الفاتيكان: تقوية بعد الإنسان الروحي .. مسيحيين ومسلمين

إميل أمين

TT

هل بقيت هناك مساحة للروحانيات في حياة إنسان القرن الحادي والعشرين لا سيما في زمن العولمة، التي بات واضحا تناقض خطابها الاستهلاكي النهم وسلوكها الرأسمالي الجشع مع أبجديات الشرعية الأخلاقية الساكنة النواميس الإلهية؟

ربما كانت علامة الاستفهام المتقدمة في حقيقة الأمر، السبب الرئيس وراء اختيار المجلس الحبري للحوار بين الأديان في الفاتيكان لهذا الموضوع، ليزين به رسالته السنوية للعالم الإسلامي، في مناسبة انتهاء شهر رمضان وحلول عيد الفطر السعيد.

يوجه كل من الكاردينال جان لويس توران رئيس المجلس الحبري للحوار بين الأديان، وبيير لويجي تشيلاتا رئيس الأساقفة، الحديث بادئ ذي بدء، إلى «الأصدقاء المسلمين»، مؤكدين أنهما اعتبرا أنه من المناسب هذه السنة اختيار موضوع البعد الروحي للشخص البشري، الأمر الذي يعتبره المسيحيون والمسلمون ذا أهمية قصوى، وذلك أمام تحديات النزعة المادية والعولمة.

وعند أصحاب الرسالة أن علاقة كل إنسان مع السمو ليست أمرا صنعه التاريخ، بل أنها من صلب الطبيعة البشرية، فنحن لا نؤمن بالصدفة بل مقتنعون وقد اختبرنا ذلك أن الله يقودنا في مسيرتنا.

وتلفت الرسالة كذلك إلى أن المسيحيين والمسلمين بغض النظر عن اختلافاتهم، يعترفون بكرامة الشخص البشري المتمثلة بالحقوق والواجبات، فهم يعتقدون أن العبقرية والحرية كليهما هبات، عليها تشجيع المؤمنين على الاعتراف بهذه القيم التي نتقاسمها، لأنها مؤسسة على ذات الطبيعة البشرية.

في الجزء الثالث من رسالة الفاتيكان السنوية للعالم الإسلامي تتناول معضلة نقل القيم الإنسانية والأخلاقية للأجيال الشابة، وكيف أن تلك الإشكالية موضوع اهتمام مشترك، وعلى المسيحيين والمسلمين تقع مسؤولية جعل تلك الأجيال تكتشف أن هناك الخير والشر، وأن الضمير لا بد أن يحترم وأن تعزيز البعد الروحي يجعلها أكثر مسؤولية وثباتا واستعدادا للخير العام.

تتوقف الرسالة كذلك مع واقع حال النظرة المتدنية التي تكاد تصل إلى الازدراء للأديان في كثير من بقاع وأصقاع العالم والبحث في سبل مواجهتها وتقليص مساحة نفوذها، ذلك أنه كثيرا ما يصبح المسلمون والمسيحيون شهودا على انتهاك ما هو مقدس وانعدام الثقة بأولئك الذين يعترفون بإيمانهم، وأن تلك الصورة الأخلاقية السلبية لا نستطيع - تقول رسالة الفاتيكان - سوى إدانة جميع صيغ التعصب والتخويف والأحكام المسبقة والجدالات، بالإضافة إلى أعمال التمييز التي يتعرض لها أحيانا المؤمنون في الحياة الاجتماعية والسياسية كما أيضا في وسائل الإعلام.

نهاية رسالة عيد الفطر تحمل تعبيرات لها دلالات خاصة عند أصحاب النوايا الطيبة في كل مكان وزمان.. «نحن قريبون منكم روحيا أيها الأصدقاء الأعزاء، طالبين من الله أن يعطيكم طاقات روحية متجددة، ونقدم لكم أفضل الأمنيات بالسلام والسعادة».

والشاهد أن رسالة الفاتيكان للعالم الإسلامي هذا العام تطرح عدة تساؤلات في مقدمتها هل للمسلمين والمسيحيين ما يقولونه أو يفعلونه معا اليوم وخاصة في وجه أصنام وأوثان المادية البحتة، والعلمانية المتطرفة، والعولمة التي لا تعتبر القيم الدينية، ولا الفضائل الأخلاقية، وبذلك تصنع وجودا ليس متوازنا في الإنسان، الفرد والمجتمع، وتغذي ثقافة الأنا وتسعى في طريق تسخير المجتمع أو بعضه، لمصالح الإنسان صاحب النفوذ أو الرجل السوبرمان؟

لنسأل ولو على عجل، ماذا كتب هؤلاء وأولئك في هذا الصدد.

منذ ما يزيد على الثلاثة عشر قرنا لا يني المسلمون يتأملون تلك الآيات القرآنية التي كانت ترمي إلى مشركي مكة (أرأيت الذي يكذب بالدين، فذلك الذي يدع اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين، فويل للمصلين، الذين هم عن صلاتهم ساهون، الذين هم يراءون ويمنعون الماعون) سورة الماعون: 1 - 7.

