النمسا.. وتجاوز إشكالية «رهاب الإسلام» الأوروبي

إميل أمين

TT

لعله من المثير في الوقت الذي تشكو فيه غالبية دول أوروبا من مخاوف واضحة تجاه الإسلام والمسلمين، بلغت حد «الهوس غير الصحي» في ألمانيا، والتعبير هنا للكاتب والأكاديمي الألماني «رولف شيدر»، عبر مجلة «دير شبيغل» الألمانية، أن نجد دولة أوروبية أخرى هي النمسا تجاهد بخطوات إيجابية في طريق تجاوز الإسلاموفوبيا، وتنظر إلى التعاون مع مواطنيها من المسلمين نظرة بها من التفاؤل والإيجابية الشيء الكثير.

في ألمانيا، بحسب شاهد من أهلها، أضحت التهم الكثيرة توجه للمسلمين بداية من تهديد حرية المرأة، وانتهاء باتهامهم بمحاولة تدمير المجتمع الألماني، من خلال الغزو السكاني وتغيير الخارطة الديموغرافية.

أما في النمسا فقد استمعنا بإعجاب وتقدير، الأيام الأخيرة الماضية، لميشائيل شبندليغر، وزير الخارجية ونائب المستشار النمساوي، وهو يتحدث عن الأهمية الكبيرة التي تعلقها بلاده على العلاقة مع المسلمين، والجماعة الإسلامية المحلية، أي المواطنين المسلمين النمساويين، سواء من المهاجرين أم الأصلاء الذين اعتنقوا الإسلام مؤخرا.

ففي لقاء جمع بين شبندليغر والرئيس الجديد للهيئة الدينية الإسلامية في النمسا، فؤاد سانتش، كان الأول يؤكد على «أن الحرية الدينية هي أحد المكاسب الرئيسية التي ترتبط ليس فقط بحقوق الإنسان، ولكن أيضا بالمسؤولية»، مضيفا «أن مسؤولية حرية الدين والعقيدة، تكمن في استخدامها من جانب المجتمعات الديمقراطية التعددية، التي تكفل حقوق الإنسان والحريات الأساسية، والمساواة بين النساء والرجال».

وعبر رؤية تستند إلى تجربة تاريخية طويلة، يقر وزير خارجية النمسا أن بوسع بلاده «أن تعتمد على تقاليد راسخة وطويلة الأمد في الحوار مع الإسلام، وأن حكومته ستعمل على تعزيز هذا التقليد في المستقبل من خلال التعاون الملموس مع الهيئة الدينية الإسلامية».

والشاهد أن تصريحات شبندليغر تثير عددا من التساؤلات، أولها عن تاريخ الإسلام والمسلمين في ذلك البلد الأوروبي، الذي تفرد عن باقي دول أوروبا الغربية، بالاعتراف بالحضور الإسلامي منذ وقت مبكر جدا يعود إلى نهايات القرن التاسع عشر.

يمكن الإشارة في بداية الأمر إلى الدراسة التي أجرتها الجمعية النمساوية للتفاهم الدولي العام الماضي 2010، وأظهرت أن عدد المسلمين في النمسا يبلغ نحو 6 في المائة من عدد السكان، معظمهم هاجروا إليها في ستينات القرن الماضي، وأغلبهم من البوسنة والهرسك وتركيا وصربيا، إضافة إلى مسلمين عرب وباكستانيين.

في حين أظهرت دراسة أخرى أعدها المركز النمساوي للدراسات السكانية والعلمية، ونشرت مقتطفات منها على صدر صفحات جريدة «دي بريسه» النمساوية المحافظة، أنه بحلول عام 2050، سيوجد تلميذ مسلم بين كل ثلاثة من تلاميذ المدارس النمساوية الذين تصل أعمارهم إلى الـ15 عاما، كما أن الحربين العالميتين الأولى والثانية، شكلتا في حقيقية الأمر الهجرة الأوسع للمسلمين إلى هناك.

هل عدمت النمسا، مع هذا التاريخ الطويل، حالة الخوف المرضي من الإسلام والمسلمين، ومن عداء الجماعات اليمينية الأوروبية المتطرفة لأي دين مغاير؟

مؤكد أن هناك قراءات كثيرة تؤكد أن النمسا لم تعدم الإسلاموفوبيا، وبخاصة من التيارات السياسية الحزبية المغرقة في أصوليتها ويمينيتها، مثل حزب الحرية النمساوي، الذي يتزعمه النمساوي اليميني هانز كريستيان شتراخه، وضم بين صفوفه ذات مرة مرشحة يمينية متطرفة تدعى سوزانا فينتر، بلغ بها أمر العداء للمسلمين إلى توجيه اتهامات قاسية لهم وللإسلام كدين وعقيدة، وطالبت السياسية النمساوية بأن يعود الإسلام من حيث أتى فيما وراء البحر المتوسط، وبررت الهجوم على الإسلام بإساءة الرجال المسلمين معاملة الأطفال.

