قراءة رمضانية: سكاتولين.. رجل التجليات الروحية في الإسلام

إميل أمين

TT

بعيدا عن السياسة ومؤامراتها هذه المرة، استراحة للنفس في أحضان التصوف، ومع رجل إيطالي «عشق العالم العربي والإسلامي»، وتخصص في دراسة إمام العاشقين «المتصوف الكبير عمر بن الفارض»، وأمضى زهاء ثلاثة عقود من عمره باحثا ومنقبا في مخطوطاته، حتى أخرجها إلى النور في تحفته الشهيرة بـ«التجليات الروحية في الإسلام».

جوزيبي سكاتولين، الراهب الكومبوني، يغريك بالبقاء إلى جانبه ساعات طوالا، وكأن التصوف الذي اختص به وفيه يفتح أمامه آفاقا أرحب في مجال الابستمولوجيا (علم المعرفة) أكثر كثيرا من ضيق الآيديولوجيا.

يجزم سكاتولين أول الأمر بأن التصوف، وروحانيته، يجمع الأديان على ثلاث نقاط جوهرية، أولاها الإنسان، ويراه الكائن الوحيد المتسائل على سطح الأرض، والمتسامي في الوقت ذاته عما هو في الأرض. وثانيتها الكون والطبيعية، فكل متصوف في أي ديانة يحترم الكون، ولا ينظر إليه على أنه مادة للاستهلاك وحسب. والثالثة وحدة الكيان البشري في زمن العولمة التي تشدد على مظاهر سطحية في الإنسان وليس على العمق الجوهري للبشر.

هل كل مستشرق جاسوس؟

هذا السؤال من أكثر الأسئلة التي أزعجت سكاتولين عبر أربعين سنة تنقل خلالها في العواصم العربية باحثا ودارسا. «أنا مستشرق ولست شيطانا رجيما»، هكذا صاح في أحد المؤتمرات، مطالبا العالم العربي والإسلامي بتفهم أكثر وضوح ورحابة لفكرة «الاستشراق العلمي»، أي تطبيق العلوم الحديثة بمنهجها العقلاني، عند دراسة كل الحضارات الإنسانية المختلفة، الصينية والهندية، الإسلامية والمسيحية.. ما الذي تفتقده الثقافة العربية عامة والإسلامية خاصة في هذا الإطار؟

يجزم الرجل بغياب غالب - إلا قليلا - للدراسات الجادة المنطلقة من أسس علمية، وعنده أن ما هو كائن وقائم لا سيما على صعيد دراسات الاستشراق، هو منهج خطابي، وليس تحليلا علميا بمعنى الكلمة، ويؤكد على أن المستشرقين ساعدوا كثيرا في إعادة النظر والاعتبار للثقافة الإسلامية.

وللموضوعية فإنه يقر بأن هناك بعض المستشرقين كانوا في خدمة بعض التيارات السياسية والاستعمارية الأوروبية، لكن هذا لا يمكن أن يضحى المعيار الرئيسي في الحكم على كل المستشرقين.

نتوقف مع سكاتولين عند إشكالية حقيقية في زمن العولمة والعلمانية يصوغها في تساؤل فلسفي «هل من مستقبل للدين - بالمعنى الواسع؟.. وما هي ملامح الدين في المستقبل، لا سيما في ضوء التطورات السريعة للأحداث والمكتشفات الطبيعية التي تقزم ما هو روحي لصالح ذاك الذي هو مادي؟».

يلفت المستشرق الإيطالي جوزيبي سكاتولين إلى أنه يعود للأديان العالمية دور حاسم، وعنده كذلك أنها صارت في خطر شديد من أن تصير أسيرة للعبة القبلية التي تجري في إنسانيتنا المعاصرة على مستوى العالم، كما حدث لها في الماضي، على يد أشكال عديدة من النزاعات الإمبريالية التي كانت سائدة في المجتمع الإنساني آنئذ.

في هذا السياق ينصح سكاتولين كل دين، أو بالأحرى أتباع الأديان، بالعمل بأتم الوعي والجدية، من أجل التغلب على تلك النزعات القبلية المدمرة من ثقافية ودينية. ويذكر بما قاله اللاهوتي الألماني الكبير «هانس كونغ» بأنه «لن يكون هناك سلام بين الدول، ما لم يكن هناك سلام بين الأديان». كل دين في عصرنا الراهن بحسب سكاتولين مطالب أولا بعودة جديدة إلى رسالته المؤسسة ومعناها الأصلي، وثانيا بمواجهة الحداثة ومتطلباتها العلمية النقدية، وثالثا بالدخول في حوار إيجابي مثمر مع الأديان العالمية الأخرى، وأخيرا بالالتزام الجاد المتشدد من أجل العدالة في عالم العولمة، الذي يخاطر أكثر فأكثر بإنسانية الإنسان ذاتها.

