في فتنة هيرمن كين.. وهوية مسلمي أميركا

إميل أمين

TT

بات من المعروف أن جماعة المسلمين في الولايات المتحدة الأميركية، تضم ضروبا متنوعة من البشر، من أكثر من ستين أمة، يمثلون خلفيات لغوية ووطنية وعنصرية مختلفة وقد هاجروا إليها في موجات عديدة، بما يعكس التغيرات في سياسة الهجرة الأميركية، علاوة على التقلبات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في الخارج.

وفي الحق أن المسلمين الأميركيين مثلهم في ذلك مثل المهاجرين الآخرين يمثلون مصالح وأهدافا لا تعد ولا تحصى، وقد عملوا على مر السنين على تشكيل وإعادة تشكيل منظماتهم الاجتماعية والدينية، كيما تعكس المصالح المتغيرة والاهتمامات المتنامية لأعضاء جماعتهم، وتؤثر مجموعة متنوعة من العوامل بشدة في تشكيل هويتهم.

على أن السؤال، وبعيدا عن الإغراق السسيولوجي لأوضاع مسلمي أميركا مهاجرين وأصليين: هل باتت هوية هؤلاء وأولئك موضع شك عند البعض؟ وهل يتسق هذا التشكيك مع الدستور الأميركي ووثيقة الحقوق المدنية الأميركية والتعديلات الدستورية اللاحقة، أم أن الأمر مرتبط فقط بزمن الانتخابات الرئاسية التي فيها كل شيء متاح كما في زمن الحروب؟ ثم أخيرا لماذا يتحتم على مسلمي أميركا أن يدفعوا الثمن في مقدمة صفوف الدافعين؟

في الأيام القليلة المنصرمة خرج علينا «رجل البيتزا» الأميركي هيرمن كين، الذي يسعى للحصول على ترشيح الحزب الجمهوري له، لخوض غمار انتخابات الرئاسة الأميركية القادمة، بتصريحات تقطر عنصرية وغير دستورية، مؤكدا فيها أنه مصر على التعهد المثير للجدل الذي تقدم به في حال فوزه بكرسي الرئاسة في البيت الأبيض، أي على إرغام المسلمين - دون سواهم - بأداء قسم الولاء للدستور الأميركي إن رغبوا في العمل ضمن إدارته.

والأكثر إثارة في تصريحات الرجل تأكيده على أنه لن يطلب من أبناء الديانات الأخرى، الذين سيتقدمون للوظائف - في حال فوزه بالمنصب - أداء هذا القسم مصرا على أن ذلك ليس شكلا من أشكال التمييز العنصري، وأنه بذلك يحاول حماية الشعب الأميركي.

هل كان هيرمن كين يدغدغ عواطف الأميركيين ومشاعرهم الدينية عبر اللعب على وتيرة «الإسلاموفوبيا» من جديد، حتى وإن كانت تصريحاته تخالف روح الآباء المؤسسين لأميركا؟

الشاهد أن الجمهوريين يعيشون مأزقا حتى الساعة لجهة إيجاد جواد رابح يقود حملة الانتخابات الرئاسية، التي بدأت في سبتمبر (أيلول) الحالي، في مواجهة الرئيس الديمقراطي باراك أوباما، ومن هنا ربما كان كعب أخيل الذي سيحاولون النفاذ منه إلى صناديق الاقتراع، مزدوج الوسيلة إذ يلعب أولا على عنصر الذكريات المؤلمة، فمع سبتمبر الحالي يكون قد انقضى 10 أعوام، على أحداث نيويورك.

وثانيا بالتشديد على التشكيك في المعتقد الديني لباراك أوباما والعودة إلى علامة الاستفهام القديمة - المتجددة «هل هو مسيحي أم مسلم؟».. هل لعب هيرمن كين هذه اللعبة البراغماتية مع مسلمي أميركا؟

يبدو أن ذلك كذلك بالفعل، وأن الرجل يجيد إطلاق تصريحات على تفاهتها، في الزمان والمكان الملائمين، وعنده كما قال في مقابلة أخيرة له على قناة «فوكس» الأميركية، أن «هذه الأمة تتعرض للهجوم بشكل متواصل من قبل أشخاص يريدون قتلنا، وأنه في الدين الإسلامي توجد (أجزاء خطيرة)، تفوق ما لدى أي دين آخر - على حد تعبيره - ولذلك سأقوم ببعض الإجراءات الوقائية».

تتجلى عنصرية كين وتلاعبه بعواطف الأميركيين عندما يشير كذلك إلى أنه لن يشعر بالراحة لوجود مسلم يخدم معه في الإدارة إلا إذا تمكن من الاطلاع عن كثب على جس ولائه، من خلال «محادثات منفردة معه».. هل هي دعوة لعودة مستترة لمحاكم التفتيش الأميركية في طبعتها العصرية داخل نفوس مسلمي أميركا تحديدا وتخصيصا؟! باختصار المشهد فإن الرجل الداعي كذلك للتضييق على بناء المساجد في الولايات المتحدة، ومنع إنشاء الجديد منها لن يشعر بالراحة مطلقا لوجود مسلم في البيت الأبيض تحت إدارته أو حتى في منصب «قاض فيدرالي».

