جدالات السلطة والمعرفة في التجربة الإسلامية

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

كان الشيخ ابن دقيق العيد (ت 702هـ) لا يخاطب السلطان إلا بقوله: «يا إنسان»! فما يخشاه ولا يتعبد له ولا يخلع عليه ألقاب العظمة والجبروت ولا يزينه بالنفاق ولا يداحيه، كما كان يصنع غيره من علماء السوء، وكان هذا عجبا عجابا، غير أن تمام العجب إنما يكمن في أن الشيخ لم يكن يخاطب أحدا من عامة الناس إلا بهذا اللفظ عينه: «يا إنسان»، فما يعلو بالسلطان والأمراء، ولا ينزل بالمساكين والضعفاء، ولا يرى أحسن ما في هؤلاء وهؤلاء إلا الحقيقة الإنسانية! وذات يوم، قال له الشيخ تاج الدين محمد بن علي الملقب بطوبر الليل (ت 717هـ): يا سيدي، أراك تخاطب السلطان بخطاب العامة، فإن علوت قلت «يا إنسان» وإن نزلت قلت «يا إنسان»، أفلا يسخطه هذا منك؛ وقد تذوق حلاوة ألفاظ الطاعة والخضوع، وخصه النفاق بكلمات هي ظل الكلمات التي يوصف بها الله، ثم جعله الملك إنسانا بذاته في وجود ذاته، حتى أصبح من غيره كالجبل والحصاة، يستويان في العنصر ويتباينان في القدر وأقله مهما قل هو أكثرها مهما عظمت، ووجوده شيء ووجودها شيء آخر؟! فتبسم الشيخ وقال: يا ولدي، إننا نفوس لا ألفاظ والكلمة من قائلها هي بمعناها في نفسه لا بمعناها في نفسها، فما يحسن بحامل الشريعة أن ينطق بكلام يرده الشرع عليه، ولو نافق الدين لبطل أن يكون دينا، ولو نافق العالم الديني لكان كل منافق أشرف منه، فلطخة في الثوب الأبيض ليست كلطخة في الثوب الأسود، والمنافق رجل مغطى في حياته، ولكن عالم الدين رجل مكشوف في حياته، فهو للهداية لا للتلبيس، وفيه معاني النور لا معاني الظلمة، وذاك يتصل بالدين من ناحية العمل، فإذا نافق فقد كذب، والعالم يتصل بالدين من ناحية العمل وناحية التبيين، فإذا نافق فقد كذب وغش وخان في آن معا! وما معنى العلماء بالشرع؛ إلا أنهم امتداد لعمل النبوة في الناس دهرا بعد دهر، ينطقون بكلمتها، ويقومون بحجتها، ويأخذون من أخلاقها كما تأخذ المرآة النور: تحويه في نفسها وتلقيه على غيرها، فهي أداة لإظهاره وإظهار جماله معا. أتدري يا ولدي ما الفرق بين علماء الحق وعلماء السوء؟ كلهم آخذ من نور واحد لا يختلف: إن أولئك في أخلاقهم كاللوح من البلور، يظهر النور نفسه فيه ويظهر حقيقته البلورية، وهؤلاء بأخلاقهم كاللوح من الخشب يظهر النور حقيقته الخشبية لا غير! كما أن عالم السوء يفكر في كتب الشريعة وحدها، فيسهل عليه أن يتأول ويحتال ويغير ويبدل ويظهر ويخفي، ولكن العالم الحق يفكر مع كتب الشريعة في صاحب الشريعة، فهو معه في كل حاله يسأله: ماذا تفعل وماذا تقول؟ والرجل الديني لا تتحول أخلاقه ولا تتفاوت ولا يجيء كل يوم من حوادث اليوم، فهو بأخلاقه كلها، لا يكون مرة ببعضها ومرة ببعضها، ولن تراه مع ذوي السلطان وأهل الحكم والنعمة كعالم السوء هذا الذي لو نطقت أفعاله لقالت لله بلسانه: هم يعطونني الدراهم والدنانير.. فأين دراهمك أنت ودنانيرك؟! ويستطرد قائلا: إن الدينار، يا ولدي، إذا كان صحيحا في أحد وجهيه دون الآخر، أو في بعضه دون بعض، فهو زائف كله، وأهل الحكم والجاه حين يتعاملون مع هؤلاء إنما يتعاملون مع قوة الهضم فيهم! فينزلون بذلك منزلة البهائم: تقدم أعمالها لتأخذ بطونها، والبطن الآكل في العالم السوء يأكل دين العالم فيما يأكله! فإذا رأيت لعلماء السوء وقارا فهو البلادة، أو رقة فسمها الضعف، أو محاسنة فقل إنها النفاق، أو سكوتا على الظلم فتلك رشوة يأكلون بها! واقع الأمر أن من يقرأ نصا بالغ العمق والدلالة كهذا، لا يمكنه سوى أن يتحسر على ذهاب أنموذج «العالم العامل» في عالمنا المعاصر، خاصة حين يقارن بين مواقف العلماء العارفين من السلطة قديما وما هم عليه اليوم! وفي المقابل من ذلك؛ فإننا لا نستغرب ما فعله ابن دقيق العيد بالنظر إلى حال أستاذه سلطان العلماء العز بن عبد السلام (ت 660هـ)، والذي بلغ من تجرده أنه أفتى بضرورة بيع أمراء المماليك لأنهم عبيد! لنستمع إلى الإمام طوبر الليل وهو يقول في سلطان العلماء: ما رأيت مثل شيخي عز الدين بن عبد السلام. فلقد كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شيئا تصنعه طبيعته كما يصنع جسمه الحياة، فلا يبالي هلك فيه أو عاش، إذ هو في الدم كالقلب، لا تناله يد صاحبه ولا يد