الحريات الدينية والثورات العربية

رضوان السيد

TT

صدر التقرير السنوي عن الحريات الدينية، والذي تشرف على إصداره وزارة الخارجية الأميركية. وما جاءت فيه أُمور غير عادية فيما يتعلق ببلدان العالمين العربي والإسلامي إذ الذي جاء فيه عن تلك البلدان يعود إلى عام 2010، بما في ذلك الحديث عن التفجيرات ضد الكنائس بالعراق ومصر. إنما المعروف أنّ وقائع التعرض للكنائس استمرت على قِلة بعد الثورة المصرية أيضا. وما يزال وعد الحكومة المصرية بإصدار قانون شامل لبناء المعابد، قيد الانتظار من جانب الأقباط على الأقلّ. أمّا الذي أثار الاهتمام بالتقرير في الحقيقة، فليس ما ورد فيه، بل ما قالته وزيرة الخارجية الأميركية تعليقا عليه أو تقديما له في الإعلام. إذ ذكرت للمرة الأولى أنّ الثورات العربية تحمل تداعياتها إمكانية التعرض للأقليات الدينية، من جانب أُصوليين وإرهابيين، ومن جانب المواطنين البسطاء الذين يتعرضون للعنف الشديد من جانب السلطات مثلما يحدث في سوريا. وتزامن كلام كلينتون مع تصريحات البطريرك الماروني الراعي في فرنسا ولبنان (وقبل ذلك في محاضرة ألقاها بروما قبل شهر ونصف)، التي تنبه إلى مخاطر الأُصولية السنية (على الخصوص) على المسيحيين! والواقع أنّ من صاروا يُعرفون بالجهاديين من أتباع «القاعدة» والمتعاونين معها، ما تقصَّدوا المسيحيين العرب بالهجوم حتّى في العراق. وإنما كانوا يتقصدون مخالفيهم في الرأْي من المسلمين. وعندما نشب الصراع الطائفي بعد الحرب الأميركية على العراق، أوقع سوء حظ المسيحيين وسط الأجواء الفالتة، بعضا منهم ومن معابدهم في غمار الهجمات المتبادلة، وقد انقضت تلك الفترة. إنما هذه التجارب السلبية بالعراق ومصر، تركت آثارا غائرة في وعي المسيحيين بالمشرق، واستخدمت في لبنان وسوريا على الخصوص، لترويج أُطروحات مثل تحالف الأقليات، أو الكانتونات التي ينبغي إقامتها لحمايتهم، أو الإصرار على بقاء الأنظمة أو بعضها باعتبارها كانت الأفضل للمسيحيين من المجهول الذي لا يعرفونه.

