تأملات في محنة السلطة.. وسلطة المحنة

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

على مدى التاريخ الإسلامي، كان ثمة فريق من العلماء يرون في القرب من السلطة مجرد «بلوى» تستبعد، بطبيعة الحال، الأهداف الأخرى الشرعية - وحتى المفروضة – فضلا عن أنها كانت تثير لديهم الكثير من مشاعر النفور والاشمئزاز؛ فثمة أفخاخ منصوبة في حضرة القرب السلطاني لكل من تعلق بها أو جاورها بحال من الأحوال.

ولا يتعلق الأمر هنا بعائق محدد وظاهر؛ بل بشبكة خيانات ونفاق يجب تجنبها لدى الآخرين القريبين من السلطان ولدى السلطان ذاته. وعلاوة على خصومة المستشارين الآخرين، هناك بلوى خفية، هي أولا بلوى غرور السلطة، التي تترصد بالمستشار، وثانيا بلوى الضعف والاستسلام، مراعاة لرغبات سلطان جائر كان في أغلب الأحوال لا يظهر أدنى احترام للشرع أو القانون! أضف إلى ذلك أيضا، جملة الفساد والمظالم التي لم تقتصر على الولاة فحسب؛ وإنما امتدت إلى عمال الجباية وأصحاب الشرطة وبعض المحتسبين المرتبطين عضويا بالأنظمة الحاكمة ككبار التجار، بل ومن يناط بهم مهمة تطبيق القانون كالمحتسبين! وفي هذا السياق يروي ابن زولاق أن بعض جيران سيبويه المصري ساءه ولاية ابن سلام على الحسبة فشكاه إلى سيبويه، فركب معه إلى أبي الفضل جعفر بن الفضل فقال له: أبا الفضل، حفظك الله ورعاك وصانك وأبقاك، وليت علينا محتسبا قليل الوفا، كثير الجفا، طويل القفا، فإما أن كفيناه، أو أبدلته لنا بسواه! كما يحكى عنه أيضا أنه لقي المحتسب والحراس بين يديه فقال: ما هذه الأحراس؟ والله ما ثم حق أقمتموه، ولا سعر أصلحتموه، ولا جان أدبتموه، ولا ذو حسب وقرتموه، وما هي إلا أحراس تسمع لباطل يوضع، وأقفاء تصفع، وبراطيل تقطع! لا حفظ الله من جعلك محتسبا، ولا رحم الله لك ولا له أما ولا أبا! وقد بالغ الأمراء في الإسراف والتبذير لدرجة أن أحد الشعراء وصف مائدة عبد العزيز بن مروان بالقول: كل يوم كأنه يوم أضحى عند عبد العزيز أو يوم فطر، وله ألف جفنة مترعات كل يوم يمدهـا ألف قدر! أما أحمد بن طولون، فتذكر المصادر أنه كان ينفق على مطبخه في كل يوم ألف دينار، وبالنسبة لخمارويه فيذكر المقريزي أنه كان ينفق على مطبخه المعروف بمطبخ العامة 23 ألف دينار كل شهر، بالإضافة إلى أرزاق الطباخين ومن يخدمهم.

وكان راتب كافور الإخشيدي في مطبخه – بحسب ما يذكر ابن إياس - في كل يوم ألفي رطل من اللحم البقري، وسبعمائة رطل من اللحم الضأن، ومائة طير إوز، وثلاثمائة طير دجاج... إلخ. أما العوام؛ فقلما يعرفون شيئا من ذلك، وأكثر أغذيتهم الصير والصحناه (السمك الصغير جدا الذي لا يزيد حجمه على الإصبع)، والدليس (أم الخلول)، والجبن ونحو ذلك، وشرابهم المزد، وهو نبيذ يتخذ من القمح.

