العز بن عبد السلام.. سلطان العلماء وبائع الأمراء

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

ولد الإمام عز الدين بن عبد السلام سنة سبع وسبعين وخمسمائة من الهجرة، وتوفي سنة ستين وستمائة هجرية. وقد برع في الفقه والأصول والتصوف، ودرس وأفتى، وصنف وبلغ رتبة الاجتهاد، وانتهت إليه رئاسة المذهب، كما اشتهر بزهده وورعه وشدة تقواه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصلابة في الدين.

ونظرا لنشأته في بيئة فقيرة، لم يتسن له أن يطلب العلم وهو صغير وإنما انتظم في التعلم بعد أن بلغ الثلاثين من عمره! وقد تتلمذ على يد جملة من الأشياخ الكبار في مقدمتهم: الشيخ أبو الحسين أحمد بن الموازيني، والخشوعي، وعبد اللطيف بن إسماعيل الصوفي، والقاسم بن عساكر، وابن طبرزد، وحنبل المكبر، وابن الحرستاني، وغيرهم. كما تفقه على يد الإمام فخر الدين بن عساكر.

ونتيجة لذلك؛ خلف الشيخ تراثا علميا غزيرا، حيث شملت مؤلفاته: التفسير وعلوم القرآن، والحديث والسيرة النبوية، وعلم التوحيد، والفقه وأصوله، والفتوى. ومن أبرز كتبه: كتاب «الإلمام في أدلة الأحكام»، و«ترغيب أهل الإسلام في سكنى الشام»، وكتاب «شجرة المعارف»، وكتاب في العقيدة سماه «عقائد الشيخ عز الدين»، وشرحه الإمام ولي الدين محمد بن أحمد الديباجي، وكتاب «الفتاوى الموصلية»، وكتاب «القواعد الكبرى في فروع الشافعية»، وكتاب «كشف الأسرار عن حكم الطيور والأزهار»، وكتاب «الغاية في اختصار النهاية».. إلخ.

أما عن منهجه في التأليف، فكان يدعو إلى إعمال العقل في استنباط الأحكام، وفي التعرف على المصالح، ويرى أن الأحكام إن لم يمكن استنباطها من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس، فيجب استنباطها بما يحقق مصلحة ويدرأ مفسدة، وأن العقل هو أداة هذا الاستنباط.

وكانت طائفة من المبتدعين القائلين بالحرف والصوت، ممن صحبهم الأشرف في صغره، يكرهون الشيخ عز الدين ويطعنون فيه، ثم ما لبثوا أن أوهموا الأشرف أن اعتقادهم هو الاعتقاد الصحيح، وهو ما كان عليه أحمد بن حنبل، فصار يعتقد بكفر مخالفيهم. ولم يكتفوا بذلك وإنما دسوا على الشيخ عز الدين أنه أشعري العقيدة، يقول بقول الأشعري إن الخبز لا يشبع، والماء لا يروي، والنار لا تحرق، فاستهال ذلك السلطان، فكتبوا فتيا في مسألة إلى الشيخ، وأوصلوها إليه، فلما جاءته قال: هذه الفتيا كتبت امتحانا لي، والله لا كتبت فيها إلا ما هو الحق، فكتب رسالته المعروفة بـ«الملحة في اعتقاد أهل الحق».

وبعد أن أتى فيها على اعتقاد الأشعري، تحدث عن الحشوية المشبهة، الذين يشبهون الله بخلقه، وهم ضربان: أحدهما لا يتحاشى من إظهار الحشو.. «ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون»، والآخر يتستر بمذهب السلف، لسحت يأكله أو حطام يأخذه.. «يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم».

ثم أخذ يهاجم المذهب الذي عليه الملك الأشرف وحاشيته بالقول: والعجب ممن يقول: القرآن مركب من حرف وصوت، ثم يزعم أنه في المصحف، وليس في المصحف إلا حرف مجرد لا صوت معه. ومن توقف في ذلك فلا يعد من العقلاء فضلا عن العلماء، فلا أكثر الله في المسلمين من أهل البدع والأهواء، والإضلال والإغواء.