أما هانز كريستيان شتراخه، رئيس حزب الحرية النمساوي، فقد دعا في منتصف العقد الأول من القرن الحالي (2004 - 2005)، إلى التنبه لخطورة ما سماه بـ«الأسلمة» في النمسا، ودعا إلى ضرورة اتخاذ كل التدابير لمواجهة هذا التحدي، على حد وصفه، كما عبر شتراخه دائما عن اعتقاده بأنه «ينبغي أن تبادر السلطات النمساوية المعنية، إلى منع النساء المسلمات النمساويات أو غيرهن، من ارتداء الحجاب في أماكن الخدمات المدنية، ومؤسسات القطاع العام، وكذلك في المدارس والجامعات وعموم النمسا».

وقد عمد شتراخه في حملات الإسلاموفوبيا التي شنها ضد الوجود الإسلامي في النمسا، إلى تبرير ذلك بأنه يعبر عن قلق الناخبين المرغمين على «التعايش مع المزيد من الأجانب باستمرار، ممن لا يريدون أن ينسجموا مع المجتمع النمساوي»، على حد تعبيره.

وقد كانت رسائله الانتخابية مليئة بالتحريض ضد الأتراك «الذين لا يظهرون الاحترام للنساء»، والتحذير من الأفارقة السود الذين يعرضون المخدرات المحظورة علنا.

ويبدو أن إشكالية بناء المساجد وإقامة مآذن لها في أوروبا، باتت مثل العدوى المرضية، ومرشحة للأسف للانتشار، إذ احتدمت في النمسا كذلك منذ فترة.. غير أن هذه القضية بالذات مثلت منعطفا مهما في محاولة التحدي والتصدي لنشر الذعر في عموم البلاد من الدين الإسلامي، ومن مريديه ومؤمنيه، قد كان لبعض الكنائس المسيحية المؤثرة والفاعلة هناك دور إيجابي في هذا السياق، وإن كبدها نقدا لاذعا من اليمين المتطرف.. كيف ذلك؟

جرت المقادير في أواسط إثارة أزمة مآذن المساجد في النمسا، أن تدخل رئيس الأساقفة، مايكل بونكير، الرئيس الروحي الأعلى للكنيسة اللوثرية البروتستانتية في النمسا، وصرح في حوار له أجراه مع وكالة الأنباء النمساوية، بأن «بناء المسلمين مساجد ذات مآذن هو أمر طبيعي للغاية، وأنه من الضروري، علاوة على ذلك، إعلان الأيام الدينية الإسلامية كعطلات رسمية وفقا للقوانين، وحماية الحرية الدينية للأفراد من خلال الدستور».

هذه التصريحات دفعت هانز جورغ جنيوين، السكرتير العام لحزب الحرية اليميني، لأن يدلي بتصريح كتابي للإعلام في بلاده، أعلن من خلاله أن هذا الأسقف يسير في طريق خاطئ، وأن الكنيسة في النمسا على حافة الهاوية بسبب هذا النوع ممن يريدونها. وأضاف جينوين أنه «يرى تصريحات رجل الدين هذه غير مفهومة، وأن مثل تلك التصريحات توضح لماذا وما هي الأسباب التي تدفع الناس لأن ينفضوا عن الكنيسة في بلاده؟».

وأكد جينوين كذلك، الذي اعتبر حزبه ثاني أكبر حزب في فيينا، أن على رئيس الأساقفة اللوثري، مايكل بونكير أن يتحدث قليلا عن مخاوف النمساويين بسبب الهجرة، بدلا من حديثه عن حرية المسلمين.

الإسلاموفوبيا موجودة في النمسا.. نعم، لكن الشيء الإيجابي الذي يمكن أن يحسب للمجتمعات الأوروبية، هو أن لديها من الرجال العلماء، ومن المرجعيات الفكرية ما يذود عنها، في أحايين كثيرة، الأخطار التي تحدق بها، والنوازل التي تتربص لها، وأخطرها في حاضرات أيامنا الإسلاموفوبيا والرهاب من الإسلام.

وليس أدل على ما نقول به من أن النمسا، في شهر أبريل (نيسان) الماضي، قد شهدت عقد اجتماع مهم للغاية لعدد من الخبراء، وهم مزيج من رجال العلم والأمن والدين والاجتماع، عبر ما عرف بالاجتماع العلمي الأول للدول الناطقة بالألمانية، الذي يدور حول الإسلاموفوبيا.

وعلى عتبات الانعقاد صرح الناطق باسم اللقاء بحقيقة أن المسلمين يواجهون في المجتمعات الناطقة بالألمانية، وهي ألمانيا والنمسا وسويسرا، بالكثير من صور كراهية الأجانب، وبجانب تلك الكراهية، فهناك خوف منهم ناشئ عن توقع بالتعرض للعدوان، مما يعد سمات مرضية واضحة.

وفي نهاية أعمال اللقاء، كان هناك إقرار صريح من رئيس المؤتمر السيد رافائيل بونيلي، أكد فيه أن «الخوف يعد دوما مرضا نفسيا خطيرا، ونحن مهتمون بما يدور في داخل عقول الناس الذين ينقادون نحو الخوف من الإسلام، وبهذا ننجو بأنفسنا من أي استغلال سياسي لمجتمعاتنا، فالمسلمون هم كبش فداء المجتمع».