ويعترف سكاتولين بأن كل تقليد ديني عظيم يحمل في طياته نواة أصلية مميزة له، نابعة من خبرته المؤسسة، إلا أن هذه النواة تجب استعادتها ومعاودتها وعصرنتها، بمقاربة جادة ونقدية، من مصادره وتاريخه، ويرى أنه في غياب ذلك قد يتجمد كل تقليد ديني، ويتحجر في أشكال خارجية تكرارية وتجليات تشريعية جامدة تتحول بكل سهولة في آخر أمرها إلى قواقع فارغة من دون حياة.

لكن ماذا عن إشكالية الدين والحداثة المعاصرة، وهل عليه أن يتماهى معها بالمطلق أم يرفضها بالقطع..

هنا يتحتم التوقف مع سكاتولين للأهمية، إذ إن مواجهة الحداثة في يقينه تشكل أحد المتطلبات الأساسية التي يجب على كل تقليد ديني وضعها في عين الاعتبار، إذا أراد أن يكون طرفا إيجابيا في «القرية العالمية».

فالحداثة لا يمكن أن ينظر إليها على أنها شر مطلق، يجب محاربته بكافة الطرق، كما لا يزال يقال في الكثير من البيئات الدينية المعاصرة.. إن موقفا كهذا، كان مسيطرا على عدد من النزعات الكنسية المعارضة للحداثة حتى ماض غير بعيد. وهذا الموقف عينه نجده في أديان أخرى كثيرة لا سيمل في الكثير من الحركات الإسلامية.

وتبقى الحداثة في معناها الصحيح في المقام الأول هي «بلوغ العقل البشري أشده»، وهذا في حد ذاته يمثل نموا إنسانيا إيجابيا بل وضرورة في تطور الكائن البشري عبر التاريخ. لكنه يلفت إلى فخ يسقط فيه الكثير وهو التطرف العقلاني، ويحذر من أن تأليه العقل ذاته، يكشف في النهاية أنه لا عقلاني بشكل جلي، ومن هنا فإنه على كل دين في عصرنا «ما بعد الحداثي»، مطالب بأن يحقق توازنا حقيقيا مقنعا بين الإيمان والعقل، وإلا فلن يكتب له مستقبل.

البعد الثالث في مستقبل الدين عند سكاتولين هو الحوار مع الأديان الأخرى، ويشدد على أن الذاتية الحقيقية يجب أن تقبل «الغيرية الحقيقية». لذلك يجزم بأن دين المستقبل لا يمكن أن يكون دين غيتو (Ghetto) أو دينا طائفيا قبليا، إنما دين المستقبل، عليه أن يشبه الشجرة التي يتكلم عنها الإنجيل، والتي تتسع لكل الطيور، تأتي إليها وتجد فيها ملجأ فتبني عليها أعشاشها. ولهذا بات موقفا واضحا منفتحا للحوار تجاه أديان الأخرى، أمرا أساسيا وضروريا لكل دين يريد أن يكون فاعلا إيجابيا في «قريتنا العالمية».

ويتجاوز سكاتولين دائرة الفكر المسيحي الأولى ليصل إلى القول إن «قديس الغد لن يعود كونه قديسا منحصرا داخل تقليد ديني محدود، أو دائرة دينية متميزة، إنما ينبغي أن يكون (قديس المستقبل) ذاك شخصا يأتي برسالة ذات معنى لسائر التقاليد الدينية في العالم كله، معترف به ومقبول عندها كلها».

وخلاصة هذه الجزئية المحورية، أن كل دين مطالب الآن أشد المطالبة بأن يكون في «القرية العالمية» دينا منسجما في حوار إيجابي مع الأديان الأخرى، وفي مواجهة المقولة الشهيرة للاهوتي الكاثوليكي كارل راينر الذي قال «إن مسيحي الغد إما أن يكون صوفيا (أي له خبرة حقيقية مع الله)، أو لن يكون البتة»، فإن سكاتولين يتجرأ على القول إن دين الغد، إما أن يكون دينا قادرا على حوار حقيقي وإيجابي مع الأديان الأخرى، أو لن يكون البتة. وذلك لأنه ربما قد تحول إلى آيديولوجيات بشرية صرفة، أو إلى دين طائفي، أو قبلي، محدود في دائرة مغلقة من البشر.