ليس غريبا إذن، والحال هذا، أن يمتنع بعض الشرفاء من المتصوفة والفقهاء عن تولي مهمة القضاء أو اشتراط الاستقلال لتوليه كأبي خزيمة إبراهيم بن يزيد الرعيني الذي تولى القضاء من قبل يزيد بن حاتم، وقد جمع بينه وبين عمل الأرسان (حبال الماشية) على اعتبار أنها كانت وظيفته الأولى قبل تولي القضاء.

فقد كان أبو خزيمة يعمل كل يوم رسنين: واحدا ينفقه على نفسه وأهله، وآخر يبعث به إلى إخوان له من أهل الإسكندرية، لكل واحد منهم رسن لنفسه. فلما ولي القضاء كتب إليه أهل الإسكندرية: إنا لله وإنا إليه راجعون، وإن كانت الدنيا يا أبا خزيمة مالت بك أن تقطع ما كان الله يجريه على يديك في سبيل الله. فقال: معاذ الله، فكان يعملها، ويبعث بها إليهم.

وحدث أثناء ولايته القضاء أن عبد الأعلى بن سعيد الجيشاني تزوج بامرأة من بني عبد كلال، فقام بعض أوليائها في ذلك وأنكروه، وترافعوا إليه، فقال: ما أحل ما حرم الله، ولا أحرم ما أحل الله إذا زوجها ولي، فالنكاح ماض. فارتفعوا إلى يزيد بن حاتم، وهو الأمير يومئذ، فقال: ليس عبد الأعلى من أكفائها، وأمر أبا خزيمة بفسخ نكاحها، فامتنع من ذلك، وفرق بينهما يزيد.

وذكر عنه أيضا أنه كان إذا غسل ثيابه أو شهد جنازة أو اشتغل بشغل، لم يأخذ من رزقه بقدر ما اشتغل، وكان يقول: إنما أنا عامل للمسلمين فإذا اشتغلت بشيء غير عملهم، فلا يحل لي أخذ مالهم.

ومن أشهر زهاد الفقهاء في ذلك الوقت: عبد الرحمن بن حجيرة الخولاني (ت 83هـ) الذي عُرف بزهده وعلمه، حتى قيل إن رجلا من أهل مصر سأل ابن عباس عن مسألة فقال له: تسألني وفيكم ابن حجيرة؟ وكذلك يزيد بن حبيب، أبو رجاء الأزدي مولاهم المصري (ت 128هـ) الذي كان مفتيا لأهل مصر، وهو أول من أظهر العلم بمصر والمسائل في الحلال والحرام، وكان الليث بن سعد يقول عنه: «هو عالمنا وسيدنا».

وهناك أيضا حيوة بن شريح بن صفوان التجيبي، أبو زرعة المصري الفقيه (ت 158هـ) الذي كان يأخذ عطاء في السنة ستين دينارا، فلا يطلع إلى منزله حتى يتصدق بها، ثم يجيء إلى منزله فيجدها تحت فراشه، وبلغ ذلك ابن عم له فأخذ عطاءه فتصدق به كله وجاء إلى تحت فراشه فلم يجد شيئا، فشكا إلى حيوة فقال: أنا أعطيت ربي بيقين وأنت أعطيته تجربة (اختبارا)! وقبل هذا التاريخ كان عمر بن الخطاب قد كتب إلى عمرو بن العاص بتولية قيس بن أبي العاص قضاء مصر، فولي القضاء عام 23هـ ثم مات بعد 3 أشهر من توليه. وبعد موته كتب إليه عمر أن يستقضي كعبا بن يسار، وكان ممن قضى (تولى القضاء) في الجاهلية، فأبى وقال: قضيت في الجاهلية ولا أعود إليه في الإسلام. والله لا ينجيه الله من أمر الجاهلية، وما كان فيها من الهلكة، ثم يعود فيها أبدا إذ نجاه الله منها! فولى ابن العاص عثمان بن قيس بن أبي العاص بإذن من عمر.

