مؤسسة الواحة.. والربيع العربي الغامض

إميل أمين

TT

من مدينة فينيسيا «البندقية» في إيطاليا، يأتي الحديث هذه المرة، فعلى مدار ثلاثة أيام، عقدت اللجنة العلمية لمؤسسة الواحة الدولية لتعزيز الحوار بين المسلمين والمسيحيين في العالم أعمالها، واتخذ المؤتمر عنوانا له، جاء لافتا للنظر ومتسقا مع الأحداث الجارية: «الشرق الأوسط إلى أين.. نحو المدنية الجديدة، وما لم يكن متوقعا في شمال أفريقيا».

بداية، نحن أمام عدة علامات استفهام: ما هي مؤسسة الدوحة؟ وإلام تهدف؟ ثم ماذا عن الذي دار في أعمال تلك الندوة؟ وثالثا هل بات الربيع العربي شأنا دوليا وليس عربيا فحسب؟ ثم أخيرا ماذا عن البيان والرؤية الختامية لهذا الحدث المهم؟

من الأهمية بمكان التعرف على تلك المؤسسة التي أسسها بطريرك البندقية الكاردينال أنجلو سوكولا، وقد كان مرشحا في وقت ما، ضمن المرشحين لمنصب البابوية في الانتخابات الأخيرة عام 2005، التي جرت في الكنيسة الكاثوليكية بعد وفاة البابا يوحنا بولس الثاني.

في سبتمبر (أيلول) من عام 2004، تأسست «الواحة» ضمن ما يعرف بالمعهد المرقسي العام، وهي شبكة عالمية من العلاقات التي تشجع على المعرفة واللقاء بين المسيحيين والمسلمين وتتوزع نشاطات المؤسسة وتأملاتها وأبحاثها بين ثلاثة محاور أساسية وهي:

** تمازج الحضارات والثقافات: وبحسب تعريف المؤسسة، فإن ذلك التمازج ليس إلا العملية التاريخية الجارية حاليا في اختلاط الشعوب والثقافات، اختلاطا لم يسبق من قبل. ولا يشير التمازج إلى نظرية في الاندماج الثقافي، ولا إلى نظرية متكاملة لفهم الواقع. فهو يود بكل بساطة أن يسجل حالة واقعية تستدعي الجميع، سواء أردنا أم لا، على المستوى الشخصي والاجتماعي، تاركا لكل واحد مسؤولية توجيهها نحو الحياة الصالحة.

** الكنائس المسيحية الشرقية: ففي محاولة من المؤسسة القفز على القوالب النمطية التي عرفت طريقها إلى الإسلام والمسلمين، سيما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر من عام 2001، عمدت «الواحة» إلى اتخاذ مقاربة جديدة نحو العالم الإسلامي بواسطة خبرة المسيحيين الشرقيين الذين يعيشون في بلاد ذات أغلبية إسلامية، وشهادتهم شهادة حق، غير مجروحة، تتجاوز التأطير النظري، أو الأدلجة الفكرية.

وتحث «الواحة» المسيحيين الشرقيين على أن يتحملوا كليا مهمة مرافقة الغرب نحو اللقاء مع الأديان وخاصة الإسلام.

** التفسير الثقافي لأشكال الإسلام: ترى «الواحة» أن أسلوب الشراكة مع المسيحيين الشرقيين له مضمون خاص، وهو التفسير الثقافي لتعدد الإسلام. فالأديان يعتمدها أتباعها داخل تفسير ثقافي معين وانطلاقا من خيار إيمان كل مؤمن، يؤدي هذا التفسير الثقافي إلى نتائج ملموسة ثقافية واجتماعية.

وباختصار، فإن «الواحة» تضع في صدارة أولوياتها المقارنة مع ما تسميه «إسلام الشعب»، وهو تعبير يحاول أن يتخطى الثنائية النمطية الأخيرة، التي تقسم المسلمين إلى فسطاطين، معتدل وراديكالي، والتوجه صوب معاملة مع الحياة الدينية الملموسة لأغلبية المؤمنين المسلمين.

«أي إنسان يريد أن يكون إنسان الألفية الثالثة؟ اختباره الخاص؟ أم إنسان - العلاقة في أن يكون منفتحا على لقاء الآخر وتقبله؟

كان هذا التساؤل الأهم الذي رسمه البطريرك سوكولا، المؤسس ورئيس المؤسسة، في كلمته الافتتاحية التي أشار فيها إلى أنه تزامنا مع الأهمية الجديدة للشأن الاقتصادي، برزت في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، مطالب قوية بالمزيد من الحريات الفردية، ورقابة أكثر فعالية على أجهزة الدولة. وقد تقدمت بعض القطاعات بمطلب إعادة تنظيم المجال العام، ليصبح أكثر تعددية وليبرالية، أي أن يكون قادرا على إحداث التغيير الداخلي المطلوب.

