الطرقية والحياة الاجتماعية في إسلام العصر الوسيط

محمد حلمي عبد الوهاب *

TT

نستكمل في مقالنا هذا ما ذكرناه في المقال السابق «التصوف في مصر بين الديني والسياسي»، في محاولة لإبراز واقع التجربة الصوفية المصرية كما تتجلى لنا تاريخيا. فمما لاشك فيه أن القرن السابع الهجري - الثالث عشر الميلادي يعد من أكثر القرون التي شهدت نزوح كثير من الصوفية إلى مصر، لا سيما أبو الحسن الشاذلي وأبو العباس المرسي والسيد أحمد البدوي وغيرهم ممن تركوا آثارا كبرى على حاضر ومستقبل الحياة الدينية المصرية.

وبحسب ما يؤكد محمد توفيق البكري، فقد اشتهر بالصوفية كثير من أئمة الإسلام وأعيان العلماء والسلاطين والملوك والوزراء والأمراء، فعرف من الصوفية من أهل العلم والفضل شيوخ الإسلام: العز بن عبد السلام، وابن حجر الهيتمي، وبدر الدين بن جماعة، وابن دقيق العيد، وابن زكريا الأنصاري، وغيرهم.

ومن الأئمة: الحافظ المنذري، وابن الحاجب، وابن الصلاح، وابن شداد (شيخ صلاح الدين الأيوبي الذي جعل داره خانقاه للصوفية من بعده)، والفيروزأبادي وغيرهم. ومن مشايخ الأزهر: الحفني، والشرقاوي، والعروسي، والباجوري، والمهدي العباسي، وغيرهم. ومن الملوك والسلاطين: صلاح الدين الأيوبي، والظاهر بيبرس، والظاهر برقوق، والأشرف قايتباي، وغيرهم.

كما شهد العصر المملوكي اتساعا لطرق تنظيم الصوفية الجماعية في الخانقاوات والمدارس المنتشرة في البلاد. حيث أنشأ المماليك الكثير من الخانقاوات أبرزها خانقاه سرياقوس (الخانكة حاليا) التي أسسها الناصر محمد بن قلاوون سنة 725هـ. ومن مظاهر تنظيم الصوفية في ذلك العصر أيضا تحديد الكيفية التي يتقدم من خلالها المريد ليلتحق بالجماعة الصوفية، واندماجه بينهم، ثم حسبانه منهم، ثم تدرجه في رتب الطريق، ثم وصوله إلى درجة النقابة، فالخلافة، ثم تحدثه على أتباعه ومريديه واتصاله بهم، ثم اتصال الشيخ بالجميع حتى يسهل عليه بث ما يريده من تعاليم، وتلقين ما يراه من أوامر.

وكان شيوخ الصوفية في العصر المملوكي يعاونون السلاطين في جهادهم للأعداء كما هو معروف عن الشاذلي. وقد ذكر ابن إياس في بدائع الزهور ما يفيد أن سلاطين المماليك كانوا يستدعون شيوخ الصوفية للخروج معهم في غزواتهم، مما يدلنا على أن الحركة الصوفية لم تكن بمعزل عن مجريات الأمور في المجتمعات الإسلامية.

وبحلول العصر العثماني انتشرت الطرق الصوفية انتشارا واسعا بين الجماهير المصرية التي كانت تعاني في ذلك العصر اضمحلالا فكريا وحضاريا، بحيث أصبحت عناية أصحاب الطرق فيه منصرفة إلى الشكليات والرسوم أكثر من العناية بجوهر التصوف ذاته، وبحيث سيطرت عليهم الأوهام والمبالغة في التحدث بالمناقب والكرامات التي لم يكن يأبه لها المحققون من أوائل شيوخ التصوف، ولم يكونوا يعتبرونها دالة على كمال الصوفي. على أن هذا لم يمنع من ظهور بعض الشخصيات الصوفية البارزة المعروفة بالعلم والتقوى، مثل مصطفى كمال الدين البكري مؤسس الخلوتية بمصر، والحفني والدردير والشرقاوي وغيرهم.

أما الزوايا، فقد ظهرت في بادئ الأمر في المساجد، ثم زاد استخدامها كنوع من المنشآت الدينية المستقلة في العمارة الإسلامية، سواء كانت زوايا فردية لأصحابها من العلماء، أو من المنقطعين للعبادة، أو زوايا اجتماعية لتدريس فروع العلوم الدينية المختلفة، أو زوايا خاصة لدراسة القرآن الكريم.

ومن أشهر الزوايا في جامع عمرو بن العاص زاوية الإمام الشافعي، وكانت في الجهة الشرقية منه، وكان يجلس إليها بعد صلاة الفجر، فيجيئه أهل القرآن، فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء أهل الحديث، فيسألونه تفسيره ومعانيه، فإذا ارتفعت الشمس قاموا فاستوت الحلقة للمذاكرة والنظر، فإذا ارتفع الضحى تفرقوا، وجاء أهل العربية والعروض والنحو والشعر، فلا يزالون إلى قرب انتصاف النهار، ثم ينصرف بعد ذلك إلى بيته.

في حين يعود تاريخ إنشاء الخوانق في مصر إلى القرن الخامس الهجري - الحادي عشر الميلادي، حيث كانت عبارة عن دور للعلم والعبادة وقامت بأدوار دينية اجتماعية وثقافية مهمة في حياة المجتمع المصري. وقد مرت تلك الخوانق بعدة أطوار تاريخية: فكانت أولا معاهد للمذاهب الفقهية والحديث والقراءات والتصوف وغير ذلك من العلوم الشرعية وما يتصل بها، وكانت ثانيا مواقع إيواء لكل وافد (ولاجئ سياسي) إلى الديار من البلاد الإسلامية الأخرى ممن لم يكن لهم مأوى، وكانت ثالثا مراكز إشعاع ثقافي بما احتوته بعض مكتباتها من الكتب المصنفة في كثير من العلوم والمعارف.