والمقطوع به أن المسلمين يعلمون جيدا أن (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر، والملائكة والكتاب والنبيين، وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، والسائلين وفي الرقاب، وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) سورة البقرة: 177.

أما المسيحيون، فهم لا ينفكون يتأملون منذ قرابة ألفي سنة في ما كان بداية عمل السيد المسيح العلني في ناصرة الجليل بفلسطين.. (وقام ليقرأ فدفع إليه سفر أشعياء النبي فلما نشر السفر وقع على الموضع المكتوب فيه: روح الرب علي، لأنه مسحني لأبشر المساكين وأرسلني لأنادي للمأسورين بالتخلية، وللعميان بالبصر، وأطلق المرهقين أحرارا، وأعلن سنة الرب الجديدة، ثم طوى السفر ودفعه إلى الخادم وجلس فشرع يقول لهم: اليوم تمت هذه الكتابة التي تليت على مسامعكم. لوقا 4: 16 – 21) ماذا تعني المقاربات المتقدمة؟

حكما تعني وجود شبه يصل إلى حد التطابق، مما يدفع للعمل المشترك بل العمل الواحد، إذ علينا أن نعترف بحتمية ذلك في مواجهة الوثنيات التي لا تني تتوالد، والأصنام الجديدة التي هي الآن أقوى منها في أي وقت مضى، فتستعبد خلائق الله أو تغويهم باسم الدولة أو الجنس أو المال، باسم التقنية أو الإنتاج أو الاستهلاك، باسم الشهرة الفارغة أو الحرية المزيفة.

يقول المسيحيون إنه سر الشر والخطيئة أو سر الإثم، ويقول الملمون إنه «عمل إبليس ومن كان عدو الجنس البشري. وفي كل الأحوال فإن إنسان اليوم يترقب تحررا جديدا يتيح له أن يعرف الله ويجد صورته في ذاته.

أفلا يستطيع هذا الكفاح لتحرير كل إخواننا من كل العبوديات قديمها وحديثها، أن يجمعنا مسلمين ومسيحيين وفق الدعوة التي وجهها منذ نحو نصف قرن المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني في تصريحه في شأن علاقات الكنيسة بالديانات غير المسيحية؟».

«ولئن كان قد وقع في غضون الزمن كثير من المنازعات والعداوات بين المسيحيين والمسلمين، فإن المجمع يحرضهم جميعا على نسيان الماضي والعمل باجتهاد صادق في سبيل التفاهم في ما بينهم، وأن يحموا ويعززوا كلهم معا، من أاجل جميع الناس، العدالة الاجتماعية، والقيم الروحية، والسلام والحرية».

على أن ما يبعث على الدهشة في مثل هذه الظروف، أن نجد أيضا في العصر الوسيط لقاء ثقافيا إيجابيا بين أوروبا المسيحية والإسلام في صقلية وإسبانيا. فبفضل الترجمات العربية، فتح هذا اللقاء الثقافي أوروبا الغربية على تراث الفلسفة والعلوم الإغريقية وكذلك على إسهامات أصيلة للحضارة العربية في العلوم والفلسفة.

ففي أوروبا ظل ابن سينا هو معلم الطب حتى عصر النهضة، وكذلك ابن رشد – الذي أطلق عليه القديس توما الإكويني لقب الشارح، أي شارح أرسطو - بامتياز أدى دورا مهما في تقدم الفكر العقلاني، ففي قلب هذه المواجهات والقلاقل، يمكن لنا أن نكتشف ضروبا من الانفتاح المتبادل المثير للدهشة، مثل الرسائل المتبادلة والمعبرة عن احترام متبادل بين البابا غريغوريوس السابع وأمير مغربي كان قد طلب من البابا أن يرسل أسقفا إلى المسيحيين في إمارته محل الأسقف الذي توفي.

ما الذي جاءت لتدعو إليه رسالة الفاتيكان للمسلمين والمسيحيين هذه السنة وعن حق؟

الحياة للجميع بكرامة، والعدالة للجميع بمساواة، والحرية للجميع باحترام، والأخوة للجميع بمحبة، تلك هي إذن القيم الإنسانية الأساسية، التي تكون بلا شك «البرنامج المشترك» لالتزامنا كمؤمنين في عالم اليوم. أجل كل ذوي الإرادات الصالحة يشاركون فيه، لكن المؤمنين الحقيقيين مدعوون إليه من باب أسمى، مما يمكن أن يكون سببا إضافيا لتحاورهما... هل جاء الحديث عند ناصية الحوار بين أتباع الأديان؟ إن ذلك كذلك بالفعل، الأمر الذي يعيد إلى ساحة النقاش ولو بشكل جزئي ذلك التساؤل الذي حمله الكاردينال توران في الكلمة التي ألقاها في يونيو (حزيران) من عام 2008 في كلية هيثروب بجامعة لندن «هل الحوار بين الأديان مجازفة أم مناسبة؟».