ونصل إلى النقطة الرابعة والأخيرة والمتعلقة بالالتزام بالعدالة بين البشر في العالم، والعدالة والالتزام بها أمر مكتوب بكلمات واضحة، ليس فقط في الديانات الإبراهيمية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام، إنما هو قد لقي دعما واسعا في تقاليد كبرى الأديان الإنسانية الأخرى. لكن الممارسة التاريخية في هذا الصدد قد شابها الكثير من النقاط السوداء، فوقائع سلبية حصلت في كل دين. إن كل دين في تاريخه الواقعي الملموس حصلت له، قليلا أو كثيرا، فترات من الظلم إزاء أفراده كما إزاء أفراد الأديان الأخرى، وفي هذا الصدد يلزم أن تتخذ نظرة جريئة من نقد الذات بعيدة عن التبريرات الطفولية السطحية التي لا تزال تقدم صورة وردية خيالية عن ذاته، متجاهلة تماما (قصدا في أغلب الحالات) واقع تاريخه الخاص المظلم القمر.

على هذا الأساس يجب أن يعلن بكل صراحة وجرأة أنه لا أحد عبر التاريخ البشري كله يمكنه القول إنه بريء أو نقي من أي شكل من العنف أو الظلم. فموقف كهذا يمثل ادعاء كاذبا يبطله واقع التاريخ الحقيقي.

ويرفض سكاتولين ضمن أمور كثيرة أحادية الرأي والفكر والتحيز بل والتعصب للون أو دين أو ثقافة، وفي نقده لجزء كبير من واقع الشرق يقول إن ثقافته دفاعية في مواجهة الآخر، وكأن الشر دائما عاملا أجنبيا خارجيا، وليس عنصرا أصيلا من الداخل في أحيانا أخرى.

ويقينه أن الشر والأصولية وربما التطرف، عناصر موجودة في كل ثقافة، في الهندية، والصينية، وفي الإسلامية، وكذلك في المسيحية كما رأينا في القرون الوسطى. وعليه فإن نقد الذات هو المرحلة الأولى للمصالحة مع التاريخ وهذا أمر تحتاجه كل الثقافات الإنسانية المعاصرة.

يطالب سكاتولين بأن تسعى الروحانيات إلى الحوار، ويصف المشهد الذي يجب أن يكون بأنه «روحانيات في حوار، أو حوار بين الروحانيات». على أن هذا الحوار في تقديره يجب أن يجري الآن، ليس بين التقاليد الصوفية المسيحية والإسلامية فقط، بل بين كل التقاليد الصوفية من مختلف الأديان، من دون شرط أو حدود. ويذهب إلى أنه بدلا من الحديث عن نماذج أو نظريات كلامية لاهوتية مجردة حول الحوار الديني، فمن الأفضل أن تدخل كل التقاليد الروحية في حوار ملموس في ما بينها. وهو حوار يدخل فيه كل منها بهويته الخاصة وأصالته المتميزة، وفي الوقت نفسه باستعداد مجرب وانفتاح مقتنع إزاء التقاليد الصوفية الأخرى أي إزاء غيرية الآخر.

ما العمل في مواجهة الخطر الأحدث الذي يواجه الإنسان في العقود القادمة والمتمثل في «روبتة» عالمية شاملة (الروبتة من الروبوت أو الرجل الآلي)؟

لا مناص من العودة إلى الحكمة الدائمة «Sapientia Perennis»، تلك الحكمة الإنسانية الأصيلة والمشتركة بين التقاليد الدينية المتعددة.. تلك الحكمة مطالبة بأن تعطي معنى جديدا لتاريخ الإنسان المعاصر، وهو تاريخ يتعرض فيه الكائن البشري لخطر فقدان الهوية الإنسانية تماما.

وهناك في واقع الأمر أسماء بارزة مثل المفكر الإسلامي «سيد حسين نصر»، والراهب البنديكتي «بيد غريفيش»، والراهب البوذي «ثيك نهات هانه»، وغيرهم كثيرون، قد كرسوا جهودا عظيمة من أجل اللقاء بين مختلف التقاليد الدينية غربا وشرقا، من أجل إعادة تأسيس الهوية الإنسانية للكائن البشري..

إلى أمثال هؤلاء يحتاج عصرنا الحاضر أشد الاحتياج لكي يستعيد الإنسان المعاصر المستعبد تحت سيطرة روبتة التكنولوجيا الاستهلاكية أبعاد وجوده الروحية. هل من وصفة سحرية صوفية لآلام البشرية عند سكاتولين؟ يحيلنا إلى مقولة الغزالي البديعة «تخلقوا بأخلاق الله».. لكن الإشكالية هل من مستمع؟

* كاتب مصري