مسؤوليات الدين ومسؤوليات الأخلاق

رضوان السيد

TT

ذُعر الكثيرون من الأوروبيين لما قام به الفاشي النرويجي أندرس بريفيك من إجرامٍ فظيعٍ بالإقدام على قتل زُهاء الـ77 شابا وشابة في معسكرٍ صيفي لكوادر من الحزب الحاكم هناك. إنما الذي يخيفُ أكثر ما ذهب إليه القاتل، ووافقته عليه تحليلاتٌ كثيرة طويلة وعريضة أنه إنما قام بهذا العمل الهائج بسبب كراهيته للإسلام والمسلمين (!). وما خطر ببال أحدٍ من مفسِّري جريمته (التي ما أرادوا اعتبارها إرهابا!) أنّ الضحايا كانوا جميعا من غير المسلمين، وبينهم المسيحي المتديّن، والمسيحي العلماني أو الاشتراكي. فلو كان الاعتبار الأول لديه مكافحة الوجود المسلم بالنرويج وبأوروبا، لأقدم على إطلاق النار على تجمعٍ للمسلمين بأحد المساجد أو إحدى المناسبات! نعم، ما نظر المحلِّلون إلى هوية الضحايا، ولا نظروا إلى الآيديولوجيات المعلنة لليمين الفاشي بأوروبا، بل نظروا إلى الصورة الذهنية المتكوّنة لديهم عن الإسلام والمسلمين في العقود الثلاثة الأخيرة، والتي تُفيد أنّ الإسلام دينٌ أُصولي، وأنّ القِلّة المناضلة بين أتباعه تستحلُّ دماء وأموال كلّ الآخرين، أمّا الكثرة التي لا تمارس العنف المباشر؛ فإنها تؤكّد على الانفصال وعلى الخصوصيات في التفكير والعبادة واللباس ولعْن ورذل الثقافة المعاصرة ذات الجذور اليهودية/ المسيحية! ولذا فإنّ هذا اليميني الفاشي لا يمكن أن يكونَ إرهابيا، لأنه فردٌ وليس تنظيما من جهة، ولأنّ قتْل المدنيين العُزَّل بدوافع عَقَدية تصرُّفٌ لا ينطبق إلاّ على جماعات الإرهاب الإسلامي! ولذا فالذي أراه أنّ هذه «الإسلاموفوبيا» المتصاعدة بأوروبا صارت ظاهرةً مَرَضيةً، تتوافر فيها كلّ شروط الأمراض المُزْمنة، والتي نشرتها أو صنعتْها جهاتٌ استراتيجيةٌ كبيرةٌ وكثيرةٌ طوال العقود الماضية وعلى مدى العالم. أمّا بريفيك وأمثاله فإنهم فاشيون عنصريون من جماعات اليمين الجديد، والذي ينتشر في أوروبا انتشارَ النار في الهشيم، ويستقطب العوامَّ والغوغاء، ومن ضمن أغطيته الشفّافة وليس الكثيفة أو العميقة التلبُّس بلَبوس المسيحية، والتلبُّس بلَبوس مُعاداة الإسلام أو تسويغ الأعمال الشائنة بأنّ المقصودَ منها هو مكافحةُ الصعود الإسلامي بأوروبا والعالم. أمّا الحقيقة فهي أنّ هذا اليمين الفاشي إنما يُصارعُ للاستيلاء على المجتمع والدولة هناك، ولذا فخصومتُهُ الرئيسية هي مع التيارات الليبرالية والعولمية التي تُغيّر اليوم وغدا الهوية الطهورية المفترضة لتلك المجتمعات والدول.

