ليالي رمضان في كردستان.. السهر حتى السحر

الأربيليون يمارسون اللعبة الرمضانية الكردية الشهيرة «الصينية والظرف»

TT

في ستينات القرن الماضي، كانت المقاهي الشعبية هي السلوى الوحيدة لقضاء المواطن لياليه الطويلة خلال شهر رمضان المبارك، على عكس هذه الأيام التي تتسمر فيها العوائل أمام شاشات التلفزيون لمتابعة المسلسلات المصرية والسورية التي رحم الله عباده هذه السنة بقلة أعدادها، على عكس السنة الماضية عندما فاقت أكثر من ستين مسلسلا حار المشاهد في الاختيار بينها، أو تتجه معظم العائلات إلى الأسواق ليلا لشراء حاجاتها بسبب موجة الحر التي تضرب كردستان هذه السنة مما يفرض على الصائمين فيها لزوم البيت في النهار لقضاء صومهم في ظل المكيفات، ثم الخروج ليلا للتسوق.

هذه السنة لم تقتصر التجمعات الشعبية الشبابية على المقاهي التي انتشرت بشكل مكثف على أرصفة الشوارع، أو الذهاب إلى المقاهي القديمة التي يمارس فيها الأربيليون اللعبة الرمضانية الكردية الشهيرة «الصينية والظرف»، وهي اللعبة التي يحرصون على استعادة طقوسها بعد أن كانت في طريقها إلى الزوال في السنوات الأخيرة، بل إن بعض المنظمات الحزبية، منها لجنة محلية القلعة التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني حزب مسعود بارزاني رئيس الإقليم، دأب قبل سبع سنوات على إحياء هذه اللعبة الشهيرة في الساحات العامة بالمدينة، ولذلك تم هذه السنة تنظيم المهرجان السنوي السابع للعبة، بمشاركة العديد من الفرق الشعبية التي تتنافس على كأس البطولة. ففي حين كانت اللعبة محصورة في عدد قليل من المقاهي الشعبية القديمة، أصبحت هذه السنوات تقام لها دورات سنوية في حديقة المدينة «باغي شار» برعاية هذا الحزب.

فعلى وقع الأنغام الكردية الفلكلورية التي يحييها عدد من المطربين الشباب بمصاحبة فرقة موسيقية يوميا في هذه الحديقة، والتي يتجمع فيها المئات من أبناء المدينة، تجري منافسات التصفية للعبة الشهيرة بمشاركة مجموعات متعددة. في ستينات القرن الماضي كانت لهذه اللعبة مراسم محددة يستعد لها الشباب بكل حماس، وكان يمارسها أمهر اللاعبين المتمرسين باللعبة، وكانوا على الأغلب من تجار وكسبة المدينة الذين كانوا يتجمعون في الليالي الرمضانية بكازينو «عبو» أو «ليالي أربيل» أو «ماجيكو» أو «الحاج مستيل»، وكان أشهر المطربين يصاحبون فرقهم في المنافسات، ويحيون تلك الليالي الجميلة بمصاحبة فرقهم الموسيقية الخاصة، فإلى جانب منافسات الفرق على اللعبة، كانت تجرى منافسات بين المطربين أيضا من أمثال المطربين الكبيرين «مشكو» من أربيل، و«هابة» من كركوك، فكانت المنافسات بين لاعبي المدينتين تجري على وقع المقامات العراقية التي كان المطربان يتنافسان فيها أيضا، ومع أصداء الموسيقى وضجيج اللاعبين وهلاهل الفائزين باللعبة تدور صواني البقلاوة والحلويات والمشروبات الغازية على جمع كبير من الحضور.

ويستذكر فؤاد عثمان تلك الليالي الجميلة بقوله «في ذلك الزمن كانت ليالي رمضان تقع في الشتاء، وكانت ليالي طويلة، نتجمع فيها نحن شباب المدينة وشيابها في كازينو (عبو) الذي كان يستعد لاستقبال الشهر بتهيئة مستلزمات اللعبة، وما إن نفطر في المغرب حتى كنا نحن الشباب نسرع إلى الكازينو، بانتظار تدفق المسنين إليه بعد أدائهم لصلاة العشاء، عندها تفترش السجاجيد على أرضية المقهى وينقسم اللاعبون إلى فريقين ويمارسون اللعب، فيما يجلس أعضاء الفرقة الموسيقية على الكراسي المصفوفة حول اللاعبين، ويبدأ المطربون يشدون بأعذب الأغاني الفلكلورية. وهكذا كنا نمضي ساعات طويلة من الليل في ممارسة لعبة (الصينية والظرف) إلى ساعات السحور، حيث كنا نتجه من المقاهي إلى الحمامات الشعبية قبل العودة للبيت للسحور».

