجمهور ما كانت لأسباب دينية لكي تنحل من طريق الصراع، أو الاستيلاء على السلطة باسم الدين. فحركات التغيير العربية اليوم تطالب بالحرية والكرامة والتنمية وتحسين حياة الناس، والنهوض بالشؤون الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ولتلك الحركات أصول أخلاقية ذات علائق وثيقة بالدين من جهة، وبروح العصر ومدنياته وإنسانياته من جهة أخرى. ومن هنا فإن الذي يطرح اليوم إنما هو الخروج من مأزق الصراع باسم الدين، بحيث لا يعود دين الأمة معرضا للانقسام من حوله، وبشأن مشكلات ليس بالوسع التصدي لحلها من طريق هذا البرنامج الإسلامي أو ذاك. ولدينا تجارب عربية مختلفة بشأن التعامل بين الدين والدولة. فالتجربة الفرنسية كانت تريد تنحية الدين عن التأثير ليس في الدولة فقط؛ بل وفي المجتمع أيضا. أما التجربة الأميركية؛ فإنها أرادت منع تدخل الدولة في الشأن الديني، ومنع تدخل دين أو مذهب في الإدارة العملية للشأن العام. وقد نجحت التجربة الأميركية وصارت نموذجا عالميا، بينما انخفضت تأثيرات التجربة العلمانية الفرنسية على المستوى العالمي، وجرى الكف عن اللجوء إليها؛ باستثناء ما حدث في السنوات الأخيرة من استخدام لها ضد الفرنسيين من أصول إسلامية. وقد صار واضحا من التجربة العربية مع الدولة الوطنية أن الدين تضرر من تدخل الدولة في شؤونه، وليس من المستحسن تسليم قياده إلى السلطات، ولو قالت إنها سلطة إسلامية. ولذا فإن المطروح اليوم ونحن نبحث في شأن النهوض أن المصالحة بين الدين والدولة على أساس عمل كل في مجاله - مع بقاء المرجعية العليا للإسلام هي الأساس والمآل الذي ينبغي الأخذ به. فالأنظمة السياسية إذا صالحت واستقرت بإدارة الناس تعمل على إدارة ذات كفاءة ومشاركة للشأن العام، وليس من مصلحة الإسلام في شيء أن يتولى نظام سياسي مهما بلغ صلاحه إدارة شؤونه. ولقد كانت المؤسسة الدينية الإسلامية ولا تزال في الأعم الأغلب تتولى إدارة الفتوى والتعليم الديني، وشؤون العبادة. وهذه جميعا مهام دينية واجتماعية، وليس من المصلحة في شيء أن يتحكم بها النظام السياسي أو تتحكم هي فيه. فيمكن القول مع بعض التحفظ إن التجربة الأميركية مع الدين هي الأقرب لما نحن بسبيله من اجتراح مصالحة بين الدين والدولة، بعد أن تسبب الصراع إلى انقسامات بين المسلمين، وصدامات مع السلطات. وقد قالت وثيقة الأزهر إن المقصود بالمرجعية هو المبادئ العامة، وليس أن يتحول العالم المسلم إلى ناشط أو صاحب سلطة في المجال السياسي. لقد جربنا في العقود الماضية استتباع المؤسسة الدينية من جانب النظام السياسي، كما جربنا استتباع إدارة الشأن العام من جانب علماء الدين. وما نجحت التجربتان؛ وإن كنت أحسب أن الإسلام كان هو الأكثر تضررا من الخصومة والصراع، كما من الاستتباع أو التهميش. إن لدينا فرصة بعد أن لاحظنا خطل التجارب للنهوض بالمصالحة، وللنهوض من طريق الاعتناء بالفتوى وبالتعليم والقضاء، على أسس سلمية.

وإذا كانت حركات الإسلام السياسي هي المسؤولة بدرجة كبيرة عما جرى بين الدولة والدين من صراع واستلابات؛ فإننا جميعا مسؤولون عن الرؤية السلبية للإسلام في العالم. وهذه المسؤولية تعود إلى عدم بذل الجهد الكافي في عرض الإسلام بطرائق صحيحة وتوصلية من جهة، وعدم الإقدام على المشاركة في القيم العالمية قصورا أو خطأ في النظرة والنقد. لقد انقضت قرون على الصراع بين الكنيسة الكاثوليكية والدولة في أوروبا. ها هي تلك الكنيسة تعود قائدة في العالم؛ بفضل المنظومة الأخلاقية التي ركزت عليها، ولأنها أنتجت أفكارا وآليات يحتاج إليها العالم الحديث. ولذا فنحن محتاجون في هذا الزمان إلى رؤية جديدة للعالم، لا تعتمد الخوف أو التخويف، بل الكلمة السواء. والكلمة السواء تتضمن منظومة من القيم، يكون علينا أن نقتدي بها في الدعوة والدعوى. فنحن محتاجون للعالم بقدر ما هو محتاج إلينا، ولا طريق لتحقيق هذه الشراكة إلا بإنتاج الفكر التواصلي والتعارفي على أساس من القيم الإسلامية التي نجحت تجربتها في الأزمنة الوسيطة، والمطلوب تجديدها وإطلاقها بطريقة تتعين على الندية والمشاركة، وليس التعالي أو التشكيك أو القطيعة.

أما الأمر التجديدي أو الإصلاحي الثالث فهو المصالحة التي ينبغي إنجازها بين التيارات الإسلامية المتصارعة أو المشاكسة. وقد ذكرت هذه المهمة بعد المصالحة بين الدين والدولة، والمصالحة بين المسلمين والعالم؛ لأن جزءا كبيرا من الصراع بين التيارات، كان بسبب الصراع على رؤية العالم أو الموقف من الحداثة أو من الدولة الوطنية. وما صارت هذه الصراعات وراءنا. إنما الذي يحدث الآن الإدراك أن الكثير من هذه الصراعات نجم عن سوء الفهم والتقدير، وعن التداول بمفاهيم غامضة أو مغلوطة. لدينا اليوم ثلاثة تيارات كبرى: التيار السلفي، والتيار الإخواني، والتيار الصوفي. والمطلوب التواصل الحقيقي والحميم بين هذه التيارات، على أساس جوامع العقيدة والعبادة والأخلاق. وستبقى هناك فرعيات كثيرة لا يضر الاختلاف فيها. وأزيد هنا أن النجاح في العالم، أي تغيير نظرته للإسلام، هو السبب الأولى لتضاؤل الاختلاف، وتحقيق المجتمع الفاضل في بلادنا ديار الاغتراب الإسلامي.