هل يتوقف الأمر عند رجال الدين المسيحي النمساوي أو بعض الخبراء والاختصاصيين الذين بدأوا بالفعل في مجابهة تلك الظاهرة المرضية؟

الشاهد أن الأمر تجاوز ذلك وصولا إلى رئيس الدولة هانز فيشر، الذي حذر من خطورة تنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا في المجتمعات الغربية، معتبرا أن المسلمين في النمسا يقومون بدور فاعل لإثراء الحياة الاجتماعية.

حدث ذلك قبل نحو عامين 2009، وبمناسبة عيد الفطر، إذ «أثنى فيشر على الأداء الإيجابي الذي يميز أبناء وقيادات الأقلية المسلمة داخل البلاد، بما يسمح بنمو مطرد للتعايش بين أبناء المجتمع الواحد»، وفي حفل الاستقبال الذي جرى في قصر الرئاسة النمساوي هوفبورج، قال فيشر إن التعايش السلمي والاعتراف بالأديان في البلاد لا يعني عدم وقوع بعض التوترات التي تطفو على السطح بين حين وآخر، وهو ما يتطلب وجود حالة من الوعي تمنع الانزلاق وراء أي محاولات استفزازية تنعكس سلبا على الأقلية المسلمة أو على من ينتمون إلى أي دين آخر بالنمسا.

وبحال من الأحوال يخلص الرائي المدقق والمحقق للمشهد في النمسا، إلى أن هناك من يعمد، وبخاصة في زمن الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية، إلى تفعيل آليات الخوف ودفع ميكانيزمات الترهيب قدما، لتحقيق مصالح حزبية سياسية ضيقة، وأن الإعلام في الجزء غير الموضوعي أو العقلاني منه، يفرض على المشاهد الأوروبي عامة، والنمساوي خاصة، مشاهد لما يمكن أن نطلق عليه «الإسلام المتخيل»، لا الإسلام الحقيقي، إسلام مستمد الحديث عنه من تأويلات وروايات لا علاقة لها بالبحث الديني اللاهوتي أو الفقهي، ولا تتقاطع مع أبجديات الروحانيات المسيحية في التلاقي مع الآخر، والنتيجة الحتمية لهذا أو ذاك خوف من الآخر، ورغبة في إقصائه وعزله.

هذه المشاهد أشار إليها باقتدار الكتاب الذي صدر منذ فترة في فيينا حول الإسلاموفوبيا للدكتور فريد حافظ، بالاشتراك مع كل من جون بونتسل وكورت روتشيلد، وقد حاز على جائزة الكتاب السياسي لعام 2010، التي يقدمها معهد برونو كرايسكي للتعايش بين الثقافات.

ويشير حافظ في كتابه إلى أنه لم يسمع منذ سبع سنوات أصواتا تطالب بحظر الحجاب مثلا في الأماكن العامة، والآن أصبح المطلب أيضا من الأحزاب النمساوية المعتدلة، وقد تم الآن حظر بناء المساجد والمآذن في مقاطعتين نمساويتين بموافقة الأحزاب النمساوية المعتدلة.

هل سيقدر للنمسا الفكاك من إسار الرهاب الإسلامي الذي عهدناه، وبنوع خاص منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001؟

يرى البروفيسور فينسان جيسير من معهد الدراسات والأبحاث حول العالم العربي والإسلامي IREMAM التابع للمركز الوطني للبحوث العلمية CNRS في «إكس إن بروفانس» في فرنسا، أنه في أفق القرن الحادي والعشرين بدا تسييس «المسلم الآخر» جليا على ثلاثة مستويات مختلفة:

1) على المستوى التشريعي، حيث تبنت الأكثرية الساحقة من الدول الأوروبية إجراءات أمنية، مما تسبب في تشويه سمعة المسلمين الذين باتوا يعتبرون من الفئات الخطيرة الجديدة في الاتحاد الأوروبي.

2) على المستوى الانتخابي، حيث أفرطت بعض التيارات الفكرية والأحزاب السياسية الأوروبية، في استغلال موضوع العدد الداخلي لتدعم مركزها في الميدان السياسي.

3) على مستوى النخب الحكومية، حيث كان الإغراء كبيرا للعب على وتر الخوف من الإسلام بشكل أقل جلاء من اليمين المتطرف، من دون شك، ولكن بافتراضات أفضت في بعض الأحيان إلى ارتباك المواطنين العاديين في الاتحاد الأوروبي.

هل من خلاصة ؟

رغم تصريحات شبندليغر الإيجابية الأخيرة، فإن إنهاء حالة «الرهاب الإسلامي» يبقى هدفا بعيد المنال، لا سيما في ظل الترويج المستمر لمخاوف تحمل عناوين متجددة، مثل أوروبة الإسلام أو أسلمة أوروبا.

* كاتب مصري