الطريق للأسيزي.. واستحقاقات الحروب الصليبية

إميل أمين

TT

منذ عام 1095، أي مع بداية الحروب التي أطلق عليها العرب حروب الفرنجة، وسماها الغربيون الحروب الصليبية، وحتى الأشهر الأخيرة من العام الحالي، بدا وكأن العالم بشرقه وغربه لم ينس تلك المعارك الوحشية الضارية، التي خلفت ميراثا من العنف الديني، لا يوفر أن يترك بصمة مؤلمة، نفخ فيها في أوائل العقد الماضي الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، غداة ما أطلق عليه البعض غزوتي «نيويورك ومانهاتن»، وتجدد الحديث مؤخرا عن الحروب الصليبية، كما رآها العقيد القذافي في ليبيا.

على أن الأغرب والأعجب، هو ذاك الانتقاد الذي وجهه رئيس الوزراء الروسي، فلاديمير بوتين، لقرار مجلس الأمن الخاص بالأوضاع في ليبيا في أواخر شهر أبريل (نيسان) الماضي، معتبرا أن القرار الذي يسمح بتدخل أجنبي في دولة مستقلة ذات سيادة، يشبه الدعوة لشن الحملات الصليبية في القرون الوسطى.

وعلى الرغم من أن أصوات إسلامية، كالداعية الشيخ يوسف القرضاوي، قد رفضت القول إنها حروب صليبية، لأن العرب والليبيين أنفسهم هم الذين طلبوا الحماية من الأمم المتحدة، فإن أثر تلك «الحملات» لا يزال فاعلا حتى اليوم، ومستقرا في ذاكرة الأجيال، كما تشير إلى ذلك الكاتبة البريطانية والراهبة سابقا، كارين ارمسترونغ، التي تلج في مؤلفاتها في عقول الملوك والسلاطين، والباباوات والأتقياء والحجاج، وتعرض بمهارة فائقة الحروب الصليبية من منظور الموروثات الدينية الثلاثة، وتأثيرها العميق والمستمر.

ما الذي يستدعي أحاديث الحروب الصليبية من جديد؟ وهل وجد في عتمة تلك القرون من حمل مصباح الحق، وتبع نور الإيمان، وعاش صليبية المحبة، عوضا عن صليبية سفك الدماء والبطش بالآمنين وترويعهم؟! المؤكد أن للأمر علاقة ما بإعلان رئيس المجلس البابوي للحوارات بين الأديان، الكاردينال جان لوي توران، عن إقامة احتفال في السابع والعشرين من أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، في مدينة أسيزي بإيطاليا، وذلك احتفالا بالذكرى الخامسة والعشرين لإطلاق «يوم الصلاة من أجل السلام في العالم»، الذي كان قد دعا إليه البابا يوحنا بولس الثاني في عام 1986، وشارك فيه ممثلون عن كل الأديان السماوية والوضعية حول الكرة الأرضية.

يلفت الكاردينال توران في تصريحاته، إلى أن الحوار بين الأديان ليس مشابها للمفاوضات الدبلوماسية، بل يشكل فسحة للشهادة المشتركة للمؤمنين المنتمين إلى مختلف الديانات، كي يتعرفوا بصورة أفضل على ديانة الآخر.

كما يشير الكاردينال توران إلى أن الحوار مع الشركاء المسلمين في المجلس الحبري للحوار بين الأديان، يبدأ دائما بالصلاة، وبلحظة صمت، تليها قراءات من الإنجيل المقدس، والقرآن الكريم، كما يشكل وقت الطعام فسحة لتعزيز التعايش الأخوي، تسبقه أيضا فترة من الصلاة والصمت والتأمل.

لكن لماذا مدينة «أسيزي» تحديدا هي الموضع والموقع من جديد؟

الجواب يلزمنا بالذهاب بعيدا، على بعد ثمانمائة عام، وفي زمن الحروب الصليبية ذاتها، حيث وجد هناك شاب زاهد ناسك يدعى فرنسيس، بلغ به العشق الإلهي أن كان يسير في الطرقات والدروب صائحا بصوت مدو: «الحب صار غير محبوب»، في إشارة إلى كثرة المعاصي والآثام التي كانت تغص فيها الكثير من دول القارة الأوروبية.

ولد فرنسيس، الذي سيعرف لاحقا بالأسيزي، في تلك المدينة التي ستشتهر لاحقا بكونها مدينة الساعين إلى السلام في العالم أجمع، وهي مدينة صغيرة بمقاطعة أومبريا في إيطاليا الوسطى، وذلك في أواخر سبتمبر (أيلول) من عام 1182م.

عرف فرنسيس بحبه للفقراء وزهده لأباطيل العالم، على الرغم من أن أبوه كان «بطرس برنردوني» التاجر الثري، وأحد كبار تجار الأقمشة بالمدينة.

