سياسات الدين: الصراعات وضرورات الإصلاح

رضوان السيد

TT

كان العقد الأول للقرن الحادي والعشرين من أخطر الحقب على الإسلام والمسلمين. إذ حفل بصراعات عنيفة في الفكر والسياسات والدين وشؤون الأمن والعسكر والثقافة. وكانت «القاعدة» قد افتتحت ذلك القرن بالهجوم على الولايات المتحدة، وردت أميركا بشن حروب على مدى العالم الإسلامي، كان من نتائجها احتلال أفغانستان والعراق، اللذين لا يزال العنف سائدا فيهما، ويسقط فيهما بشكل شبه يومي عشرات القتلى والجرحى، وهذا فضلا عن المستقبل الغامض للبلدين، واندفاع الخصوم المتصارعين على السلطة وعلى الموقف من الولايات المتحدة، إلى التضارب على شتى المستويات والسبل، مستخدمين شتى الوسائل من دون تفرقة بين المشروع منها وغير المشروع.

إن الذي جرى في هذين البلدين كان هائلا وفظيعا باعتراف سائر المراقبين عبر العالم. وأفظع ما في الأمر أن هذا كله كان يمكن تجنبه فلا تزهق مئات الآلاف من الأرواح البريئة. إن هذه الأحداث التي تنوعت أسبابها، كانت لها نهاية واحدة هي قتل الإنسان وانتهاك الكرامة وإنكار الحق في العيش بأمان وسلام. ومع ذلك، فإن حروب العسكر والمجاعة ليست هي التي نتحدث عنها في هذا السياق، بل ما سماه نبيل عبد الفتاح قبل سنوات «سياسات الأديان» في كتاب بهذا العنوان. ويدور الكتاب حول موضوع واحد في مصر على الخصوص هو: العلائق بين المسلمين والأقباط، والعلائق بين ما صار يعرف بالإسلام المتطرف والآخر المعتدل بمصر أيضا. وهكذا فالصراع كان على الإسلام المقبول، والآخر غير المقبول، أو في الحقيقة: القدرة على شرعنة الهجمة على الولايات المتحدة باسم الإسلام التي تمر ذكراها العاشرة هذه الأيام، أو بعبارة أخرى معاكسة: القدرة على الخروج من ارتهال الدين لهذه الرؤية أو تلك. والذي يعيد طرح هذا الموضوع الآن بقوة ليس حضور الذكرى وحسْب؛ بل حدوث حركات التغيير العربية التي غيرت الموضوع تماما، بحيث صارت الحرب أو الحروب على الإرهاب، أمورا ليست لها أولوية، بل تجري محاولات لتناسيها والتنكر لها باعتبارها ماضيا بغيضا لا يحب أحد تذكره ولا يريد تلك الذكرى التي أزهقت - ولا تزال - فيها أو بسببها ألوف الأرواح. والمثال المضروب على ذلك قصة الليبي عبد الحكيم بلحاج الذي صار الآن أحد قادة الثورة في ليبيا. وكان الرجل قد مضى للقتال بأفغانستان مع رفاق له، ثم هرب من هناك عام 2001 بعد الهجمة المضادة، وتشرد في عدة بلدان إلى أن قبض عليه بماليزيا عام 2004، وأخذ إلى تايلاند حيث ضرب وعذب، ثم سلم إلى ليبيا حيث مكث في السجن سبع سنوات، ثم تبين لسلطات القذافي أيضا أن المصالحة معه ممكنة، فخرج من السجن مع زملاء له، وصنع سلامه مع العقيد ونظامه، إلى أن كانت الثورة فانضمَّ إليها وصار من قادتها، وكان هو الذي قاد معركة طرابلس التي أعلنت عن سقوط نظام القذافي.