وفي موضع آخر من رسالته، نجده يتوجه بالنقد العنيف لما عليه الملك من اعتقاد، حيث يقول: ولولا ما وجب على العلماء من إعزاز الدين وإخمال المبتدعين، وما طولت به الحشوية ألسنتهم في هذا الزمان، من الطعن في أعراض الموحدين، والإزراء على كلام المنزهين، لما أطلت النفس في مثل هذا مع اتضاحه؛ ولكن قد أمرنا الله بالجهاد في نصرة دينه، إلا أن سلاح العالم علمه ولسانه، كما أن سلاح الملك سيفه وسنانه.

فكما لا يجوز للملوك إغماد أسلحتهم عن الملحدين والمشركين، لا يجوز للعلماء إغماد ألسنتهم عن الزائغين والمبتدعين؛ فمن ناضل عن الله وأظهر دينه كان جديرا أن يحرسه الله بعينه التي لا تنام، ويعزه بعزه الذي لا يضام، ويحوطه بركنه الذي لا يرام، ويحفظه من جميع الأنام.. «ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض».

وعندما سئل سلطان العلماء عما قاله الغزالي في «الإحياء» من تقديم الأولياء على العلماء، ووافقه على ذلك القشيري، أجاب بالقول:

وأما تفضيل العارفين بالله على العارفين بأحكام الله، فمتفق عليه ولا يشك عاقل في أن العارفين بالله بما يجب له من أوصاف الجلال، ونعوت الكمال، وبما يستحيل عليه من العيب والنقصان، أفضل من العارفين بالأحكام، بل العارفون بالله أفضل من أهل الفروع والأصول؛ لأن العلم يشرف بشرف المعلوم وثمراته؛ فالعلم بالله وصفاته أشرف من العلم بكل معلوم من جهة أن متعلقه أشرف المعلومات وأكملها.

ثم يفسر قول الله تعالى: «إنما يخشى الله من عباده العلماء»، بالقول: إنما أراد العارفين به وبصفاته وأفعاله دون العارفين بأحكامه، وهؤلاء أقسام:

أحدها: من علِم لغير الله، وعمل لله؛ فهذا ممن خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، ولا أدري هل تقوى حسناته بإساءته أم لا؟

الثاني: من تعلم لغير الله، وعلم لغير الله؛ فعلم هذا وتعليمه وبال عليه.

الثالث: من تعلم لله وعلم لغير الله؛ فهذا كالأول وأشد إثما منه.

الرابع: من تعلم لله، وعلم لله، وهو ضربان:

أحدهما ألا يعمل بعلمه؛ فهو شقي لا يفضل على أحد من أولياء الله، وإن عمل بعلمه فإن كان عالما بالله تعالى وبأحكامه، فهو من السعداء، وإن كان من أهل الأحوال العارفين بالله، فهو من أفضل العارفين ادخارا، وفضل عليهم بمعرفة الأحكام، وتعليم أهل الإسلام.

وفي إطار تنظيره وتأصيله لقاعدة المصالح والمفاسد، رد الإمام جميع أبواب الدين من عقائد ومعاملات وآداب وأخلاق وتزكية إلى تلك القاعدة على نحو ما هو واضح في كتابيه: «قواعد الأحكام في مصالح الأنام»، المسمى بـ«القواعد الكبرى»، و«الفوائد في اختصار المقاصد» المسمى بـ«القواعد الصغرى».

وتتأسس هذه النظرية على مسلمة أصولية مفادها أن الله، سبحانه وتعالى، قد أرسل الرسل وأنزل الكتب لإقامة مصالح الدنيا والآخرة ودفع مفاسدهما، وأن الشريعة مصالح كلها: فإنها إما أن تدرأ مفاسد أو تجلب مصالح.

وبحسبه؛ فإن المصالح أربعة أنواع: اللذات، وأسبابها، والأفراح، وأسبابها. والمفاسد أربعة أنواع أيضا: الآلام، وأسبابها، والغموم، وأسبابها. وهي منقسمة إلى دنيوية وأخروية: فأما لذات الدنيا، وأسبابها، وأفراحها، وأسبابها، وآلامها، وأسبابها، وغمومها، وأسبابها، فمعلومة بالعادات.

