الفاشية وأوروبا والحرب الصليبية والإسلام

رضوان السيد

TT

سمت المجلة الألمانية الشهيرة «Der Spiegel»، (أي المرآة)، العمل الإرهابي الذي قام به النرويجي أندرس برييفيك: حملة صليبية. وما كان كاتب المقالة يقصد إلى إدانته، بل إيضاح فهمه هو نفسه للأفكار والأعمال التي يقوم بها، كما تكرر في كتاباته الكثيرة بموقعه على الإنترنت. وكان الفرسان الذين غزوا المشرق الإسلامي آتين من غرب أوروبا لاستعادة بيت المقدس وقبر المسيح من المسلمين، بعد دعوة البابا لهم للقيام بذلك عام 1095م، قد رسموا الصليب على صدورهم. وقد عللوا ذلك بأنهم إنما يقومون بعمل من أعمال التضحية، تشبها بعمل المسيح الذي ضحى بنفسه فداء للبشرية. ومنذ ذلك الحين؛ فإن المسيحيين الغربيين عندما يريدون التعبير عن تقديرهم لعمل من أعمال الخير أو مسعى من مساعيه؛ فإنهم يسمون ذلك «crusade» أو حملة صليبية. ومن ذلك مثلا ما تقوم به جمعيات مسيحية كثيرة الآن، وأخرى مدنية خاصة أو دولية من مساعدة للصوماليين في مواجهة المجاعة. فقد شاهدت في ثلاث مناسبات في الأشهر الأخيرة إعلانات ودعايات للتبرع لأطفال الصومال يرد فيها مفرد الـ«Crusading» بمعنى النضال من أجل الخير والحياة وضد الجوع! وبالطبع فنحن نملك ذكريات ومفاهيم عن الحروب الصليبية، تختلف تماما عما يملكه مسيحيو العصور الوسطى والحديثة. فالحروب باسم الصليب، والتي جرت في ديارنا وعليها على مدى مائتي عام قتلت أكثر من مليون، وخربت سواحل وبعض دواخل بلاد الشام وآسيا الصغرى ومصر. وقد صارت لدينا ولدى المسيحيين الشرقيين (الروم الأرثوذكس والأقباط على الخصوص) نموذجا ومثلا على الحرب الدينية الكريهة أو الحرب التي تقتل باسم الدين، أو باسم المسيحية على الخصوص، بينما المعروف أن المسيح إنما جاء برسالة للسلام والتسامح! لماذا هذا الاستطراد في الحرب الصليبية ومعانيها المختلفة بين الشرق والغرب؟ لأن النرويجي برييفيك (بفهمه التبسيطي للعالم ودياناته) ذكر كثيرا في كتاباته حول دوافعه أنه إنما يقوم بحملة صليبية لتطهير أوروبا من الإسلام. وقد سارع علمانيون أوروبيون متشددون وكثير من المسلمين إلى أخذ ادعائه على محمل الجد وبالمعنى الحرفي، فقالوا إن هناك ظاهرة جديدة هي الإرهاب المسيحي، والذي ربما كان قد نشأ رد فعل على الإرهاب الإسلامي! والحل يكون إذن بمكافحة الإرهابين: الإسلامي والمسيحي! بيد أن الذين يقبلون هذا التفسير على علاته يتجاهلون أمرين اثنين صارخين؛ أولهما أنه لا أحد منذ ثلاثة قرون يسمي عملا عنيفا: حربا صليبية؛ بل الحرب الصليبية خاصة بأعمال الخير والسلام. وفي عام 2003 عندما سمى بوش حربه على العراق حملة صليبية، سارع كبار رجال إدارته، ثم البابا الكاثوليكي، إلى تصحيحه علنا، لأن الحرب أيا تكن طبيعتها ودوافعها لا ينبغي أن ترتبط بالمسيح. وثانيهما أن برييفيك الكاره للإسلام كما يكتب ويقول ما قتل مسلما واحدا؛ بل إنما قتل سبعة وسبعين من النرويجيين الشقر الخلص الذين لم يسمع معظمهم بالإسلام! لكن: أليس هناك مسيحيون متشددون يكرهون الإسلام في الغرب الأميركي والأوروبي؟ هناك بالطبع قلة معتبرة من الإنجيليين الجدد، والمسيحيين الصهاينة، تكره الإسلام، من مثل ذلك القسيس الأميركي الذي أحرق القرآن، لكن أحدا من المتعصبين المسيحيين لا يقول بالاندفاع لقتل المسلمين أو أتباع أي ديانة أخرى مكروهة.

