التجديد الفكري الإسلامي والزمن المنقضي

رضوان السيد

TT

عندما أصدر الأزهر وثيقته في الدولة المدنية ومهمات الأزهر في المرحلة المقبلة، جادلته في الشكل والمضمون ثلاثة اتجاهات: الاتجاه الأول الاتجاه السلفي في مصر، وقد اعتبر بعض دعاته أن هذه الوثيقة ما كان لها داع، وأن بعض ما جاء فيها يخرج على مسلمات إسلامية. والاتجاه الثاني، وهو قريب من الإخوان المسلمين، وقد رأى كاتبوه أنهم سبقوا إلى الكتابة في هذه المواضيع منذ الثمانينات، وبشكل أفضل أحيانا مما ظهر في الوثيقة، فلماذا لم يشركوا ولم يؤخذ رأيهم؟ والاتجاه الثالث، ويمكن القول إن أتباعه وكاتبيه من أهل الإسلام التقليدي أو إسلام المذاهب الفقهية، وقد رأى هؤلاء أن مهمات الأزهر في الأزمنة الماضية والحاضرة كانت ولا تزال: التعليم والفتوى، والدخول في قضايا الشأن العام كما ظهر في الوثيقة سيجعل من الأزهر موضعا للخلاف والانقسام بين مؤيدي التدخل ومعارضيه. ولذا فقد كان الأفضل لو انصب التفكير على تطوير برامج التعليم الديني الأساسي والعالي، ولو انصب على إعادة التفكير في الفتوى وتنظيمها.

لقد كنت في الأصل أنصر التوجه الثالث هذا، لأن هذه المهمات التعليمية والإفتائية هي الماضية والباقية والأكثر أهمية وفائدة للإسلام والمسلمين. كنت ذلك وأحتج له في الرحلة الماضية، كما سبق القول، بسبب تصاعد الانقسامات بين الاتجاهات الدينية الثلاثة الكبرى: السلفية والصوفية والإخوان، وبسبب تصاعد الجدالات بين السنة والشيعة. لقد رأيت وقتها أن المؤسسات الدينية إذا تدخلت فعلى مستويين: مستوى دعم الاستقرار العام، والإنكار على التطرف والعنف - ومستوى التدخل في الجدالات بين الفرق الثلاث، أو بين السنة والشيعة، من أجل فض النزاعات، واستعادة الوحدة الإسلامية. وقد رأيت أن المستوى الأول محمود ومفيد لمجتمعاتنا ولاستقرارنا ومواجهتنا للتحديات مجتمعين، بدلا من انقسامات التطرف، والمزايدات.أما المستوى الثاني فما رأيته مفيدا أو مجديا.. ذلك أن مواطن النزاع كل الوقت كانت على علاقة الدين بالدولة، وعلى إقامة الدولة الإسلامية التي تطبق الشريعة. وفي حالة السنة والشيعة، فقد كانت بشأن السياسات الإيرانية في المنطقة العربية، وتحزب جماعات شيعية وسنية لإيران لهذا السبب أو ذاك، وفي الغالب لأن هذه الجماعات كانت عندها مشكلة مع أنظمتها السياسية، وهي تستنصر بإيران من أجل جعل معارضتها أقوى، وبزعم أن السياسات الإيرانية تخدم في القضية الفلسطينية، وفي مواجهة الولايات المتحدة التي تغزو بلدانا في العالمين العربي والإسلامي، دون أن تلقى المقاومة المنتظرة! والتدخل في هذين الأمرين: أمر علاقة الدين بالدولة، وأمر إيران والعرب، من جانب المؤسسات الدينية، لن يقنع أحدا من الحزبيين. فالحزبي يريد الاستيلاء على الدولة باسم الإسلام، وهو يعتبر إيران دولة إسلامية كبرى (وهي كذلك)، ولا حرج في الاستنصار بها على النظام الذي يعارضه. وقد كان على المؤسسات الدينية لو تدخلت في الأمر الأول، أن تعمد للتمييز في التعامل بين الديني والسياسي، فلا ترى في رؤية الحاكمية أمرا صحيحا، وبالتالي لا يمكن الوصول للقول بالخروج على السلطان بالسيف بحجة أنه لا يطبق الشريعة. وما دام عالم المؤسسة لا يقول بالخروج، فقد كان معتبرا من أهل السلطة ومن فقهاء السلطان وسط ذلك الجو الانقسامي المقبض، وقد حدث ذلك عندما حاول بعض العلماء التدخل في النزاع السني - الشيعي الظاهر. فقد قالوا إنه لا مشكلة بين السنة والشيعة من الناحية الدينية، وإنما هي مشكلة استجدت ذات أبعاد سياسية. فقد رد بعض أهل الإسلام السياسي، أن القائل من العلماء ليس قصده التهدئة بين السنة والشيعة، بل هو من فقهاء السلطان.