لماذا تجدد الحديث عن ذلك في الأسابيع الأخيرة؟ تجدَّد هذا الحديث بسبب الاضطراب الجاري على النظام في سوريا، وطلبه من زعماء الأقليات أن ينصروه لدى مرجعياتهم وفي تصريحاتهم في الإعلام. وقد قاموا بذلك بالفعل، ونذكر منهم بطريرك الأرثوذكس، وبطريرك السريان الأرثوذكس، وبعض مقامات الأرمن الدينية. بيد أنّ كلام الراعي تميز بعدم الاكتفاء بنصرة نظام الأسد، بل تعدى ذلك للحديث عن طبيعة الإسلام السني الأصولية، وإمكان أن يستقوي سنة لبنان بسنة سوريا إذا نجح الأخيرون في تغيير نظامهم والوصول للسلطة، مما يشكّل خللا في التوازن السياسي والطائفي بلبنان. وهذه بالطبع تخرصات لا يملك عاقل أن يذهب إليها أو يقول بها إلا إذا استدعت ذلك وقائع غلابة لا يمكن دفعها، فتكون المسؤولية الملقاة على عاتق أولي الأمر الديني من المسيحيين، داعيا للتدخل والتحذير والإنذار. وهذه أمور كلُّها ما كانت وفي سوريا بالذات. ولذا فللأمر أسبابه الثقافية والسياسية، ولا علاقة له بواقع المسيحيين، ولا بمصالحهم القريبة والبعيدة. إذ كيف يكون السنيون أُصوليين متشددين وهم يشكّلون السواد الأعظم من المسلمين، ويزيد عددهم على المليار. وهناك متشددون قليلون في صفوفهم، لكنهم في الأعمّ الأغلب غير عنيفين، والعنيفون منهم لا يعملون إلاّ بأوامر من دوائر تريد بالفعل الفتنة والحرب، لكنهم لا يتقصدون بها المسيحيين بل مسلمين آخرين وأنظمة حكم يختلفون معها. وقد وقعت للمسيحيين بعض المشكلات لوقوعهم على الجبهات. بيد أن الشواهد على هذه الدعوى قليلة أو نادرة. ونحن نعلم أنّ المسيحيين الذين سقطوا في المظاهرات بسوريا هم أكثر عددا بما لا يقاس من هؤلاء الذي تزعم الأجهزة أنّ المسلَّحين قتلوهم! إنما من أين رأى البطرك الماروني أن الإسلام الأكثري مشكلة بالنسبة للمسيحيين؟! فقد عاشوا قرونا بين المسلمين دون قضايا ومشكلات كبرى، وهم يعيشون شركاء من أكثر من قرن في بلدان المشرق العربي. وخلال القرنين التاسع عشر والعشرين، اشتعلت نزاعات بين الأقليات المسيحية والإسلامية، وفيها جميعا تدخل المسلمون السنة وتدخلت الدولة العثمانية مصلحة أو حامية للمسيحيين. وعندما قام نظام المتصرفية (= الحكم الذاتي) في جبل لبنان، قبل العثمانيون أن يكون المتصرّف مسيحيا من رعايا الدولة، وما احتجّ المسلمون على ذلك. بل لقد طالبوا بزيادة التمثيل المسيحي في مجلس «المبعوثان» العثماني باعتبار ذلك إنصافا لإخوانهم المسيحيين بحسب أعدادهم وطوائفهم. والمفهوم أنّ التقليد الذي استقرّ على أن يكون رئيس متصرفية لبنان مسيحيا، هو الذي أدى إلى الأخذ بهذا العرف عندما أُنشئ لبنان الكبير عام 1920. وفي سائر النزاعات التي حدثت بعد قيام لبنان، ما شارك المسلمون السنة بالسلاح فيها، وتدخلوا في الحرب الأهلية الأخيرة بزعامة رفيق الحريري مصلحين وآسين للجراح، وجراح المسيحيين قبل جراحهم هم. وأذكر ذلك كلّه، في محاولة لفهم أسباب مخاوف البطرك الماروني، وبعض المسيحيين الآخرين من سوريا ولبنان والذين شاورتُهم واستمعتُ إليهم، وما وجدت بالفعل مبررات لذلك! هم يذكرون ما يقوله النظام السوري في إعلامه عن وجود المسلَّحين والإرهابيين والمتشددين. لكنهم يعودون فيقولون إنّ إعلام النظام لا يصدَّق فهم لم يخبروا بأنفسهم شيئا من ذلك، ثم إنه حتى لو كان هناك متشددون، فإنّ مشكلتهم مع النظام وقواه الأمنية وليس مع المسيحيين. بيد أنّ الأمر يتجاوز في الحقيقة ما يقوله النظام وما لا يقوله، أو ما وقع بالفعل في سوريا والعراق. فالواقع أنّ المسيحيين العرب (خارج مصر) تغيرت أولوياتهم، وسيطرت على شبابهم قيم وسلوكات النجاح ومطامح الهجرة والشهرة والراحة المادية. وبذلك فإنّ الإحباط الذي نزل بشباب المسلمين والمسيحيين في المرحلة الماضية بالجمهوريات الخالدة، تحول إلى وعي غلاب لدى المسيحيين منهم على الخصوص بالدخول في الحداثة وما بعدها. وهذا أمر جيد أو أنه كانت له نتائج إيجابية. والطريف أنّ الجيل الشاب من المسيحيين لا يخاف من الثورات العربية، لكنه يتحدث بتفاؤل من كندا أو فرنسا أو السويد. أمّا المخاوف - وهي أدنى إلى عدم التأكد أو القلق الناجم عن اللايقين - فهي ظاهرة لدى الشيوخ المستقرين من رجال الدين وغيرهم، ممن صنعوا سلامهم مع النخب الحاكمة في الجمهوريات الخالدة وبخاصة مع بعثيي العراق وسوريا. وليس معنى ذلك أنهم يخشون انتقاص مصالحهم وحرياتهم إن ذهبت الأنظمة التي تصالحوا معها فقط؛ بل إنّ المقصود أن المسيحيين المستقرين وذوي الأحوال الحسنة من الكهول والشيوخ، ما عادوا يملكون شأن آبائهم وأجدادهم مشروعا نهضويا يتشاركون فيه مع الأكثرية والأقليات الأُخرى، وبالتالي ما عادوا مستعدين لاستقبال الجديد والعمل فيه ومعه. أما مسيحيو لبنان فلهم شأن آخر، وهم يؤثرون سلبا على المسيحيين الآخرين. فقد قادوا مشروعا سياسيا وفي طليعتهم الموارنة، فأدى إلى إنشاء لبنان. وتعرض الكيان لمشكلات كثيرة لسببين: إصرار المسلمين على الشراكة، وإصرار النظام السوري على السيطرة. وقد حصل الأمران، لكنّ المسيحيين بعد أن أُخضعوا (مثل المسلمين السنة)، توصلوا إلى ترتيبات حمائية ومبادلات مع السوريين أو أنّ فريقا وازنا منهم فعل ذلك من قبل، وفعله الجنرال عون مع السوريين وحزب الله بعد عام 2005. فهناك ما يشبه أن يكون «تحالف أقليات» عملي، وإن لم يتحدثْ به هؤلاء بعضهم إلى بعض. وهذا بالنسبة لوجهاء المسيحيين يتيح حرية الحركة، كما يتيح نوعا من الحكم الذاتي، بدأ عام 1979 بخروج القوات السورية من المناطق المسيحية.

إنّ المسألة ليست مسألة حريات دينية، ولا حتى حريات سياسية؛ لأنه لا الإسلاميون ولا غيرهم قد حكموا بعد في أي من البلاد العربية التي شهدت ثورات؛ ولذا لا يمكن الحكم على التجربة إن شئنا الإنصاف. لكنّ رجال الدين المسيحيين خارج لبنان أقاموا سلامهم مع آل الأسد على دَخَن، ولا تتحمل أعمارهم ولا وعيهم التجربة الجديدة. في حين أنّ فئة كبرى من المسيحيين اللبنانيين عرفت فضائل تحالف الأقليات، ونظام الحكم الذاتي أيام السوريين في لبنان، وهي تعتقد أنه أفضل لها البقاء فيه وعليه، من تجربة حكم ديمقراطي في سوريا لا تعرف هل ينجح أو لا ينجح وأي علاقات سيقيمها مع لبنان!