إن الذي أريد الوصول إليه أن في أوروبا اليوم موجة كراهية للمسلمين واستطرادا للإسلام. وقد شارك في حملات الكراهية أو أخذ المسافة على الأقل، بعض رجال الدين الكاثوليك والبروتستانت، بيد أن الغالبية العظمى لدعاة الكراهية هي من غير المتدينين. وأعداد هؤلاء بين العامة إلى تزايد، وليس عندهم مفكرون كبار أو منظرون لهذه الكراهية. لكنهم يستندون إلى الهواجس والمخاوف في أزمنة الأزمات: الخوف على موقع العمل، والخوف من الغريب، والخوف من العنف، والخوف على الأولاد والممتلكات. وهذه الأحاسيس استمرت في النمو عبر العقود الماضية، وليس في مواجهة الإسلام فقط؛ بل في مواجهة الغجر ومواجهة السود ومواجهة الآسيويين، وإن يكن التركيز على المسلمين أكبر بسبب تنامي أعدادهم في أوروبا من جهة، ولارتباط الإسلام بالعنف بسبب هجمات «القاعدة» على الولايات المتحدة وعدة أماكن في أوروبا. على أن هذه الهواجس والانطباعات ما بقيت هكذا من دون تغذية وترتيب وتنظيم. بل عملت عليها مجموعات من الصحافيين والاستراتيجيين والصهاينة وأهل اليمين الجديد. وما كانت هذه المجموعات تقصد بالتحديد إلى منع المسلمين من المجيء إلى أوروبا؛ بل إنما استغلت المشاعر السلبية لتصنع عدوا يخلف الشيوعية، ولتبرر استطرادا (وفي ظل آيديولوجيا صراع الحضارات) الحروب على العرب والمسلمين باعتبارهم أناسا عدوانيين، وسيمارسون الشر والعنف إن لم يردعوا بقسوة. وهذه الاستراتيجية العدوانية ظهر لها جانب عنصري لدى ذوي الميول الفاشية من الشبان الأميين أو أنصاف المثقفين، والذين كان أسلافهم يعادون اليهود والغجر والسود لأسباب عنصرية أو دينية أو مختلطة. وبرييفيك من هؤلاء الفاشيين الجدد الذين تتنامى أعدادهم. وهؤلاء ليسوا مسيحيين متدينين لكنهم يستفيدون من الانكماش المسيحي البروتستانتي والكاثوليكي في العقدين الأخيرين في حملتهم على الإسلام. لكنهم رغم التبسيط الشديد الذي يسود أطروحاتهم العنصرية، يعلمون أن الحملة على الإسلام، إن أفادت في استقبال الناس لهم في المناسبات الإعلامية أو الانتخابية؛ فإنها لن تقربهم من السلطة في مواجهة منافسة الليبراليين والاشتراكيين لهم. ولذلك فقد اتجه برييفيك إلى كوادر وشبان الحزب الاشتراكي ليقتلهم باعتبارهم أعداءه الحقيقيين، وليس الثقافيين فقط شأن المسلمين والعرب والسود! إن الغرض من وراء نفي صبغة الإرهاب المسيحي عن برييفيك، وحتى صبغة العداء المطلق للمسلمين، ليس التقليل من شأن وهول ما قام به. بل المقصود لفت الانتباه إلى الضلال شبه المطلق للأوساط الثقافية والسياسية في أوروبا. فعندما صعدت موجات الحملة على المسلمين والإسلام في أواخر الثمانينات من القرن الماضي استخف السياسيون أولا ثم المثقفون ثم رجال الدين بالأمر وركبوا الموجة، وقد تجلى ركوب الموجة بالتركيز على السلوك العنيف للمسلمين نتيجة طبائع الإسلام، وإصرار هؤلاء على الخصوصية المطلقة وعداؤهم للثقافة الأوروبية اليهودية - المسيحية، وغربتهم عن قيم التنوير والديمقراطية. وقد رجوا من وراء ذلك بمن فيهم ساركوزي وميركل وكاميرون الحصول على شعبية أو كما قال ساركوزي: سحب الرياح من أشرعة اليمين! ويا له من سحب للريح، أن تقول كلاما يمينيا متطرفا تشبها بلوبان أو هايدر، إذ لماذا سيتبعك الناس أنت، ولا يذهبون إلى اليميني الأصلي؟! ثم عندما انضم المثقفون وبعض رجال الدين إلى الموجة، ما عاد السياسيون يخافون شيئين، فصرحوا بأن التعددية الثقافية فشلت، وأقبلوا على اتخاذ المزيد من الإجراءات ضد المسلمين في اللباس والتصرف والعمل والرقابة، شأن ما بدأت به الإجراءات النازية ضد اليهود في الثلاثينات.

