قراءة في إسهامات الحضارة الإسلامية في عصر النهضة

في إطار التعريف بإنجازات التراث الفكري الإسلامي

TT

قدمت الحضارة العربية الإسلامية في عصورها الذهبية الكثير من المآثر والإسهامات الخالدة، المبدعة المستنيرة، التي أضاءت أنوارها أرجاء العالم، فقد أسهمت بشكل كبير في ازدهار الحضارة الأوروبية المعاصرة، وذلك بالكثير من الأدلة والشواهد التاريخية، واعترافات الكثير من المنصفين والموضوعيين، والتي لا ينكرها إلا جاحد.

ومن بين الأعمال البارزة التي صدرت مؤخرا عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي، وتشكل إضافة نوعية مهمة للمكتبة الغربية في مجال التعريف بإنجازات الحضارة الإسلامية وتراثها الفكري الخالد، والتي أسهمت بدور كبير في تغيير العالم، كتاب «دراسات في الحضارة الإسلامية: إسهامات المسلمين في عصر النهضة»، من تأليف الدكتور أحمد عيسى والدكتور عثمان علي.

ويأتي الكتاب في إطار الحاجة المتزايدة لكتابات ودراسات جادة في الحضارة العربية الإسلامية لفهم التلاقح الثقافي والحضاري في الكثير من المجالات، والتي تعد أكثر أهمية في العصر الحاضر من أي وقت مضى، وبخاصة مع تزايد المشاعر السلبية وأساليب الإساءة تجاه الإسلام والمسلمين نتيجة لجهل أو تجاهل البعض للدور الريادي للحضارة العربية الإسلامية في نهضة الكثير من الحضارات والأمم والشعوب. والهدف من الكتاب ليس فقط تقديم كنز من المعلومات والمعارف عن الإنجازات الرائدة لحضارتنا، ولكن أيضا دوره الحيوي والمهم نحو فهم أفضل لتراثنا الحضاري ودوره المشترك في بناء الحضارة الإنسانية.

فالكتاب محاولة جادة لفهم دور التلاقح بين الثقافات والحضارات، وإنصاف الحضارة الإسلامية وإعادة الحقائق التاريخية لعصرها الذهبي، والتي كانت السبيل للنهضة الإسلامية ونهضة الغرب في العصر الحديث، فقد قدمت الحضارة الإسلامية الكثير من الإسهامات المشرقة في الكثير من المجالات، في الفنون والآداب والثقافة والعلوم والتكنولوجيا، والتي تم اكتشافها وصياغتها بتفاصيل ودقة عالية.

يقول الدكتور أحمد عيسى في تصديره للكتاب، إنه يوجد في العصر الحالي تحامل واسع الانتشار ضد المسلمين في العالم الغربي، لهذا هناك الآن أهمية كبيرة لفهم المسلمين وتاريخهم وإنجازاتهم، وتؤكد هذه الدراسة على أهمية الحاجة للحوار بين الحضارات بدلا من المواجهات والصدامات. ويضيف أن الإسلام قدم حضارة غيرت العالم نحو الأفضل، فقد غطت الحضارة الإسلامية مساحات جغرافية كبيرة، بخلاف الحضارات الأخرى، عبر نصف الكرة الغربي من إسبانيا إلى شمال أفريقيا إلى الشرق الأوسط إلى آسيا. كما عملت الحضارة الإسلامية على التواصل بين العصر الكلاسيكي اليوناني والروماني وعصر النهضة.

أما الدكتور عثمان علي فيقول في المقدمة إن إنجازات الحضارة الإسلامية وإسهاماتها الإيجابية للعالم والنهضة الأوروبية، لم تحظ بالاعتراف والتقدير المناسبين، وهناك أسباب كثيرة لهذا السهو والإهمال، منها النقص في البحوث المتعلقة بهذا المجال، والظروف الحالية غير المشجعة في العالم الإسلامي، ومركزية التوجهات الأوروبية في الدراسات الأكاديمية الغربية.