أين بدأت مأساة هذا الرجل، بل ربما مآسي عشرات الألوف من شبان المسلمين؟ هل بدأت بصراع الروس والأميركان على أفغانستان؟ أم بدأت بهجوم تنظيم القاعدة على الولايات المتحدة؟ قد يكون هذا أو ذاك هو الصحيح، إنما الأصح أنه مسار في الصراع بين الجبارين، تورط فيه شبان المسلمين باعتبارهم الوقود في الحقبتين: حقبة الحرب الباردة، وحقبة الهيمنة الأميركية التي أعقبت تلك الحرب. وإذا كانت مسارح الحرب الباردة قد تنوعت وامتدت مشرقا مغربا؛ فإن العالم العربي والإسلامي ظل على مدى نحو العشرين عاما المسرح الأبرز لحقبة الهيمنة، وهي الحقبة التي وقعت أعباؤها الرئيسية على عاتق المسلمين، في الأمن والسياسة والحرب والشؤون الثقافية والاستراتيجية الأخرى التي اتخذت عنوانا لها الحرب على الإرهاب، وشاء آخرون - كما سبق القول - أن يتحدثوا عن سياسات الدين أو الأديان، إذ ما كان المسلمون هم الوقود والأدوات فقط، بل كان دينهم أيضا هو الوقود في الحرب الثقافية أو حرب الأفكار، التي اتخذت تجليات شتى بين بلد وآخر، لكنها دارت في الأعم الأغلب تحت اسم التطرف والاعتدال. ومن هنا تأتي علاقة بلحاج ورفاقه بها، وهم رفاق كثر من شتى أنحاء العالم العربي والإسلامي. وهكذا، فقد مضى عقد بل عقدان، كان خلالهما على كل شاب متدين تقريبا، أن يثبت أنه لم يكن في المكان الغلط وفي الزمن الغلط أو الخطأ. وكان يمكن لمئات بل آلاف الشبان أن يلاحقوا ويسجنوا ويقتلوا لا لشيء إلا لأنهم ما استطاعوا إثبات أنهم ما كانوا هنا أو هناك في هذه اللحظة أو تلك. حتى إذا ثبت ذلك بعد جهد جهيد؛ فإن المحنة ما كانت لتنتهي، خشية أن يكون المعذب من دون حق قد حقد أو استقر على نية بالانتقام لما نزل به خطأ وضلالا.

ثم حدثت الأزمة المالية العالمية، وانقضى عهد الرئيس جورج بوش، وتغيرت السياسات، وتغير الموضوع، وما عاد الغرب بحاجة للإسلام عدوا، ولا لحكام الجمهوريات العربية الخالدة أصدقاء وحلفاء، وحدثت حركات التغيير العربية، فصار بوسع عبد الحكيم بلحاج المجرم المضطهد والإرهابي المحاصر، أن يكون أحد زعماء الثورة أو الربيع الذي رحب به الغرب، وصار في الذكرى العاشرة لوقعة برج التجارة العالمي، رمزا من رموز الربيع الشهير والخصب والواعد والنموذج للعالم كله! ولنعد إلى تلخيص الوقائع وضمها معا توصلا إلى استنتاجات ممكنة أو محتملة. تصارع الأميركيون والروس، وكانت أفغانستان بالمصادفة هي الساحة. فاستقدم الأميركيون آلاف الشبان العرب، وعشرات آلاف الشبان المسلمين من غير العرب لمقاتلة السوفيات في أفغانستان. وكسب الأميركيون الحرب ليس في أفغانستان وحسب، بل على مدى العالم. فكان من الطريف والغريب أن اختير الإسلام الذي قاتل معهم السوفيات عدوا جديدا بدءا بالحرب على العراق عام 1990. ودارت صراعات عسكرية وثقافية باسم الإسلام وعليه على مدى عقدين من الزمان، مرت بعدة محطات. وكما بدأت على مراحل ومسارح، انتهت على مراحل ومسارح، أهمها زمن التغيير العربي، ومن وقائعه تحول عبد الحكيم بلحاج من إرهابي إلى بطل.

والاستنتاج بل السؤال الآن وبمناسبة الذكرى العاشرة لهجمات سبتمبر: لماذا اختير الإسلام والمسلمون عدوا جديدا للغرب والعالم بعد زوال الشيوعية والسوفيات؟ هل لأن العالم الإسلامي منطقة استراتيجية مهمة لها مستقبل في زمن الهيمنة وتفكيرها وذهنياتها ومصالحها؟ أم لأن الإسلام في أوضاعه الثقافية والسياسية، وحالته أو حالة بنيه الحضارية، كان قابلا لهذا الاستخدام، على طريقة مالك بن نبي ونظريته في القابلية للاستعمار؟! أم هما الأمران معا: الأهمية الجيواستراتيجية للعالم الإسلامي، والحالة الحضارية والثقافية للإسلام في دياره الأصلية وفي المهاجر؟! وإذا كان الأمر قد تغير أو يتجه إلى تغير، فهل كان ذلك بسبب حركات التغيير العربية، أم العكس، أي إن حركات التغيير العربية صارت ممكنة لأنه أريد فك الحصار عن الإسلام والمسلمين؟! إن الأمر يحتاج إلى تأمل في نطاق هذه الأسئلة الكبيرة والكثيرة. أما ما أريد قوله في هذه العجالة، فهو أن سياسات دينية واستراتيجية اتخذت قبل ثلاثين عاما ربما لخوض صراعات الغلبة والهيمنة باسم الإسلام وعليه، والذي يكون علينا العمل عليه: تطوير ذهنيات وسياسات تجعلنا، وبالتالي تجعل الإسلام، غير قابل للاستخدام أو للاستغلال:

فيا دارها بالخيف إن مزارها قريب ولكن دون ذلك أهوال