ولنعد إلى أساس المشكلة. ففي الوقت الذي كان فيه السياسيون الأوروبيون والمثقفون وبعض رجال الدين يقومون بحملات سحرة ضد المسلمين والإسلام، ويريدون تعليمنا كيف تجري إصلاحا دينيا يحررنا من سطوة الدين كما فعل مارتن لوثر، كان اليمين الأوروبي الجديد يتنامى ويظهر في الانتخابات البلدية والنيابية، ويحصل لوبان على ثلث أصوات الناخبين في الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية بفرنسا. وكما سبق القول؛ فإن السياسيين من اليمين ويمين الوسط وبعض اليسار الصهيوني، ما رأى في ذلك النمو خطرا ما دام متجها ضد المسلمين وليس ضد اليهود، مع حملات لا تتوقف على خصومهم من اليساريين والليبراليين وجماعات البيئة والسلام. ولأنهم أخطأوا في تشخيص الظاهرة العنصرية الجديدة، واستسهلوا كسب الأصوات بالدعاية ضد الإسلام، والاندفاع في الحرب على الإرهاب؛ فقد سرح اليمين الجديد ومرح وتغطى بالإسلاموفوبيا ليحصل على النفوذ، وليجمع عناصره تحت سقف آمن. فقلما سمعنا خلال العشرين سنة الماضية عن حظر جماعة نازية، بخلاف ما كان عليه الأمر حتى السبعينات من القرن العشرين. ففي ذلك الوقت كانت الجماعات اليمينية الجديدة تصرح بتمجيد هتلر والحزب النازي، وتصرح بكراهية اليهود وشرورهم. أما في العقدين الأخيرين فقد تغطت باستنكار العنف الإسلامي، وبأن المسلمين غرباء عن أوروبا في الثقافة والدين، وأن أوروبا حضارة يهودية - مسيحية، وأن الاشتراكيين والليبراليين هم الذين ينبغي مكافحتهم لأنهم باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان أدخلوا ملايين المسلمين إلى أوروبا! بعد مذبحة النرويج، والتي قام بها نرويجي ضد نرويجيين مثله، جاءت اضطرابات لندن، والتي ذهب ضحيتها عشرة قتلى. في الحادث الأول قتل نرويجي آخرين من النرويج، وفي لندن اعتدى شباب يمينيون وضائعون عنيفون على المحلات التجارية وأصحابها، وتضررت نتيجة ذلك كثرة من المسلمين، وقتل بعضهم، بينما ما كان بين المهاجمين مسلم واحد! ولذا فالآن وليس قبل ذلك، خرجت أصوات خجولة تطالب بإعادة تقييم المشهد مع الفاشيين الجدد، وإعادة النظر في التوتر الذي ساد في العلاقات مع المسلمين. بينما يذهب بعض المحللين إلى أن أحداث الربيع العربي هي التي سهلت الأمر، وسوف تسهله أكثر في المستقبل القريب.