ويقول عدنان حميد، وهو الآن في السابعة والخمسين من عمره «اللاعبون كانوا يتنافسون على كأس خاصة باللعبة، ولسنوات كنا نرى كؤوسا مصفوفة فوق أحد الرفوف بالمقهى، وهي كؤوس فازت بها أربيل على كركوك أو السليمانية، أو داقوق أو طوزخورماتو، أو غيرها، وهكذا كانت تفعل الفرق الأخرى أيضا، حيث يعرضون كؤوسهم في مقاهيهم الشعبية بمدنهم»، ويستطرد «في تلك السنوات كانت المنافسات الغنائية خصوصا في مجال المقامات تثير صدى واسعا في الأوساط الشعبية أكثر من أصداء الفوز بكأس السنة للعبة الصينية والظرف، فالمطربون كانوا يتنافسون في أداء المقامات المتنوعة، وكان العارفون بأصول المقامات يشرفون على تلك المنافسات التي تجرى في السنة مرة واحدة بين مطربي كركوك وأربيل، وكانوا هم مخولين بالتزكية وترشيح هذا المطرب أو ذاك للفوز، أي أنهم كانوا بمثابة لجنة التحكيم التي تقرر الفائز من المطربين بتلك السنة، وكنا ونحن صغار نسمع أنه خلال هذه السنة استطاع المطرب الأربيلي الفلاني أن يهزم منافسه الكركوكي في إجادة المقامات، وهكذا كانت المنافسات تجرى في تلك السنوات الجميلة، وكان أصحاب محلات التسجيلات يتبارون في الحصول على حق تسجيل تلك الحفلات الرمضانية».

وعن أصول اللعبة يتحدث إبراهيم محمد «اللعبة تعتمد بالأساس على رئيس الفريق الذي يكون عادة (أسطى) مشهودا له بالخبرة في إخفاء الخاتم تحت الأقداح، ولكل واحد منهم طريقته في الإخفاء، قد لا تكون خافية على رئيس الفريق المتنافس الذي يختار أيضا من أمهرهم، فهناك بعضهم معروفون بإخفاء الخاتم بتواليات عددية سرعان ما يكتشفها رئيس الفريق المنافس، فمثلا من خلال مراقبة سير اللعبة يتمكن اللاعب الماهر من اكتشاف طريقة إخفاء الفريق المقابل للخاتم، فتراه يعدد الأقداح تاركا ثلاثة أو أربعة منها، ثم فجأة يخرج الخاتم من تحت القدح الخامس فتتعالى الصيحات والهلاهل، فاللعبة تعتمد على شطارة اللاعب ومراقبته الدقيقة لطريقة خصمه في الإخفاء».

رغم أن معظم شباب المدينة في تلك السنوات كانوا يأتون إلى المقاهي المنتشرة في المدينة التي كانت أصغر بكثير مما هي عليه الآن، لكن كانت هناك لعبة أخرى يمارسها شباب المدينة في أحيائهم السكنية بتلك الليالي، حيث يتجمع شباب الحي في منزل أحدهم لممارسة لعبة إخفاء الخاتم تحت القبعة، المعروفة باللغة الكردية «كلاوين»، وهي لعبة تشبه إلى حد ما لعبة «المحيبس» البغدادية، وبدورها تعتمد اللعبة على إخفاء الخاتم تحت قبعة من 11 قبعة يتنافس فيها فريقان. ورغم أن هذه اللعبة كانت متيسرة أمام جميع شباب المدينة في منازلهم، لكن تبقى «الصينية والظرف» ذات الطابع الرمضاني الصرف، سيدة الألعاب في الشهر الفضيل بكردستان.