إن الذي أراه أن كل هذه الاعتبارات سقطت في الزمن العربي الجديد، عندما نزل الجمهور العربي المسلم إلى شوارع مدننا وبلداتنا بقصد التغيير باسم الحرية والكرامة، واستعادة إدارة الشأن العام. ما عادت هناك ثنائيات متناقضة تسخر كل شيء لخدمة دعواها وأغراضها، وتشويه كل ما يخالفها أو يقف في وجهها بأي شكل. بل صار هم الجميع (ومن بينهم أهل الإسلام السياسي)، أن ينضموا إلى هذا الجمهور، وأن يكسبوا لبرامجهم عنده ومعه في الانتخابات الحرة المقبلة، والتي يسبقها ويتساوق معها نقاش علني يعتمد الإقناع. وهكذا فإن السلطات التي كانت تمنع أهل الإسلام السياسي ما عادت حاضرة، كما أن المتطرفين العنيفين ما عادوا حاضرين، ولا عادت لهم شعبية. وما عاد يفيد الإسلامي في شيء أن تدعمه إيران إن لم يجد في الجمهور من يقف معه وينصر توجهه، بل الأحرى القول إن على من يريد العمل السياسي والنجاح فيه، فالأفضل له ألا ينتصر للتدخل الإيراني في الشأن العربي أو المصري، وألا يتدخل في مسائل دينية ذات خلفية سياسية بين الشيعة والسنة.

وما سقط التحفظ فقط، بل صار من واجب العلماء والمؤسسات الدينية التدخل للمراجعة والتصحيح. فقد كانت الأجواء متوترة، والأطروحات متوترة، وكل يستنصر بالإسلام ويستخدمه لخدمة غرضه السياسي الحزبي. أما اليوم فمن الضروري التدخل لتصحيح المفاهيم في سائر الشؤون وأهمها العلائق بين الدين والدولة، وبين المؤسسات الدينية والعمل في الشأن العام. ففي مذهب أهل السنة والجماعة، أن إدارة الشأن العام - القائم على المصالح - هي من حق الجماعة والمجتمع، وأن الدين (السنة) يشكل الأساس التعبدي والأخلاقي لأفراد المسلمين وجماعاتهم. إن مجتمعاتنا وهي تفكر وتتصرف في تسلم شؤونها وإدارتها من جديد تمتلك الحس الأخلاقي العالي والمرجعي المستمد من الدين، فلا تنفصل في وعيها وتصرفها الشريعة عن السلوك. فالمسلم مؤتمن على دينه وشريعته، وهو انطلاقا من هذه الأمانة يمارس «العمل الصالح» من خلال العمل الدنيوي لإعمار حياته وإعمار العالم باعتباره مستخلفا فيه. فكل نظام سياسي يصطلح المسلمون على إقامته هو نظام إسلامي، لأن جماعة المسلمين هي التي أقامته أو اصطلحت عليه وأظهر سوادها الأعظم الولاء له. نعم، إن عمل علمائنا الأساسي هو التعليم والفتوى والدعوة. والتعليم معروف، والفتوى معروفة، وهذان الأمران محتاجان إلى عمل كثير وجاد، فهي المهمات التي لا يستطيع القيام بها غير علماء المسلمين الأوساط والكبار، وذوي السمعة والمصداقية والثقة لدى كرام الناس وأهل الحرمات. أما الدعوة فيدخل فيها علماء الدين المختصون، ويدخل فيها المختصون المتدينون والملتزمون في شتى المجالات. وهؤلاء هم المولجون بالمفاهيم وتصحيحها، وهم الذين بحكم معرفتهم بالعالم، يستطيعون الدفاع عن صورة الإسلام، ومواجهة التحديات العالمية التي يتعرض لها هذا الدين، وهذه الأمة. والفريق الذي كتب وثيقة الأزهر بشأن الدولة المدنية، هو من العلماء وأهل الثقافة والدعوة بشكل عام. وهذا مسلك سليم، لأنه يجمع سائر أطياف مصر، ويتصدى لمهمة تصحيح مفهوم أساسي بشأن الدولة المدنية بل والوطنية، والتي جرى تشويه مفهومها وصورتها من جانب أهل الإسلام السياسي، ومن جانب الأنظمة في الوقت نفسه. ثم إن المجتمعات الإسلامية مجتمعات رحبة وتعددية في التاريخ والحاضر. وقد حدثت تشددات وانقسامات في العقود الأخيرة شرحنا ظروفها، بحيث ما عاد من السهل الكلام والتوافق على مبدأ المواطنة، وحكم القانون. وقد كانت للإخوة في مصر منذ ثلاثة عقود اجتهادات في مسألة «الجماعة الوطنية»، رأوها خاصة بمصر، لكنها في الحقيقة اجتهاد مفيد لسائر المجتمعات الإسلامية. وما فعل الأزهر أكثر من ذلك في وثيقته، ولذا لم تكن هناك حاجة إلى الانتقاد من جانب الإسلاميين، وفقط لأن فلانا أو علانا ما شارك في كتابتها.

نحن محتاجون إلى نهوض فكري إسلامي لسببين ملحين: الخروج من المرحلة الانقسامية الماضية، والتساوق والتلاؤم مع الحاضر المتغير والمستقبل الذي يرتاد شبابنا آفاقه الآن، وهم محتاجون إلى علمائهم، بقدر حاجة العلماء إلى إطلالة جديدة على الجمهور المسلم، والساحة العالمية لهذا الدين العالمي.