ورغم هذا الاستطراد الطويل، ما كان المقصود الحديث عن الفاشيات الأوروبية، ولا حتّى عن الإسلاموفوبيا هناك. بل عن تلك الصورة المتكوّنة عن الإسلام والمسلمين، وإلى ماذا استندت، وكيف صارت تيارا شعبيا ليس لدى الأوروبيين فقط، ولكنْ لدى المسلمين أيضا. فهناك كثرةٌ من المسلمين، وليس في ديار المهاجر فقط؛ بل وفي ديار المسلمين الأصلية، تعتبر أنّ هناك مؤامرةً عالميةً على الإسلام، ذات أُصولٍ صهيونية ومسيحية والدليل على ذلك تلك الأمواج الاستعمارية العسكرية والثقافية على مدى القرنين الماضيين. وفي ظلّ الضيق والإحساسات الخانقة بالحصار من الخارج والداخل، ظهرت جماعات التمرد باسم الإسلام تجاه الخارج والداخل معا. وترافق ذلك أو توازى مع عمل الجهات الاستراتيجية والاستخبارية والصهيونية على خَلْق العدوّ الجديد فيما وراء اليهود والشيوعية معا. فقد كانت الجماعات البروتستانتية الجديدة التي قادت الكفاح ضد الشيوعية بزعامة الولايات المتحدة، تعتبر مثقفي اليهود من طلائع التوجُّه الجديد للحضارة الغربية، أمّا روسيا فكان يُرادُ استيعابُها في الغرب بعد زوال الشيوعية منها ومن بلدان شرق أوروبا.

كيف أثّر هذا الحصار أو الإحساسُ به، في ثقافتنا نحن وأخلاقنا، وفي الأعراف التي سادت عيشَنا التاريخي في الأجزاء الرئيسية والتاريخية لدار الإسلام؟ أول مظاهر وظواهر الحالة الجديدة التضييق على النفس، وإنكار الآخر الديني أو المذهبي، إلى حدود استسهال سفك الدم، والتعرُّض لرموزه الدينية والثقافية. ويركّز الأوروبيون على هذه الظواهر بين الجاليات الإسلامية في أوروبا وديار الاغتراب الأخرى، ويستندون في ذلك إلى تصرفات «القاعدة» في الولايات المتحدة، وفي الديار الأوروبية. أمّا الواقع فهو أنّ هذه الجاليات تشعر أجزاء كثيرةٌ منها بالضيق، لكنها لا تلجأُ للعنف بل للانكماش والتأكيد على الخصوصيات. أمّا الانعزال والعنف الحقيقيان تُجاه الآخر فقد حدثا ويحدُثان في دار الإسلام التقليدية والتاريخية. فمنذ أكثر من عقدين تحدث صداماتٌ بين المسلمين والمسيحيين في أرياف مصر وسوريا والعراق ولبنان وفلسطين. وفي أكثر الحالات؛ فإنّ المسلمين يكونون في مواقع الهجوم. وتتدخل السلطات لفضّ الاشتباك، ولمحاسبة المسؤولين من الطرفين أو الأطراف، وهي في الأخذ والعطاء، تُسيءُ شاءت أم لم تشأْ إلى كلا الطرفين أو الأطراف، بقصْدٍ أو دون قصد. وذلك لأنها تتجاهل (كما هو شأنُ السلطة دائما) المشكلة الأصلية: أنّ الطرفين تغيَّرا، وأنّ المسلمين في مناطق ومنازل كثرتهم تغيَّروا أكثر مما تغيَّرت الأقليات المسيحية أو المذهبية. فالسلطات في كلّ الحالات إنما تريد فرض النظام والاستقرار، وليس من شأنها العدالة بالمعنى الكبير، ولا من شأنها الإصلاح الاجتماعي أو النظر في المتغيّرات، وتطوير التصرفات غير ذات الطابع الأمني. ولدى السلطات الجديدة في الدول الوطنية على الخصوص مشكلةٌ أُخرى وهي الإحساس العميق بضآلة المشروعية تجاه الجمهور أو بالأحرى تضاؤلها في العقود الأخيرة. ولذا فإنها تستخدم العنف المفرط مع جمهور الأكثرية خشية التمادي في المطالب أو التمادي في الاضطراب.