كان شغل الأب الشغل هو المال، ولا شيء غيره، وقد جاء المال يسعى إليه حثيثا، ومن العجب أن يرفض فرنسيس المال والسلطان، وأن يؤسس جماعته على التجرد من حب العالم والدعوة إلى السلام والوئام بين الناس، وحتى بين الطبيعة والمخلوقات غير الآدمية، التي كانت تطيعه لما عرفت عنه من رحمة ومودة تجاهها.

والمؤكد أنه ليس ها هنا تفصيل الكلام عن فرنسيس جهة سيرته الذاتية، لكن السعي في هذا المقام هو كيف تمكن فرنسيس من أن يوجد جسرا بين الشرق والغرب، بين المسيحيين والمسلمين في ظل الحروب الصليبية المحتدمة في تلك الآونة؟

كانت الحروب قد اشتعل أوراها في تلك الفترة، وقد أحس فرنسيس الأسيزي بحتمية الوقوف في وجه الحقد والكراهية التي تملأ الأجواء بين الشمال والجنوب.

كان الأسطول الذي يقل إحدى الحملات الصليبية على وشك الإقلاع من ميناء انكونا، قاصدا الأرض المقدسة في فلسطين، ومن هناك ركب فرنسيس السفينة مع أحد إخوانه «الوميناتو»، كان ذلك في 4 يونيو (حزيران) من عام 1219م، وفي منتصف يوليو (تموز) من ذات العام، رست السفن في ميناء عكا.

لم يلبث فرنسيس أن انطلق والأخ الوميناتو إلى دمياط، التي كان يحاصرها الصليبيون، والتي كان يدافع عنها المصريون ببسالة منذ أكثر من سنة، فلما وصلا للمعسكر المسيحي، والعهدة هنا على الرواة الذين أرخوا لحياة الأسيزي، من أمثال العلامة بونافنتورا، راعه أن يرى الفوضى والفساد والعداوات الوحشية، والنهب والسلب والمواخير النجسة تسود المعسكر في ظل الصليب.

كان من بين الأسباب التي جعلت من البابا أوربان الثاني يقوم على إعلان تلك الحروب، القول إن العرب والمسلمين يمنعون الحجاج المسيحيين من الوصول إلى مدينة القدس لتأدية شعائرهم الروحية.

غير أن صيحة فرنسيس في دمياط كانت مخالفة لجوهر الذريعة الرئيسية لتلك الحروب التي شابتها اللاأخلاقية، وكساها جشع وطمع تجار الموانئ الإيطالية، وهذا حديث تحليلي قائم بذاته.

على الأراضي المصرية صرخ فرنسيس: «ليس الشرقيون الذين يسدون الطريق إلى الأرض المقدسة، بل غضب الله العادل».

كان مقصد الصوفي الإيطالي الأشهر - ومؤسس جماعة الفرنسيسكان، ذات الرداء البني والحبل الأبيض، التي هي أهم وأقدم الأخويات الكاثوليكية المنتشرة في كل بقاع الأرض - كان مقصده الإشارة إلى أن الشرور المرتكبة في حق أهالي تلك البلاد والموبقات التي تستصرخ السماء سوف تتحول إلى لعنات تمنع وصولهم إلى الأرض المقدسة. وإذ بلغ فرانسيس أن الصليبيين يعدون العدة لمهاجمة المصريين، حذرهم أكثر من مرة بأن الهزيمة ستكون لا محالة من نصيبهم ومصيرهم، وأن هزيمتهم هذه ستكون دامية نكراء، وقد تم بالفعل ما تنبأ به فرنسيس، فقد سقط من الصليبيين في هجومهم على قلعة دمياط يوم 29 أغسطس أكثر من خمسة آلاف جندي.

ويخبرنا كاتبو سيرة فرنسيس الأسيزي، مثل توما الشيلاني، أنه إبان إقامة فرانسيس بدمياط، استطاع الصليبيون لاحقا الاستيلاء على قلعة المدينة وتدميرها، وقد كان ذلك الهجوم بالغ العنف، لم تقو على صده مقاومة الحامية والأهل المستميتة.

وشاء الصليبيون أن ينتقموا لقتلاهم في الهجوم الأول الفاشل، فدكوا المنازل والمساجد والميادين، التي اختلط فيها صوت السلاح بأنين القتلى والجرحى، وصراخ النسوة والأطفال.

تعرف فرنسيس على سلطان مصر الملك الكامل بن العادل الأيوبي، الذي أعجب بشجاعة فرانسيس ومحبته وصدقه وصفاء معتقداته الإيمانية، ومواقفه العادلة الإيمانية حتى من بني جلدته، فاستقبله استقبالا فيه كثير من الفروسية والشهامة والإيناس، وقربه إليه وقدم له منحا وهدايا ثمينة.

على أن أهم ما حصل عليه هو تصريح كتابي يمنحه الحق في زيارة الأماكن المقدسة في فلسطين، والوعظ في طول البلاد وعرضها متى يشاء.