هذا ويعود الرفض لما تواتر من أحاديث ترهب القضاة حتى العادل منهم، ومنها: عن عائشة، رضي الله عنها، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: «يجاء بالقاضي العدل يوم القيامة، فيلقى من شدة الحساب ما يود أن لم يكن قضى بين اثنين». وعن أبي هريرة: «من جعل قاضيا فكأنما ذبح بغير سكين»! وكان عمر بن عبد العزيز يقول في أخلاق القضاة: لا ينبغي للرجل أن يكون قاضيا حتى تكون فيه خمس خصال: يكون عالما قبل أن يستعمل، مستشيرا لأهل العلم، ملقيا للرثع (الحرص والطمع)، منصفا لخصم، محتملا للائمة.

ويذكر أن مروان بن الحكم كان قد أقر القاضي عابس بن سعيد، الذي تولى قضاء مصر من قبل مسلمة بن مخلد (60 - 68هـ) عندما دخل مروان مصر عام 65هـ فقال: أين قاضيكم؟ فدعي له عابس بن سعيد، وكان أميا لا يكتب، فقال له مروان: أجمعت كتاب الله؟ قال: لا. قال: أفجمعت بالفرائض؟ قال: لا! قال: أفتكتب بيدك؟ قال: لا. قال: فبم تقضي؟ قال: أقضي بما علمت، وأسأل عما جهلت. فقال: أنت القاضي! وأضاف إليه ولاية الشرطة والمظالم!! في مقابل ذلك، كتب هشام بن عبد الملك إلى الوليد بن رفاعة بصرف القاضي يحيى بن ميمون (ت 114هـ) قائلا: اصرف يحيى عما يتولاه من القضاء مذموما مدحورا، وتخير لقضاء جندك رجلا عفيفا ورعا تقيا سليما من العيوب، لا تأخذه في الله لومة لائم.

ومن الذين رفضوا تولي القضاء أيضا حيوة بن شريح، وكان من ضمن من رشحوا لتوليه في ولاية يزيد بن حاتم. ويخبرنا ابن عبد الحكم أنه عندما رفض دعي له بالسيف والنطع، فلما رأى ذلك أخرج مفتاحا كان معه وقال: هذا مفتاح بيتي، ولقد اشتقت إلى لقاء ربي! فلما رأوا عزمه تركوه! فعرض على ابن خزيمة، إبراهيم بن يزيد الحميري، ولما امتنع دعي له بالسيف والنطع، فضعف قلب الشيخ ولم يحتمل ذلك وقبل توليه في الفترة (144 - 154هـ).

وممن رفضوا تولي القضاء أيضا لهيعة بن عيسى الذي تولاه - رغما عنه - من قبل عباد بن محمد (196 - 198هـ)، وفي هذا يقول الكندي في كتابه «الولاة والقضاة»: إنه عندما طلب للقضاء تغيب، فسمع وهو يقول: يا رب يقدم عليك إخواني غدا علماء حلماء فقهاء، وأقدم عليك قاضيا، لا يا رب ولو قرضت بالمقاريض! ومنهم الحارث بن مسكين، أبو عمرو المصري، مولى محمد بن زياد بن عبد العزيز بن مروان (154 - 250هـ)، الذي تولاه من قبل المتوكل، وينقل عنه الكندي أنه أتاه كتاب القضاء وهو بالإسكندرية، فلما قرأه امتنع من الولاية، فجبره على قبولها إخوانه، وقالوا: نحن نقوم بين يديك، فقدم الفسطاط وجلس للحكم. وقد تعرض الحارث هذا لمحنة خلق القرآن، حيث حمله المأمون إلى بغداد وسجنه؛ لأنه لم يجب إلى القول بخلق القرآن، وظل محبوسا بها إلى أن ولي المتوكل فأطلقه، على نحو ما سنفصل القول في أمر هذه المحنة لاحقا.

* كاتب مصري