هل أتت تلك التصريحات أكلها؟

قبل الجواب يجدر بنا ولو في عجالة مناقشة دستورية تلك التصريحات، وهل هي في واقع الأمر محل تطبيق مستقبلي بالفعل أم دعاية إعلانية ليس أكثر على خطورتها.

ينص التعديل الأول في وثيقة الحقوق للأمة الأميركية على أن «لا يصدر الكونغرس أي قانون خاص بتأسيس دين من الأديان.. أو يحد من حرية التعبير أو الصحافة أو من حق الناس في الاجتماع والالتماس».. ما معنى «تأسيس دين من الأديان»؟

المعروف أن التيار البروتستانتي المسيحي، هو الذي يمثل غالبية الأميركيين، وعليه يمنع الدستور الأميركي اعتماد الحكومة القومية طائفة من طوائف البروتستانت، دينا رسميا للدولة دون الطوائف البروتستانتية الأخرى، كما هو الحال في الكنيسة الإنجليكانية في إنجلترا.

كما ينص الحق السابع على عدم شرعية التمييز في الوظائف بواسطة أصحاب الأعمال من القطاعين الخاص والعام، على أساس اللون أو الدين أو الجنس أو القومية الأصلية أو الأصل العرقي.

وبدون الدخول في التفصيلات الدستورية فإن القول بفصل دين الفرد في أميركا عن عمل مؤسسات الدولة والحق في التوظيف، قضية مقطوع بها أيا كانت الخلفية العرقية للفرد ما دام أنه مقيم أو متجنس أو أصيل في الدولة الأميركية، ومهما كان مذهبه الديني ومعتقده الإيماني.

غير أن هذا القطع وإن كان قانونيا ونظريا فإن أميركا تبقى أبدا ودوما دولة علمانية الهوية، مغرقة، ودينية الهوى كما أشرنا أكثر من مرة.

وعودة إلى علامة الاستفهام «هل أفلحت مناورات ومداورات هيرمن كين الذي لم يعرف عنه سوى أنه (رجل البيتزا) في زخم حملة ترشحه داخل الحزب الجمهوري»؟

يبدو أن تلك التصريحات بالفعل قد ساعدت على تعزيز شعبيته، إذ تظهر استطلاعات الرأي أنه بات صاحب ثالث أكبر شعبية في الحزب الجمهوري، بعد النائب ميت رومني، الذي حل في المركز الأول والحاكمة السابقة لولاية ألاسكا سارة بالين، التي حلت في المركز الثاني.. هل تقتصر مغازلة التيارات اليمينية الأميركية من قبل الجمهوريين على هيرمن كين فقط أم تمتد إلى وجوه جمهورية أخرى أكثر عمقا وتجذرا في الحياة السياسية الأميركية؟

عبر قراءة أولية للمشهد نرى أن هناك ما يشبه «المزايدة على عداوة الإسلام وكراهيته» عند أهم الرموز الجمهورية المرشحة للرئاسة.

من أهم وأخطر تلك الشخصيات رغم أنه لا يحتل مرتبة متقدمة في السباق يأتي نيوت غينغريتش رئيس مجلس النواب الأميركي السابق، ففي خطاب له مؤخرا أمام ما يعرف بـ«قمة ناخبي القيم»، أعلن غينغريتش أنه «يجب أن يكون لدينا قانون فيدرالي ينص على أن الشريعة الإسلامية لن يعترف بها من جانب أي محكمة في الولايات المتحدة».

وفي محاضرة له أمام معهد «أميركان إنتربرايز» أحد أهم مراكز الأبحاث اليمينية الأميركية أشار إلى أن «الجهاديين المستترين يستخدمون أدوات سياسية واجتماعية ودينية وفكرية، وجهاديي العنف يستخدمون العنف لكن كليهما في واقع الأمر منخرط في الجهاد، وكلاهما يريد فرض الشروط الضرورية لتحقيق الهدف نفسه وهو استبدال بالحارة الغربية التطبيق المتطرف للشريعة».

لم يختلف نيوت غينغريتش في واقع الأمر كثيرا عن هيرمن كين في طريقه إلى التشكيك في هوية وولاء مسلمي أميركا، وهل هي للدين أم للدولة الأميركية، ولذلك كان يضيف قوله «إني أفترض أن الجهاديين المستترين مثلهم مثل الشيوعيين المعروفين، الذين أدرجهم السيناتور جوزيف مكارثي على قائمته».