قبل الإجابة ربما يتوجب علينا إلقاء الضوء على المجلس الحبري للحوار بين الأديان ذاك الذي أسسه بابا الفاتيكان الراحل بولس السادس عام 1964، ويهدف إلى تطبيق رؤية الأمور هذه التي نشأت عن إعلان «في زماننا هذا» - الإعلان الأكثر اختصارا للمجمع الفاتيكاني الثاني، وللمجمع ثلاثة أهداف:

* تعزيز تبادل المعرفة والاحترام والتعاون بين الكاثوليك وأعضاء الأديان غير المسيحية.

* تشجيع وتنسيق دراسة هذه الأديان.

* تعزيز تدريب الأشخاص المتجهين إلى الحوار بين الأديان.

وباختصار غير مخل نستطيع القول إنه ومنذ نهاية المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني «1961 -1964» وحتى أيامنا هذه تطور الفكر الكاثوليكي عبر ثلاث مراحل، فمن رؤية التسامح إلى إمكانية اللقاء وصولا إلى تعزيز الحوار حول عدد مهم من المحاور مثل:

* حوار الحياة: علاقات ودية جيدة مع غير المسيحيين تشجع مشاركة الأفراح والمشاكل.

* حوار الأعمال: تعاون يهدف إلى خير الفريقين وخاصة الأشخاص الذين يعيشون بوحدة في الفقر أو المرض.

* حوار التبادلات اللاهوتية - الفقهية الذي يخول الخبراء الفهم العميق للإرث الديني الخاص.

* حوار الروحانيات الذي يوفر ثروة حياة الصلاة للجميع في المجموعتين... هل حوار أتباع الأديان مجازفة أم مناسبة؟

قطعا تعد رسالة الفاتيكان هذه ضربا من ضروب السعي إلى الحوار عبر البحث عن فهم متبادل بين فريقين، بقصد ترجمة مشتركة لاتفاقهما أو عدم اتفاقهما، ولهذا فإن الحوار هنا يقتضي لغة مشتركة صدقا في تقديم الموقف، ورغبة في بذل أقصى الجهود من أجل فهم وجهة نظر الآخر.

هذه الافتراضات - كما يرى الكاردينال توران - إن تم تطبيقها في الحوار بين أتباع الأديان، تسهل الفهم بأن المسألة في سياق الدين ليست مسألة التصرف بلطف مع الآخرين لإرضائهم ولا هي حتى مسألة تفاوض من ناحية أنه مع إيجاد حل للمشاكل، المسألة هي مسألة مجازفة، وليست مسألة قبول التخلي عن قناعاتي الخاصة، بل مسألة تساؤلي عن قناعات الآخر، بالموافقة على أخذ حجج بالاعتبار، مختلفة عن حججي، أو حجج جماعتي.

جميع الديانات، كل واحدة على طريقتها، تناضل من أجل الإجابة عن لغز الوضع البشري، كل ديانة لها هويتها الخاصة، ولكن هذه الهوية تمكنني من أخذ ديانة الآخر بالاعتبار، من هنا ينشأ الحوار، فالهوية والآخر والحوار عناصر مجتمعة.

تأتي رسالة عيد الفطر من المجلس الحبري للحوار بين الأديان في حاضرة الفاتيكان، لتضع الجميع مسلمين ومسيحيين أمام تحديات عصر منفلت، وحضارة صاخبة، بل وبالتبعية طبيعة وبيئة آخذة في التمرد، ولهذا يبقى من مصلحة قادة المجتمعات وحكماء وعقلاء القوم، التشجيع دوما على الحوار بين أتباع الأديان من أجل رقي الإنسان والاعتماد على إرث الديانات الروحي والأخلاقي، كقيم تساهم في التناغم العقلي، والتلاقي بين الثقافات وتعزيز المصلحة العامة، وعلاوة على ذلك تحث جميع الأديان أتباعها بطرق مختلفة على التعاون، مع جميع الذين يسعون إلى ضمان الاحترام لكرامة الإنسان، وحقوقه الأساسية وتنمية حس الأخوة والعون المتبادل.

في ختام لقاء مع رئيس مديرية الشؤون الدينية في أنقرة بتركيا 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2006، قال البابا بنديكتوس السادس عشر «نحن مدعوون إلى العمل معا لنساعد المجتمع على الانفتاح على المتعالي وإعطاء الله القدير مكانه الصحيح».. وحده الخالق يستحق كل عبادة لذلك جميع الأصنام «الثروة، والسلطة، والمظاهر، والمتعة التي صنعها الإنسان تمثل خطرا على كرامة الشخص البشري الكائن الذي أبدعه الخالق.

كل عام وأنتم بخير وعيد فطر سعيد».

* كاتب مصري