وعن الحضارة الإسلامية والتعلم، يشير الكتاب إلى أن المعرفة جزء لا يتجزأ من الإسلام، وقد أعلن ذلك المستشرق الأميركي الألماني الأصل فرانز روزنثال (1914 - 2003) في كتابه «المعرفة المنتصرة (knowledge Triumphant) بقوله «المعرفة هي الإسلام». لقد أعلت الحضارة الإسلامية من شأن العلم والتعلم وأدواته، فأول ما نزل من القرآن الكريم على رسولنا الكريم «اقرأ»، وهو أمر إلهي لمن يريد المعرفة والتعلم. قال الله تعالى في سورة «العلق»: «اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم» (الآيات 1 - 5). كما أن كلمة علم وردت في القرآن نحو 750 مرة.

وقد ساعد القرآن الكريم على ازدهار المعارف الجغرافية عند المسلمين، فقد ألهمهم وأثار اهتماماتهم بالجغرافيا، وذلك في الكثير من الآيات، الأمر الذي شجعهم على ابتكار وتطوير الكثير من الوسائل والأجهزة الجغرافية، لإرشاد السفن في الملاحة البحرية، ولمعرفة الاتجاهات الأصلية وتحديد الأوقات، ومن بين هذه الأجهزة «الإسطرلاب»، الذي نقله الغرب عن العرب في العصور الوسطى، وقد استخدمه المسلمون في تحديد اتجاه القبلة بدقة عالية وتحديد مواقيت الصلاة والصيام وبداية الشهور، وتقدير ارتفاع الشمس والأجرام السماوية والميل والبعد، وإرشاد السفن، وكانت لديهم مجموعة متنوعة من الإسطرلابات، منها الخطية والعالمية والموجهة والساعة الإسطرلابية. ومن الأجهزة الأخرى الإبرة أو البوصلة المغناطيسية، واستخدمها المسلمون في الملاحة البحرية ولمعرفة الاتجاهات الأربعة، وقد انتقلت إلى أوروبا أثناء الحروب الصليبية عن طريق البحارة المسلمين.

وعن إسهامات الحضارة العربية الإسلامية في الزراعة والتكنولوجيا، يشير الكتاب إلى أن الزراعة كانت عنصرا أساسيا في تجارة المسلمين، وعاملا محددا للتنوع الثقافي والاقتصادي للعالم الإسلامي، وقد أسهم المسلمون في تقديم ونقل الكثير من المنتجات والمحاصيل الزراعية إلى الغرب وبخاصة الأنواع الجديدة منها، ومن بين الأدلة اللغوية القوية على ذلك، كلمة «شوجر» (sugar) الإنجليزية، فأصلها عربي، وهي مشتقة من الكلمة العربية «سكر» (sukkar).

ومن بين الرواد المسلمين البارزين في القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، الإخوة بنو موسى بن شاكر، وهم محمد وأحمد والحسن، أبوهم موسى بن شاكر، الذي عاش في زمن الخليفة العباسي المأمون وكان من المقربين منه وأتقن علوم الرياضيات والفلك، وعندما توفي تبناهم ورعاهم الخليفة المأمون، وقد أسهم بنو موسى في تطوير علوم الرياضيات والفلك والهندسة والميكانيكا بفضل اختراعاتهم واكتشافاتهم الفريدة، وكانوا من أبرز علماء بيت الحكمة، فقد كان لهم تأثير كبير على الحركة العلمية في عصرهم، ومن بين إنجازاتهم قياس محيط الأرض والذي كانت نتائجه دقيقة لدرجة تقاربها مع النتائج المقاسة حديثا.

لقد استفادت الحضارة الغربية وتأثرت بالحضارة العربية الإسلامية في مختلف المجالات وبخاصة في العلوم والطب. يقول المستشرق دونالد كامبل في كتابه الشهير «الطب العربي وتأثيره في العصور الوسطى» المنشور عام 1926 في جزءين «لقد أدى التراث الطبي الإسلامي إلى ولادة جديدة للنظام الطبي في أوروبا». وأضاف أن «العرب رفعوا من شأن ومكانة وكرامة مهنة الطب».

ويبقى السؤال: كيف يمكن أن نعيد أمجاد حضارتنا ونستنهض ونستحث همم وعزائم أبناء أمتنا التي مزقتها الخلافات، لنستعيد مكانتنا ونستكمل مسيرة وريادة روادنا الأوائل؟