لقد كان الغائب والضعيف الأثر والتأثير في مصر وبلاد الشام وشمال أفريقيا في العقود الأخيرة، الجهات الدينية مؤسساتٍ وأفرادا. فما قصّرت المؤسسات الدينية ولا الشخصيات العلمية في إنكار العنف باسم الدين والحملة عليه. لكنها قصّرت في التوجه إلى الجمهور بالبدائل والآفاق الرحبة والواسعة لقيم الإسلام ومبادئه السمحة الباعثة على الطمأنينة. فالإسلام بوصفه دينَ دعوةٍ وانسياح لا يريد أن يخيف العالم، ولا أن يخافَ منه. وقد كان الواجب علينا التنبُّه إلى أن الكثرة الإسلامية صارت تتصرف في الكثير من الأحيان تصرف الأقلية الخائفة أو المتوجِّسة. وبسبب غياب هذا الوعي بالمتغيرات، استولت على الأجواء العامة أو الدعوية فئتان: الحزبيات الإسلامية المتوتّرة، وَمَنْ صاروا يُعرفون بالدعاة الجدد في الفضائيات. أما الحزبياتُ الإسلامية، فقد اتخذت لنفسها وظيفة الدفاع عن الإسلام والمسلمين. وأما الدعاة الجدد فتوجَّهوا إلى الجمهور باعتبارهم يمثّلون الإمكانيات الجديدة والزاهرة للإسلام. الحزبيون يقولون للجمهور إنه في خطر، وهم يقدمون أنفسهُم شهودا وشهداء لحماية العقيدة. والدعاة الجدد همُّهم كسْبُ أكبر عددٍ ممكنٍ من الناس لأنفسهم وشُهرتهم وأهدافهم الغامضة. وحدث ذلك كلُّهُ عبر عقود مقبضة ومتطاولة، وفيها الكثير من السوداوية وفقد الأمل. فالغربيون هاجمون. والحزبيون الإسلاميون منصرفون للعسف بالداخل وفي العالم. والأنظمةُ في المناطق والمديات التي ذكرناها، تزدادُ توجُّسا وعسْفا بالجمهور وبالمتمردين باسم الإسلام، وتنصّب نفسها أخيرا وفي بلاد الشام ومصر على الخصوص بوصفها حامية حمى الأقليات من طغيان الأكثرية، وطغيان الأُصوليين.

ويشهد العالم العربي منذ مطلع العام الحالي حركات تغييرٍ زاخرة. وتحدو هذه الحركات مشاعر إسلاميةٌ عميقةٌ، لكنّ الدين بجوانبه الطقوسية ليس موضوعها. موضوعُها المشروعية العميقةُ التي يهبُها الإسلام للمجتمعات من خلال الإيمان والعمل الصالح. فهي تريد إعادة المشروعية للمجتمع والدولة وإدارة الشأن العام. وإذا كان الأمر قد اقتصر حتى الآن على مواجهة الأنظمة والسلطات؛ فإنّ الجمهور في الشارع، يواجه في الحقيقة أيضا ظواهر التمرد والعنف باسم الإسلام. ولأنّ الأمر كذلك؛ فإنّ الإسلاميين الحزبيين ترددوا كثيرا في الانضمام إليها، لأنهم مثل السلطات التي كانوا يُعادونها، يخشون الكثرة والجمهور، ولا يثقون بتديُّن الجمهور واعتقادياته. وإذا كان هذا هو شأن الإسلاميين الحزبيين مع نزول الجمهور إلى الشارع؛ فكيف بالأقليات الدينية أو المذهبية. فهؤلاء غابوا عن الجمهور وغاب عنهم منذ نحو القرن. وقد كانوا يشاهدون (دون أن يشهدوا) طوال تلك المدة العنف والعنف المُضادّ بين السلطات والمتمردين باسم الإسلام. ولذلك فقد ازدادت حياديتُهم، وازداد توجُّسُهم من هذه الكثرة الطالعةُ من الشارع وفيه.

إنّ الظروفَ الجديدة أو المرحلة الجديدةُ تُعطي رجال العلم والمؤسَّسات فُرصةً كبرى، ينبغي الإفادةُ منها للدين والأخلاق، وللتصالُح مع النفس والشريك والعالم. لدينا ثلاث محرَّماتٍ تحدث عنها رسولُ الله صلواتُ الله وسلامُهُ عليه في حجة الوداع: الدم الحرام، والمال الحرام، والعِرضُ الحرام. ولدينا في المظلّة أو الإطار الذي يحكم فكر المسلم وتصرفاته بالمعنى الإيجابي منظومة القيم القرآنية في المساواة بين الناس، وفي الكرامة، وفي الرحمة والتراحم، وفي العدالة، والتعارف، والخير العام. إننا نستطيع الآن، بل ومن واجبنا القيام بسعْي جاهدٍ لإحداث نهضةٍ في الفكر الإسلامي، وفي تصرفات الجمهور السلمية والمستنيرة حتى الآن، باتجاه الإسهام في صنع الجديد الواعد للمسلمين ولشركائهم في العيش المشترك، وللعالم أجمع: «فأمّا الزبد فيذهبُ جُفاءً، وأما ما ينفعُ الناسَ فيمكث في الأرض».