وقد أثار بطريرك البندقية في كلمته قلقا واضحا لجهة النمط الذي سيرسمه التغيير مع تشكل المجال العام الجديد في الشرق الأوسط، أو في الغرب، وعلى نحو خاص لجهة مستقبل مسيحيي الشرق الأوسط، داعيا إلى مجتمع إنساني منفتح فيه كل فرد على كل الأشخاص من ذوي الإرادة الحسنة.

وعلى الرغم من حضور ضيوف كثر من الأكاديميين العرب والأوروبيين، مثل البروفسور والمستشرق الفرنسي «أوليفر روا»، والبروفسور «نيكولا لوبكوفيتش» مدير معهد زيموس للدراسات حول أوروبا الشرقية والوسطى، فإن صوت الشرق كان الأعلى والأوقع متمثلا في عدد من رجالات الدين المسيحي وبعض من الأكاديميين العرب من المسلمين والمسيحيين على السواء.

على أن المكانة الرفيعة التي يحظى بها البطريرك المصري للأقباط الكاثوليك (المصريين الكاثوليك، ويبلغون نحو ربع مليون نسمة)، الأنبا أنطونيوس نجيب، كانت وراء اهتمام وسائل الإعلام الغربية، بالتركيز على كلمته، سيما أنه آت من مصر الثورة، مصر 25 يناير، بكل تبعاتها واستحقاقاتها.

ولعل أوقع ما أشار إليه البطريرك المصري، هو أن الثورة لم تحمل طابعا دينيا، بل على العكس عززت من أواصر العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، ومشيرا إلى الكيفية التي أحاط المسيحيون بها إخوانهم وأخواتهم من المسلمين في ميدان التحرير أثناء تأدية صلواتهم، كي لا يتعرضوا إلى أي خطر.

على أن هذا لم يمنع من إظهار مخاوف أشار إليها البطريرك المصري تصريحا لا تلميحا، وعنده أنه بينما تطالب جماهير الثورة اليوم بدولة علمانية وديمقراطية، فقد برزت على السطح أحزاب دينية تقودها الجماعات السلفية، ملوحة بالدعوة إلى قيام دولة إسلامية.

كيف سيمضي مسيحيو مصر في قادمات أيامهم؟

بحسب البطريرك نجيب: «بالنسبة لنا كمسيحيين، فإننا مصممون على النظر نحو المستقبل بإيجابية وأمل، فسينودس الأساقفة من أجل الشرق الأوسط، قد أعطانا الأمل والرجاء، كما أن حيوية الشعب وإيمانه ستجعل من المستقبل مشرقا».

ماذا عن الحساب الختامي لهذا اللقاء الذي شهد تغطية إعلامية علمانية ودينية غير مسبوقة، وإن غاب عنها الإعلام العربي من أسف شديد؟

مثلما ابتدأ المؤتمر مع الكاردينال المضيف أنجلو سوكولا، اختتم كذلك معه، بكلمة عبر فيها عن أهمية الموضوع الذي تم نقاشه، ومعربا عن ما سماه «مخاوف وآمال الكنيسة في الغرب على المسيحيين العرب»، بعد ما حدث ويحدث في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

أما البيان الختامي، فقد كان أكثر مدعاة للقلق، إذ اعتبر وبحسب النص أن «الربيع العربي غامض، ولا يزال قويا جدا خطر خيانته من قبل الأصولية الإسلامية، أو السلطوية السياسية أو العسكرية».

كما أشار إلى أن «الربيع العربي يعد نقطة اللاعودة، لأنه أبرز الحاجة إلى التعددية داخل الإسلام العربي نفسه، لذا فإن ضمان التعددية والحرية الدينية وحياة الجماعات المسيحية يعتبر الضامن الأفضل لمستقبل ديمقراطي ومجتمع مدني منفتح».

هل باتت إشكالية ما عرف بـ«الربيع العربي»، مع الأخذ في عين الاعتبار أنه لم يتم التأكد بمطلقية الحال ما إذا كان الذي جرى وجار، ربيعا أم خريفا؟ هل باتت إشكالية دولية يمكن أن تعود بنا ولو من باب خلفي إلى أحادي صدام الحضارات والأديان؟

يخشى المرء أن تكون قراءة هنتنغتون المتعلقة بتقسيم العالم إلى معسكرين متقابلين كونفوشيوسي إسلامي، مقابل مسيحي يهودي، نبوءة تجد لها بعض التحقق حال هيمنة المشهد الأصولي على مقدرات الشرق الأوسط، لا سيما إذا أخفقت الدول الثائرة في الرسو على موانئ الدول العلمانية الديمقراطية، التي تحترم الأديان وتنطلق في ذات الوقت من خلفيات إنسانية تواكب الحداثة وتقدس حرية الفكر وتحفظ للفرد معتقده وتصون ضميره من محاكم التفتيش المستحدثة.

