التفكير بين الصخب والهدير

د. عائض القرني

TT

أتحفني أخي الكاتب الأديب المثقف قينان الغامدي في المقال: «عائض القرني المفكر بين والصخب والهدير» بصحيفة «الوطن»، فأما ثناؤه علي فمن لطفه وكرمه - غفر الله لي تقصيري - وأما ملاحظته ونصحه فمحل التقدير عندي، فهو يرى أن أتجه إلى الكتابة والتأمل والاهتمام بالفكرة الناضجة أكثر من الانتشار بالخطب والمحاضرات ومخالطة الجمهور وتشتيت الجهد والطاقة، وكلام أبي عبد الله الأستاذ قينان وافق هوى في قلبي، وقد دل القرآن على أن التفرغ الذهني والبعد عن التشويش منهج جميل للتفكير، قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)، ومعنى الآية: قل يا محمد لكفار قريش الذين يكذبون برسالتك ويرون أنه أصابك جنون إنني أرشدكم إلى طريقة في التفكر والتأمل أن تخلوا بأنفسكم كل واحد منكم على حدة، أو كل اثنين على انفراد؛ ليكون أهدى للفكر وأصفى للذهن بعيدا عن العامة والضوضاء، ثم تتفكروا في المسألة بتجرد، وفكرة الإقبال على موهبة واحدة واستفراغ الطاقة في تجويدها هي مما أجمع عليه عقلاء ونبلاء العالم حتى قال روبرت غرين في كتاب «كيف تمسك بزمام القوة»: بقرة سمينة ولا سبع عجاف، وكل نابغي البشرية وفضلاء الإنسانية حبذوا الخلوة بالفكر حتى قال دانتي شاعر إيطاليا: «العزلة مملكة الأفكار»، وقد جمعت في كتابي: «عز العزلة» غالب أقوال العلماء والحكماء والأدباء في هذه المسألة، حتى إني وجدت أن من ترك مشروعا عمليا خالدا إنما جوده في اعتزال وخلوة، فالغزالي كتب «الإحياء» في رحلة طويلة اعتزل فيها الجمهور، فكان هذا الإشراق والنبوغ والألمعية، وابن خلدون كتب «المقدمة» المذهلة التي هزت العالم وحيدا منفردا في قلعة «ألموت» لمدة خمسة أشهر، والسرخسي الحنفي كتب «المبسوط» الكتاب الشهير وهو معتزل في إقامة جبرية، وفي كتاب: «رحلتي الطويلة إلى الحرية» لنيلسون مانديلا يقول: إنني بعد السجن فقدت في الزنزانة متعة التفكير والتأمل وهي نعمة كبرى. وكان خير البشر سيد ولد آدم رسول الهدى صلى الله عليه وسلم يخلو بغار حراء قبل النبوة الليالي الطويلة وحيدا فريدا يتعبد ويتأمل ويفكر حتى أكرمه الله بالوحي، ولما سأله أحد أصحابه كما في الترمذي: «ما النجاة؟ قال: كف عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك»، ولما وقعت فتنة ابن الأشعث مع الحجاج فر الشعبي العالم الرباني إلى الصحراء، فلما ظفر به الحجاج قال: أين كنت يا شعبي؟ قال: كنت حيث يقول الشاعر:

* عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى - وصوت إنسان فكدت أطير.

وفي كتاب «عشاق الكتب» للفرحان أن الروائي الروسي العالمي «تولستوي» كان يقول: إن متعتي أن أكون في غرفة خالية على سرير ومعي كتب أطالعها، ويقول ابن الجوزي في «صيد الخاطر»: لا أعلم أعز للعالم ولا أشرف ولا أهنأ ولا أسعد له من عزلته مع كتبه، وهذا يقوله أيضا أخي العزيز أبو الطيب المتنبي حيث يقول:

وخير جليس في الزمان كتاب وفكرة أخي قينان تقبلتها بقبول حسن، لأنها وافقت رغبة دفينة قديمة في قلبي، وكما قال ابن أبي ربيعة:

* وذو الشوق القديم وإن تعزى - مشوق حين يلقى العاشقينا.

والنصح إذا أتاك من محب منصف يعترف بالإيجابيات ويذكر السلبيات فإنك تتقبله بنفس رضية، أما غمط الحقيقة عند البعض والتشفي بذكر الأخطاء وإغفال المحاسن وجمع الزلات والفرح بالأخطاء فهذا تطفيف وتزوير حقه التجاهل والإعراض، وأنا أرحب بمدرسة الإنصاف والتواصل والحوار التي تتوسط مدرسة الغلو الديني والإقصاء الفكري والقمع الثقافي، فمرحبا بالفكرة الرائدة التي ينسجها قلم أبي عبد الله وأمثاله، وشكرا لمن يقول الحقيقة في قالب من الأدب والذوق والحشمة والرقي، وبالمقابل أقول لكل غال ومتطرف من كل فئة: «ويل لكل همزة لمزة»، وأهلا وسهلا بالنظرات الجميلة من عيون الأسوياء العقلاء:

* وعين الرضا عن كل عيب كليلة - ولكن عين السخط تبدي المساويا.