وأما لذات الآخرة، وأسبابها، وأفراحها، وأسبابها، وآلامها، وأسبابها، وغمومها، وأسبابها، فقد دل عليها الوعد والوعيد. في حين أن مصالح الدارين، وأسبابهما ومفاسدهما، لا تعرف إلا عن طريق الشرع، فإن خفي منها شيء طُلب من أدلة الشرع، وهي «الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس المعتبر، والاستدلال الصحيح». وأما مصالح الدنيا، وأسبابها ومفاسدها، فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات، فمن خفي عليه شيء من ذلك طلب أدلته.

على أن المصالح والمفاسد تتزاحم أحيانا، فلا يعرف على وجه اليقين خير الخيرين إذا اجتمعا ولزم الترجيح بينهما ولا شر الشرين إذا اجتمعا ولزم قبول أهونهما، كما لا يعرف ترجيح المصلحة على المفسدة أو ترجيح المفسدة على المصلحة، على عكس الخير الخالص والشر المحض، على نحو ما أفادت الآية الكريمة: «فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره».

ومن أجل ذلك، وضع الإمام جملة من القوانين الحاكمة لعملية الترجيح تعد بمثابة قواعد التفاضل والتفضيل. أما امتدادات مفاهيم المقاصد عنده، فمنها ما يتعلق بتعليل الشريعة، حيث بين شمولية التعليل بجلب المصالح ودرء المفاسد، ومنها ما يتعلق بالاستدلال على أحكام الشريعة انطلاقا من مقاصدها، كما في حالة تعذر العدالة في الولاية العامة والخاصة، إذ يجوز - والحال هذه - تولية أقل الولاة فسوقا.

ومما يميز نظرية الإمام في هذا الباب، أنه لم يقتصر في كلامه على المصالح والمفاسد بما يؤصل للأحكام العملية فحسب؛ وإنما صرف جزءا كبيرا من عنايته إلى مصالح القلوب ومفاسدها، ساعده في ذلك طبيعته ونزعته الصوفية من جهة، وطبيعة الموضوع نفسه من جهة أخرى. فمن المعلوم أن الكلام في المصالح والمفاسد إذا أعطي حقه من النظر دخل فيه لزاما مصالح القلوب ومفاسدها.

كما نعى الإمام على علماء عصره اتباعهم خطى التقليد، مؤكدا أنه: «ليس لأحد أن يستحسن ولا أن يستعمل مصلحة مرسلة ولا أن يقلد أحدا لم يؤمر بتقليده، كالمجتهد في تقليد المجتهد، أو في تقليد الصحابة. ويستثنى من ذلك العامة؛ فإن وظيفتهم التقليد لعجزهم عن التوصل إلى معرفة الأحكام بالاجتهاد، بخلاف المجتهد فإنه قادر على النظر المؤدي إلى الحكم».

ويستطرد قائلا: «ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعا، ومع هذا يقلده فيه! ويترك من الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبه جمودا على تقليد إمامه، بل يتحلل لدفع ظواهر الكتاب والسنة، ويتأولهما بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالا عن مقلده».

وأخيرا ينصح الإمام طلابه بضرورة ترك البحث مع أولئك الذين إذا عجز أحدهم عن تمشية مذهب إمامه قال: لعل إمامي وقف على دليل لم أقف عليه ولم أهتد إليه. ولم يعلم المسكين أن هذا مقابل بمثله ويفضل لخصمه ما ذكره من الدليل الواضح والبرهان اللائح. فسبحان الله! ما أكثر من أعمى التقليد بصره حتى حمله على مثل ما ذكر. وقد نقل عن الشافعي، رحمه الله، أنه قال: «ما ناظرت أحدا إلا قلت: اللهم أجر الحق على قلبه ولسانه؛ فإن كان الحق معي اتبعني، وإن كان الحق معه اتبعته»!

* كاتب مصري