هذه المخاوف ربما طفت على ساحة الأحداث الدولية وفرضت نفسها بقوة على الاجتماع السنوي الذي عقد في أواخر شهر مايو (أيار) الماضي بين مسؤولي الاتحاد الأوروبي وممثلي مختلف الطوائف والمعتقدات الدينية في أوروبا.

وقد تمحورت محادثات المشاركين في الاجتماع، الذي نظمه رئيس المفوضية الأوروبية، خوسيه مانويل باروسو، بحضور رئيس الاتحاد الأوروبي هيرمان فان رومبوي، ورئيس البرلمان الأوروبي جيرسي بوزيك، على ضرورة حماية حرية المعتقدات الدينية في أوروبا، كما في خارج حدود الاتحاد الأوروبي بوصفها إحدى دعائم الديمقراطية، وكذلك على ضرورة مساعدة الشباب العربي في ثوراته التي أظهرت «استقلالا تاما عن التيارات الدينية المتطرفة»، حسب استنتاجات المشاركين.

كان من الطبيعي كذلك أن يتطرق المشاركون في الاجتماع إلى القول بضرورة حماية حقوق الأقليات في أوروبا وفي خارجها، «حيث هناك صعوبات تعانيها الأقليات المسيحية في الشرق الأوسط، خاصة في مصر، في ظل التغيرات، ومن واجب الأوروبيين التنبيه إلى أن حرية المعتقد هي أهم دعائم الديمقراطية وجزء أساسي من حقوق الإنسان»، حسب كلام رئيس المفوضية الأوروبية باروسو.

على أن الأخطر في حديث باروسو هو تشديده على «وجود تفاهم في الأوساط الأوروبية حول ضرورة ربط المساعدات المستقبلية الممنوحة لدول جوار المتوسط بمدى ما تحققه هذه الدول على طريق تعزيز الديمقراطيات والحريات وضمن ذلك حرية المعتقد واحترام حماية الأقليات».

والمقطوع به أنه حال وضع تلك التصريحات بجانب ما تقدم به من حوارات في منتدى الواحة، إضافة إلى ما صرح به البابا بندكتوس السادس عشر في الأسبوع الأخير من شهر يونيو (حزيران) الماضي في لقائه بأعضاء اتحاد المؤسسات التي تعمل على مساعدة الكنائس الشرقية، نخرج باستنتاجات مفادها أن الربيع العربي، لا يملك الكثير من اليقين في الوقت الراهن، وأنه يجابه بالكثير من الاختبارات والاستحقاقات التي يتوجب على القائمين على شأنه النجاح فيها، إن أريد له أن يحل المساواة والعدالة والإخاء، محل التمييز والظلم والعزل والإقصاء.. ما الذي قاله البابا في ذلك اللقاء؟

طلب البابا إلى المساعدين والمحسنين من المؤسسات الغربية أن يفعلوا كل ما في وسعهم، بما ذلك جذب اهتمام السلطات العامة التي لهم بها علاقات إنسانية، لكيما يستطيع المسيحيون رعاة ومؤمنين في الأراضي التي نشأوا فيها، أن يعيشوا لا كغرباء بل كمواطنين.. ويضيف أن أبناء الكنائس الشرقية. الشرق هو وطنهم الأرضي. في تلك الأرض، هم مدعوون اليوم أيضا لكي يعززوا دون تمييز خير الجميع، من خلال إيمانهم. يجب الاعتراف بكرامة مساوية وحرية حقيقية لكل الأشخاص الذين يعلنون هذا الإيمان، فيؤدي ذلك إلى تعاون مثمر على صعيد الحوار المسكوني والحوار بين الأديان.

أربعة عشر قرنا من الزمان هو عمر التعايش الإسلامي - المسيحي في الشرق.. فهل بات هذا العيش مهددا اليوم وفي حاجة إلى من يدعمه من الخارج؟

ولدت المسيحية مشرقية، غيث نزل على الشرق وفاض على الغرب، رسالة وحكمة، حواريين وقديسين، قصصا وتعاليم، صلوات وترانيم.. وها هو الغرب يحاول الآن أن يرد إلينا بضاعتنا.. هل الخطأ فيه أم فينا؟

في زمن العولمة والسماوات المنفطرة، أنت لا تملك سلطان تكميم الأفواه، لكن حكما تستطيع التساؤل: «أليس طرح القضايا المصيرية يجب أن يبدأ من الذات وليس من الآخرين.. فانظر ماذا ترى؟».

* كاتب مصري