غادر فرنسيس ميناء دمياط منطلقا إلى الأراضي المقدسة حتى ينسى ما رأت عيناه من مذابح مروعة، وفناء ودمار يعيد إلى روحه المضطرب المحزون التعزية والسكينة اللتين كان يفتقر إليهما.

وفي القدس اتصل الأسيزي بالسلطان عيسى سلطان دمشق، مستخدما كتاب التوصية الذي أخذه من سلطان مصر، وطلب منه التصريح له ولرفاقه بالإقامة في مقر متواضع فوق جبل صهيون، بهدف رعاية المقدسات المسيحية الموجودة فوق الجبل، وخاصة علية صهيون، وكانت هذه العلية عبارة عن مبنى مكون من طابقين؛ في أولهما قاعتان وفي ثانيهما قاعتان أخريان، هما المسميتان بعلية صهيون، وبحسب التقليد المسيحي، فإنه في القاعة الغربية منهما تناول السيد المسيح العشاء الأخير مع تلاميذه.

كتب المؤرخون أن ما كسبه فرنسيس الأسيزي في رحلته هذه فاق ما هو أرفع وأنفع من أربعين موقعة حربية.. لماذا؟

لأنه ببساطة الزاهد استطاع بمحبته وحواره السلمي، أن يصنع وحده ما لم تستطع الجيوش أن تقوم به، فلقد بنى فرنسيس جسرا من الثقة والحوار المتواصل مع سلاطين العرب، وأئمة الإسلام والمسلمين في البلاد العربية، التي زارها.

كان فرنسيس ضد الحملات الصليبية التي لم تكن المسيحية أبدا حاضرة فيها، كانت حروبا قادها كبار الإقطاعيين التجار الطامعين، الذين رأوا فيها فرصة سانحة لتحقيق مطامعهم المادية، التي لا تشبع، بينما ذهب هو بصليبية المحبة، وبذل الذات، وإيثار الآخر، ومحبة القريب والغريب، والصفح عن الأعداء.

في خواتيم حياته كان يدرك بإلهام علوي أن الشقاق والفراق الذي كان سائدا في أيامه، ربما يستمر إلى أجيال وأجيال، ولذلك وجه رسالة إلى قادة الأمم والشعوب جاء فيها: «من فرانسيس خادم الله إلى قادة الشعوب:

* تبصروا وانظروا في حياتكم، لا تدعوا مشاغل وهموم هذه الدنيا لتنسيكم الله، وتجعلكم تحيدون عن وصاياه، لأن كل الذين ينسونه ويخرجون عن طاعته يبغضهم، ولا يعود يتذكرهم.

* وعندما يحين أجلهم، فإن كل ما كان يحسبونه ملكا لهم سيذهب منهم.

* وكذلك فإن كل ما لديهم من قوة أو علم أو حكمه فإنه إذا لم يكرس للخير سيعود عليهم بالعذاب الشديد في الآخرة.

* لهذا السبب فإنني يا سادتي ألح عليكم في النصيحة والقول، بأن تلقوا جانبا كل قلق وهمّ بفرح كبير، وبادروا إلى استقبال الله في قلوبكم.

* مجدوا الله وعظموه أمام جميع أفراد الشعب الموكلة إليكم سياسته ورعايته، أعلنوا لهم بكل الوسائل وفي جميع الأوقات، بأن على الجميع واجب تقديم المديح والشكر للرب الإله.

* اعلموا أنكم إذا لم تفعلوا هذا فإنكم ستقدمون عنه حسابا عسيرا أمام الله يوم الدين.

* أما أولئك الذين يحفظون هذه الوصية أمام الله يوم الدين ويعملون بموجبها فأنهم مباركون من الله.

وبعد نحو ثمانمائة عام من مولد الأسيزي، اجتمع في بلدته رموز من كل الأديان، ليوقعوا ما سيعرف لاحقا بالوصايا العشر لصنع السلام في العالم، وهي ثمرة لقاء أسيزي للأديان، الذي جاء في أوائل شهر يناير (كانون الثاني) من عام 2002، حيث وافق كل رجال الدين من مختلف الديانات حول العالم، على تلك الوثيقة، التي أرسلت إلى حكام ورؤساء الدول، مرفقة برسالة من البابا الراحل يوحنا بولس الثاني، للتعريف بها، على أمل أن يعملوا بموجبها، لأنها قد تساعد في توجيه العمل السياسي والاجتماعي للحكومات.

هل من حاجة حقيقية للذهاب إلى أسيزي من جديد في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل واستلهام روح هذا الإعلان في عالمنا اليوم، لا سيما أن كل كلماته هي حقائق تتفق وسائر الأديان دون أدنى تمييز، أو تفريق، وما أبعدها من روحانية عن صليبية الرايات الفاقعة والأصوات الزاعقة، الداعية للحروب باسم الرب؟! أغلب الظن أن لقاء أسيزي المقبل هو استراحة مؤمنين، نحن في أمس الحاجة إليها أمس واليوم وإلى الأبد.

* كاتب مصري