وفي مسوغات ترشح غينغريتش لانتخابات الرئاسة القادمة حديث طويل عن مواجهته للشريعة الإسلامية التي وصفها بأنها «تهديد وجودي لاستمرار الحرية في أميركا والعالم، وتنطوي على مبادئ (بغيضة) بالنسبة إلى العالم الغربي». بل وضع استراتيجية أوسع رأى أنها الأجدى لمكافحة الإرهاب الإسلامي تتركز على ثلاثة منطلقات، فبجانب منع الشريعة الإسلامية من التسلل إلى داخل أميركا، ورفض محاولة فرضها على المجتمع الأميركي، هناك الجبهة الأوروبية التي يجب إيقاظها وتحذيرها، ثم مواجهة الإسلاميين في سبع دول في الشرق الأوسط.

أما سارة بالين المرشحة الجمهورية فلم تكن بعيدة عن المشهد، فهي صاحبة الدعوة الواضحة في سبتمبر من العام الماضي للتصدي لأي موافقة من المجلس المحلي لمدينة نيويورك على الطلب المقدم من منظمة إسلامية أميركية لبناء مسجد مجاور للموقع المعروف باسم «غراوند زيرو»، وهي التي طالبت المسلمين بالبحث عن موقع آخر، وفي زيارتها الأخيرة لإسرائيل في مارس (آذار) الماضي وقفت عند حائط البراق بالقدس، معلنة أن القدس جزء لا يتجزأ من إسرائيل ودعت اليهود إلى ضرورة عدم الاعتذار للمسلمين في كل وقت، على سيطرتهم على مدينة القدس وحائط المبكى - على حد تعبيرها - باعتبار أن القدس وكل شبر فيها هو حق لليهود وليس لغيرهم.

أما المرشح الجمهوري الأوفر حظا حتى الساعة المورموني ميت رومني والذي أفردنا له مقالا من قبل، فلم يكن مختلفا كثير الاختلاف عما قال به هيرمن كين بل لعله كان أكثر عنصرية وتطرفا وإن بصورة مقنعة لخبرته السياسية بخلاف كين قليل أو عديم الخبرة بالعمل السياسي، إذ اعتبر رومني أن نسبة المسلمين من عدد السكان في الولايات المتحدة لا تبرر تعيين مسلم في إدارته، في حال فوزه.

وفي تصريحه تضارب واضح وفاضح إذ تشير بعض الإحصاءات مؤخرا إلى أن عدد المسلمين داخل الولايات المتحدة الأميركية يصل إلى 7 ملايين وربما أكثر، في حين أن عدد أتباع طائفته المورونية لا يتجاوز الملايين الخمسة بحال من الأحوال.

هل تقود طروحات هيرمن كين وميت رومني داخل الولايات المتحدة إلى وضع مشابه - ربما - لما يجري في إسرائيل من مطالبات بإقرار قانون الولاء؟ وهل يبقى العرب والمسلمون داخل فلسطين المحتلة وعبر الولايات الأميركية الحرة على حد سواء؟

يرى نتنياهو أن «دولة إسرائيل هي دولة قومية للشعب اليهودي، وأن هذا المبدأ يقود سياسة الحكومة الإسرائيلية الداخلية والخارجية معا، وهو أساس القانون الإسرائيلي»، ويتمثل المبدأ عند نتنياهو في جملة «دولة يهودية ديمقراطية»، وأنه ينبغي أن يظهر كذلك في قسم الولاء الذي يؤديه أولئك الذين يسعون للحصول على الجنسية الإسرائيلية.

من يضمن ألا يتكرر السيناريو في أميركا إذا بقي معدل التصاعد السلبي لجهة مسلمي الدولة العظمى المنفردة بمقدرات العالم على هذا النحو؟

حتما أن داخل أميركا من الجمهوريين والديمقراطيين ومن القيادات المسيحية، بل وحتى اليهودية المعتدلة من يرفض وسيرفض مثل تلك الآراء في الحال، لكن خطورة المشهد في الاستقبال، ولا سيما أن الحال - على مرارته - تغير بالنسبة إلى الأميركيين عبر العقد الماضي، ذلك أن الغضب الأميركي لم يعد مصوبا تجاه هجمات البرجين أو وزارة الدفاع الأميركية بل بات يتشكل عبر جهود فكرية وإعلامية في حركة سياسية واجتماعية، وبالطبع دينية متطرفة، كما في حالة القس تيري جونز ذات الزخم الهائل الموجه ضد كل ما هو إسلامي ومن هو مسلم! كيف لمسلمي أميركا ومسلمي العالم بأكمله إبطال دعاوى كين ورومني وبالين؟

دعوة مفتوحة للتفكير بالتزامن مع الذكرى العاشرة لهجمات سبتمبر في مبادرة كبرى، تحمل راية التسامح وتعلي من شأن التصالح، ولا تدع مكانا بعد للتشكيك في الولاءات، ولا التذرع بالهويات القاتلة دينية كانت أو عرقية.

* كاتب مصري