غيره، ولم يتعلق بمال ولا جاه ولا ترف ولا نعيم، فكان تجرده من أوهام القوة لا يغلب، وانتزع خوف الدنيا من قلبه فعمرته الروح السماوية التي تخيف كل شيء ولا تخاف، وكان بهذه الروح كأنه تحويل وتبديل في طباع الناس، حتى قال الملك الظاهر بيبرس - وقد رأى كثرة الخلق في جنازته حين مرت تحت القلعة - : الآن استقر أمري في الملك، فلو أن هذا الشيخ دعا الناس إلى الخروج علي لانتزع مني المملكة!! وكان سلطانه في دمشق، الصالح إسماعيل، قد استنجد بالإفرنج على الملك نجم الدين أيوب، سلطان مصر، فغضب الشيخ وأسقط اسم الصالح من الخطبة وخرج مهاجرا، فأتبعه بعض خواصه يتلطف به ويقول له: ما بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه، وأكثر مما كنت عليه، إلا أن تنخشع للسلطان وتقبل يده! فقال له الشيخ: يا مسكين! أنا لا أرضى أن يقبل السلطان يدي! أنتم في واد وأنا في واد! ثم قدم إلى مصر في سنة 639هـ، فأقبل عليه السلطان نجم الدين أيوب، وكان ملكا شديد البأس، لا يجسر أحد أن يخاطبه إلا مجيبا، ولا يتكلم أحد بحضرته ابتداء، وقد جمع مع المماليك الترك ما لم يجتمع مثله لغيره من أهل بيته، حتى كان أكثر أمراء عسكره منهم، وهم معروفون بالخشونة والبأس والفظاظة والاستهانة بكل أمر، فلما كان يوم العيد صعد إليه الشيخ وهو يستعرض الجند ويظهر ملكه وسطوته والأمراء يقبلون الأرض بين يديه، فناداه الشيخ بأعلى صوت ليسمع هذا الملأ العظيم: يا أيوب! ثم أمره بإبطال منكر انتهى إلى علمه في حانة تباع فيها الخمر، فرسم السلطان لوقته بإبطال الحانة واعتذر إليه! وحين اجتمع الشيخ إلى تلميذه طوبر الليل، سأله الأخير: أما خفته (أي السلطان)؟ فقال الشيخ: يا بني، إنني استحضرت هيبة الله تعالى فكان السلطان أمامي كالقط! ولو أن حاجة من الدنيا في نفسي لرأيته الدنيا كلها؛ بيد أني نظرت بالآخرة فامتدت عيني فيه إلى غير المنظور للناس، فلا عظمة ولا سلطان ولا بقاء ولا دنيا، بل هو لا شيء في صورة شيء! إنما نحن، يا ولدي، مع هؤلاء كالمعنى يصحح معنى آخر، فإذا أمرناهم فالذي يأمرهم فينا هو الشرع لا الإنسان، وهم قوم يرون لأنفسهم الحق في إسكات الكلمة الصحيحة أو طمسها أو تحريفها، فما بد أن يقابلوا من العلماء والصالحين بمن يرون لأنفسهم الحق في إنطاق هذه الكلمة وبيانها وتوضيحها. فإذا كان ذلك فها هنا المعنى بإزاء المعنى، فلا خوف ولا مبالاة ولا شأن للحياة والموت! وإنما الشر كل الشر أن يتقدم العالم لحظوظ نفسه ومنافعها، فيكون باطلا مزورا في صورة الحق، وها هنا تكون الذات مع الذات، فيخشع الضعف أمام القوة، ويذل الفقر بين يدي الغنى، وترجو الحياة لنفسها وتخشى على نفسها، فإذا العالم من السلطان كالخشبة البالية النخرة حاولت أن تقارع السيف! إن السلطان والحكام مجرد أدوات يجب تعيين عملها قبل إقامتها، فإذا تفككت واحتاجت إلى مسامير دقت فيها المسامير، وإذا انفتق الثوب فمن أين للإبرة أن تسلك بالخيط الذي فيها إذا هي لم تخزه؟ إن العالم الحق كالمسمار إذا أوجد المسمار لذاته دون علمه كفرت به كل خشبة فاسدة! وختاما، لعل هذين المثالين يكشفان لنا بقوة ووضوح: كيف كان لرجال العلم والتصوف في مصر مكانة سياسية واجتماعية كبيرة يعمل لها السلطان ألف حساب وحساب، ناهيك عن أنهم تربعوا على عرش قلوب المصريين الذين كانوا ينظرون إليهم باعتبارهم «الحصن الأخير» ضد قوى التسلط والقهر والجبروت والاستبداد! وفي هذا السياق، تشير المصادر التاريخية إلى أن بعض الولاة كانوا يستغلون مناصبهم في جمع المال، مما دفع عمر بن الخطاب إلى مقاسمة بيت المال هؤلاء العمال. فيذكر البلاذري - على سبيل المثال - عن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا ولى عاملا له، يسجل أمواله قبل الولاية (أي يجبره على تقديم إقرار للذمة المالية وفق المعنى القانوني المعاصر)، ثم يقاسمه ما زاد على ذلك فيما بعد.

ويذكر ابن عبد الحكم أن موقفه هذا كان نتيجة لأبيات شعر أرسلها له مجهول، تشير بأصابع الاتهام إلى مصادر أموال العمال، وفي مقدمتهم: عمرو بن العاص، الذي كتب إليه عمر بن الخطاب: «أما بعد، فإنكم معشر العمال قعدتم على عيون الأموال، فجبيتم الحرام، وأكلتم الحرام، وأورثتم الحرام. وقد بعثت إليك محمد بن سلمة الأنصاري ليقاسمك مالك، فأحضره مالك والسلام».

* كاتب مصري