ومما يدل على ذلك، أن خانقاه شيخو كانت تشتمل – طبقا لما ورد في وقفيتها - على أربعة دروس للمذاهب الفقهية، إلى جانب درس للحديث النبوي، وآخر لإقراء القرآن بالقراءات السبع، وقد جعل لكل درس من هذه الدروس مدرس وجماعة اشترط عليهم حضور الدرس وحضور وظيفة التصوف.

ومن المعلوم أن لفظ الخانقاوات يرد في الكثير من المصادر التاريخية، فيذكر ابن بطوطة على سبيل المثال (القرن الثامن الهجري - الرابع عشر الميلادي) أن أصل الخانقاه هو الزاوية. وقد تبعه في ذلك المقريزي (في القرنين الثامن والتاسع الهجريين - الرابع والخامس عشر الميلاديين) حين ذكر أن «الخوانك جمع خانكاه»، وهي كلمة فارسية تعني البيت، وقيل أصلها «خونقاه» أي الموضع الذي يأكل فيه الملك، مؤكدا أن الخوانك حدثت في الإسلام في حدود الأربعمائة من سني الهجرة وقد جعلت لتخلي الصوفية فيها لعبادة الله تعالى.

وكذلك اتفق السيوطي (في القرنين التاسع والعاشر الهجريين- الخامس والسادس عشر الميلاديين) في اللفظ مع ما ذكره ابن بطوطة واختلف فيه مع ما أشار إليه المقريزي حين قال إن «جمعها خوانق» وهي معاهد دينية أنشئت لإيواء المنقطعين للعلم والزهاد والعباد، وجعلت لتخلي الصوفية فيها للعبادة والتصوف. ثم جاء علي باشا مبارك (القرن الثالث عشر الهجري - التاسع عشر الميلادي) فأعاد ما ذكره المقريزي مختلفا مع ما أشار إليه كل من ابن بطوطة والمحقق السيوطي، فقال بأن «الخوانك» مفردها «خانكاه» بالكاف وهي كلمة فارسية معناها البيت.

وبالرجوع مرة أخرى إلى المقريزي نلاحظ تأكيده على أن زيد بن صوحان بن صبرة هو أول من اتخذ بيتا للعبادة في عهد ثالث الخلفاء الراشدين حينما عمد إلى رجال من أهل البصرة كانوا قد تفرغوا للعبادة وليست لهم تجارات ولا غلات، فبنى لهم دورا وأسكنهم فيها وجعل لهم ما يقوم بمصالحهم من ملبس ومطعم ومشرب، ثم جاء يوما لزيارتهم فإذا بعبد الله بن عامر - عامل عثمان بن عفان على البصرة - قد دعاهم، فأتاه زيد وقال له: يا ابن عامر ماذا تريد من هؤلاء القوم؟ قال: أريد أن أقربهم فيشفعوا (في الرعية) فأشفعهم (فيهم)، ويشيروا علي فأقبل منهم (أي أشركهم في الشورى السياسية والاجتماعية وأجعلهم بمثابة أهل الحل والعقد أو الحاشية). قال زيد: أتأتي إلى قوم قد انقطعوا إلى الله تعالى فتدنسهم بدنياك وتشركهم في أمرك، حتى إذا ذهبت أديانهم أعرضت عنهم فطاحوا [أي هلكوا] لا إلى الدنيا ولا إلى الآخرة؟! ثم أشار إليهم بقوله: قوموا فارجعوا إلى مواضعكم، فقاموا فأمسك ابن عامر فما نطق بلفظة! وفي كل الأحوال، سرعان ما اتسعت النشاطات التي تقوم بها الخانقاوات بصورة لافتة، ومما يدل على ذلك جملة الوظائف التي كانت تنطوي عليها: منها شيخ الخانقاه وإمامها وناظر وقفها، ومدرسو المذاهب الفقهية ومعيدوهم، والكحال، والجرائحي، والطبائعي، وخازن الكتب، وكاتب الغيبة، والشاهد، والمؤذن، والمزملاتي، ومشرف الحمام، ومشرف المطبخ، والطباخ، وخادم الشيخ، وخادم الربعات الشريفة، والبواب، والفراش، وسواق الساقية، والوقاد.. إلخ. وإن دل هذا الكم الهائل من الوظائف على شيء؛ فإنما يدل على حجم ما كان في هذه الخانقاوات من وظائف متنوعة، بحيث يتقاضى كل واحد من هؤلاء نظير عمله أجرا نقديا راعى فيه الوقف أن يتناسب مع وضعه الاجتماعي وثرائه المالي، بالإضافة إلى ما كانوا يشتركون فيه جميعا من وجبات الطعام والملبس وغير ذلك من الأرزاق الوافرة التي كانت توزع عليهم. ليس غريبا إذن، والحال هذه، ما يذكره ابن جبير عن صوفية عصره بأنهم ملوك هذه البلاد؛ لأن الله قد كفاهم مؤن الدنيا وفضولها، وفرغ خاطرهم لعبادته من الفكر في أسباب المعايش، وأسكنهم في قصور تذكرهم بقصور الجنان! رغم أن حياة الصوفي الحقة كانت قد قامت على أساس من التقشف في الملبس والمأكل وغير ذلك من أمور الدنيا، على نحو ما عبر عنه الدسوقي بالقول: «إن الصوفي الحق قوته الجوع ومطره الدموع ووطره الرجوع».

* كاتب مصري