الإسلام والعلماء والتغيير: الهند والعالم العربي

رضوان السيد

TT

كتب محمد قاسم زمان، وهو أستاذ باكستاني في الجامعات الغربية، عدة كتب عن علماء الإسلام في القديم والحديث. إنما عندما كتب عن الأزمنة الحديثة، اهتم على وجه الخصوص بعلماء الهند، وبصعود الحزبية الإسلامية فيها. وهو يذهب إلى وجود تيارين: تقليدي وإصلاحي (ديو بند والسيد أحمد خان)، وهو يعتبر أنه مع محمد إقبال صاحب «تجديد التفكير الديني في الإسلام»، بلغت النزعة الإصلاحية مداها. بيد أن الانتكاسة حدثت بعد ذلك بقليل بظهور حركة الخلافة، وبانفصال الرابطة الإسلامية - التي أنشأت باكستان فيما بعد - عن حزب المؤتمر الهندي، ثم بظهور الجماعة الإسلامية بزعامة أبو الأعلى المودودي عام 1941. ويريد بعض الباحثين مقارنة المشهد الهندي بوجه عام بالمشهدين العربيين بالمشرق والمغرب. فقد تصارع التقليديون مع الإصلاحيين على موضوع الاجتهاد، ثم تجادل الإصلاحيون والسلفيون من جهة مع الصوفية والأشعرية بشأن التوسل وزيارة القبور. وظهرت مدرسة محمد عبده التي هدفت للجميع بين طهورية السلفية والنهضوية الحديثة. ثم انكسر هذا الوعي النهضوي المندفع تحت وطأة أحداث الحرب الأولى والتدخل الدولي وإلغاء الخلافة، وبدأت الحركات الإسلامية الإحيائية بالمشرق والمغرب مثل حركة المودودي بالهند. وقد كان هناك نقاش كثير عن العلائق بين الجماعة الإسلامية التي أنشأها المودودي ( -1979) منذ مطلع الأربعينات، وجماعة الإخوان المسلمين التي أسسها حسن البنا بالإسماعيلية عام 1928. فالإخوان المسلمون اشتهروا في الأربعينات وجاء إليهم الهنود والإيرانيون ومدنيون وشيوخ من البلدان العربية. إنما الذي استقر في الأبحاث أن سيد قطب (الذي دخل الإخوان المسلمين متأخرا) عرف المودودي وأبو الحسن الندوي زميله بمصر في مطلع الخمسينات، وأسهم في ترجمتها عن الإنجليزية والتقديم لها، وأنه من هناك استمد رؤية «الحاكمية»، وهي أخص من رؤية «الاستخلاف في الأرض» التي كان الإحيائيون العرب قد بدأوا الحديث عنها منذ مطلع الثلاثينات من القرن الماضي. وقد قادت الحاكمية إلى نتيجتين: ظهور الجهاديات والعنفيات، وانفصال التيار الرئيسي الذي ظل مسالما ورفض العنف، وظلت السلطات تلاحقه رغم ذلك إلى أن حدثت ثورة 25 يناير عام 2011 وصارت جماعة الإخوان المسلمين تيارا رئيسيا من تياراتها.

محمد قاسم زمان في كتابه: «العلماء في الإسلام المعاصر، حراس التغيير»، يقص القصة كلها عن الهند وباكستان، وينتهي عند وفاة المودودي في أواخر السبعينات من القرن الماضي. إنما للقصة فصول أخرى بعد ذلك. ففي حين انتصر التيار السلمي في إخوان مصر، وبدا أن التيار السلمي في الجماعة الإسلامية سوف ينتصر، بدأت قصة أفغانستان، وتدخلت باكستان فيها من رأسها إلى أخمص قدميها، فانتقل العنف إليها، وتراجعت «الجماعة الإسلامية» لصالح الجماعات العنيفة أو الأكثر تشددا مثل طالبان والسلفيين وأهل الحديث وجماعة التبليغ، إضافة لتلوينات حركات الجهاد الأفغاني الأخرى.

على أن كل هذا الشرح، يتجاهل التيار التقليدي المجدد الذي ظل يملك التعليم والفتوى في المشرق العربي، في حين فقدهما بالتدريج بالهند وأكثر بباكستان. فهؤلاء العلماء، ظلوا يمارسون التعليم والاجتهاد بمعزل عن السلطات أو في تعامل معها، كما ظلوا ينتجون فقها وفتاوى للناس. وفي الوقت نفسه ظلوا مختلفين أو متمايزين عن الإحيائيين والأصوليين والسلفيين (طبعا باستثناء المملكة العربية السعودية). وإلى الفقه المدرسي والأكاديمي، تعود الاجتهادات في تطوير قوانين الأحوال الشخصية، وتطوير مسائل الربا والبنوك اللاربوية التي تدخل فيها فيما بعد الحزبيون الإسلاميون. ومحمد قاسم زمان يرى أن هؤلاء العلماء بعد أن تحرروا من سطوة التقليد، واعتنقوا بعض مقولات الإصلاح والإصلاحيين، حققوا الكثير من الإنجازات. وكان شبلي النعماني أحد شيوخهم الكبار، قد قال إن الاجتهاد في فقه الفروع ليس كافيا، ولذلك فقد دعا للتجديد في أصول الفقه وفي علم الكلام. ويذكر زمان عشرات العلماء من الهند وباكستان، والذين ظلوا بعيدين عن الحزبية وعن أطروحات الحاكمية والدولة الإسلامية التي تطبق الشريعة. بيد أن جهود هؤلاء العلماء نالت منها عوامل عديدة منذ الستينات والسبعينات في الهند وباكستان بسبب صعود الإحيائيات التي تدخلت في الفتوى والتعليم أيضا. وفي العالم العربي لأن الدولة الوطنية قويت واتخذت أحد ثلاثة أو أربعة مواقف من علماء المؤسسات: الدعم والاستتباع، أو الإضعاف والتجاوز، أو تمكن الإسلاميين من الاستيلاء على السلطة مثلما حدث في السودان، أو الحفاظ على الحيادية والود بين المؤسسات والدولة. وفي كل الحالات ضعفت حجية المؤسسات الدينية، واستطاع الإسلاميون الحزبيون أن يختزلوا الكثير من السلطات في عيون الجمهور، وعانى رجل الدين المسلم من التهميش وضآلة الدور.

وهذا التهميش وتضاؤل الدور، يطرح السؤال عمن حل محلهم في مواقع التعليم والإرشاد والفتوى وإرضاء الرأي العام المتدين. والجواب أن رجل الدين (الرسمي) المتخرج من الأزهر، استطاع طبعا الاحتفاظ باليد العليا إنما بمعاونة السلطات، وهي تبادلت معه الدعم والتأييد. والدعم والتأييد أثرا في عيون الناس على حجية العالم وجدارته وقدرته على التأثير والتدبير. وهكذا ففي شبه القارة الهندية ظل العالم المجتهد في مواقع التأثير رغم وجود الإحيائيين إلى أن ظهرت معاهد ومؤسسات تعليمية خاصة للأصوليين والإحيائيين. فالدولة ما اهتمت في الأغلب الأعم باستتباع العالم، وإنما كان الصراع علنيا بين علماء المؤسسات، وأهل الحركات الإسلامية. ثم بعد السبعينات صار الصراع بين الجهاديين والآخرين من الأصوليين الذين لا يقولون بالخروج على الحاكم! وما كان الوضع على ما يرام عندما قامت الثورات العربية. فالتوترات الدينية والطائفية ازدادت في سائر البلدان العربية؛ إذ تشعر الجماعات المسيحية أنها مهددة من كل ناحية. إنما بعد الثورات بدا الخلاف بين الثوريين أنفسهم أفدح وأعظم. فهناك تصورات مختلفة لعلائق الدين بالدولة. وهناك وجهات نظر متباينة بين العلماء أنفسهم في الوضع الذي ينبغي أن يكون عليه وضعهم إزاء الدولة والنظام السياسي. فالبعض يقول إنه ما عاد يمكن الرجوع عما توصل إليه الإسلاميون الحزبيون (الإسلام دين الدولة، والشريعة المصدر الرئيسي في التشريع)، وإنما الفرق أنه ينبغي الإصرار على تثبيت ذلك من طريق الاقتراع والانتخابات، وهذا أسلوب لا يشاركهم فيه الجميع، لكن هذه هي الفكرة الغالبة في أوساط أهل الثورة الإسلامية بمصر. لكن هناك أيضا من يقول إن تدخل الدين في الدولة مضر بالدين، وغير مفيد في تقوية صلاحيات الدولة أو قبضتها. والأفضل أن يتجنب الإسلام الدخول في بطن الدولة أو العكس. لكن هذا الكلام يبقى إنشائيا. لأنه منذ قال حسن البنا كلمته: الإسلام دين ودنيا ومصحف وسيف، ما عاد سهلا الإقناع بالابتعاد عن الدولة زهدا وورعا، وفي الوقت نفسه فإن رجال الدين الذي دخلوا في الدولة ما كانت لهم سيرة أفضل في الجامعات التي درسوا فيها من الإسلاميين الحزبيين. والواقع أن نظرية الحاكمية حولت الإسلام إلى سلطة، وشاع الصراع عليها، فهناك من يخافها ويضطهد المحازبين، وهناك من يحاول استغلالها لصالحه. ثم إن الإسلاميين أنفسهم تصارعوا على تلك السلطة أو السلطات، بحيث انقسم الإسلام المعاصر إلى فرق متناحرة! هناك إذن التصور الماوردي الذي يعتبر أن مهمة الإمام «حراسة الدين وسياسة الدنيا». فالاتصال موجود وكذلك الانفصال. وهناك التصور الإسلامي الحزبي الذي يدمج الدين في الدولة، تارة لصالح السلطات، وطورا لصالح الثائرين باسم الشريعة. وكلا التصورين يتعرض لصعوبات شديدة. وهناك فرصة اليوم على أي حال للخروج من مأزق: مأزق الصراع بين الدين والدولة، ومأزق الصراع بداخل الدين(!). وهذه الفرصة تتمثل في التفكير في الدين وعلائقه بالدولة خارج الحلين السابقين: الاندماج أو الانفصال. فالفرنسيون كانوا يخشون على الدولة من الكنيسة، ولذلك اضطهدوا الكاثوليك. أما البروتستانت فقد كانوا يخشون الدولة على الدين؛ ولذلك فقد حرم الكونغرس على نفسه الاشتراع في الدين. ولدينا كتاب لمارسيل غوشيه يبحث مسألة الدين في الدولة للحريات. فلتكن هذه الفكرة باعثا على الإضاءة على أفق جديد.