إدوارد سعيد في ذكراه.. بين الإسلام والاستشراق

إميل أمين

TT

في الأسبوع الأخير من الشهر المنصرم مرت الذكرى الثامنة لرحيل المفكر العربي الكبير ادوارد سعيد، وربما كانت هذه الذكرى على ألمها فرصة جديدة لإعادة قراءة أوراق مفكر عربي كبير، أغلب الظن أنه لم ينل حقه حتى الساعة رغم كل ما كتب عنه، لا سيما أن رؤاه ونصائحه للعالمين العربي والإسلامي كانت سابقة على الدوام ظهور الأزمات، وتفاعل الإشكاليات، فقد وقر لديه أبدا ودوما أن طرح القضايا يبدأ من الذات وليس من الآخرين. ولعله من مصادفات القدر أن تحل الذكرى الثامنة لرحيل البروفسور ادوارد سعيد، في الوقت الذي يسعى فيه الفلسطينيون سعيا حثيثا لنيل الاعتراف الأممي بدولتهم المستقلة على ترابهم الوطني.

لم يكن ادوارد سعيد مجرد كاتب أو مفكر أو أكاديمي، بل كان رسالة حية متحركة لا سيما على صعيد القضية الفلسطينية، ذلك أنه العربي الوحيد الذي استطاع مجابهة الإعلام الأميركي المنحاز لإسرائيل قلبا وقالبا في الستينات، وعلى نحو خاص في أعقاب هزيمة عام 1967.

حمل البروفسور إدوارد سعيد، الذي لم يتمكن أحد من إخباره من أين جاء اسمه الأول هذا والذي لم يكن لأي من أجداده، لواء العروبة والإسلام في أميركا منذ أوائل الستينات في الوقت الذي كانت مجرد كلمة عربي فلسطيني فيه تعتبر كلمة قذرة عند الغرب.

وكبقية حملة الرسالات التنويرية والجهادية في سبيل الحق ومناكفة الظلم، تعرض إدوارد سعيد لهجومات شرسة من الغالب الأعم من وسائل الإعلام الأميركية، بسبب آرائه حول الاحتلال الإسرائيلي إلى جانب تحقير الهوية العربية والإسلامية في العالم الغربي، وقد كان دفاعه الدائم عن القضية الفلسطينية قرينا باقتناع تام بعدم جدوى العنف آخذا بعين الاعتبار حقوق الإنسان في خضم ذلك الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وقد ساعد حديثه هذا عن القضية الفلسطينية التي كانت تشهد في تلك الآونة سلسلة من العمليات المسلحة في نقلها، من المستوى الإثني الضيق إلى مستوى عالمي إنساني آخر يلقى آذانا مصغية ولو كره الكارهون.

كان سعيد صادقا في دعوته حول قيام نظام «دولة واحدة وشعبين»، وعلى الرغم من إدراكه التام أن المشاعر الشعبية ربما تعارض مثل هذا الاقتراح، فإنه دعا إلى ضرورة بذل مزيد من الجهد لحث الشعبين الفلسطيني واليهودي على القبول بقدرهما المشترك، مثلما حدث في جنوب أفريقيا وقد ظل ثابتا على مبادئه وعلى قيم العدل وحقوق الإنسان التي كان يذكرها في أحاديثه دائما، كما كان في ذات الوقت لاذعا في نقده، تجاه الظلم والفساد في الدول العربية وبصفة خاصة في الأراضي المحتلة الخاضعة للسلطة الوطنية الفلسطينية.

وعلى الرغم من كونه مسيحيا عربيا فإن كتاباته عن الإسلام وعن صورته في العالم الغربي كانت غاية الإثارة الفكرية فقد كان واحدا من أوائل الكتاب الذين تصدوا في كتاباتهم لمحاولة وسائل الإعلام الغربية بث صورة غير صحيحة عن الإسلام، وخلق صورة رديئة عن المسلمين وعن حضارتهم. والشاهد أن الكثيرين يعرفون الدكتور ادوارد سعيد بوصفه رجل الاستشراق وكفى، وقليل منهم يعلم أن الرجل كان من أوائل الذين رصدوا مبكرا ظاهرة العداء للإسلام والمسلمين في الغرب.

تجلت هذه الروح في كتاباته لاحقا، منها على سبيل المثال ما ورد في كتابه «حول الإسلام» الذي طبع لأول مرة عام 1981م والذي يعد أحد الكتب العمدة في محاولة تقديم صورة غير نمطية عن الإسلام والمسلمين، وقد كانت إجادته التامة للغة الإنجليزية وانتقاله في سن مبكرة إلى الولايات المتحدة الأميركية عاملين مهمين، جعلا كتاباته أكثر وصولا إلى العقل الأميركي، الذي رأى في مفرداته جاذبية تبعد كثيرا عن محاولة ترجمة حرفية عن الإسلام مجردة من الروح، أو عن دور المترجمين الذين يعرفون اللغة في إطار الترجمة، لا بقدرات التحدث بها والتعبير من خلالها، مما جعلها تروق للكثرة من الأميركيين، وحتى أولئك الذين ناصبوه العداء الفكري كانوا من أشد الحريصين على متابعة ما يكتب، والإقرار لاحقا بأنه كان سباقا في أطروحاته ومنهم توماس فريدمان الكاتب الأميركي اليهودي في صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية ذائعة الصيت.

وفي الحديث عن إدوارد سعيد والدور الذي قدمه كقنطرة أو جسر بين الشرق والغرب، لا يستطيع الباحث أن يغفل دوره في قضية الاستشراق التي استغرقته كثيرا، وتجلت في كتابه البالغ الأهمية حول القضايا المثيرة للجدل في شأن «الاستشراق»، والذي ينظر للعلاقات بين الشرق والغرب وكيف تناول الأوروبيون خاصة والغربيون عامة «الشرق» كيف فهموه وتعاملوا معه من خلال التجربة والتاريخ الأوروبي.

وقبل الاستغراق في فكر الاستشراق عند إدوارد سعيد. ينبغي الإشارة إلى أن كونه مسيحيا بروتستانتيا، إنما يعني فهمه للكثير من مفردات العالم الغربي عامة، والأميركي خاصة، الذي احتل فيه الدين رغم كل ما يقال عن علمانيته دورا واسعا، مما جعله قادرا على تحليل المفردات وتلبس شخصيات وأدوار الآخرين والنظر بذات المنظار الذي قدر لهم استخدامه.

لم يكن إدوارد سعيد مهتما في كتابه بإظهار روح التناقضات بين الرؤية الغربية للشرق، وبين الشرق ذاته باعتباره واقعا مغايرا، بل ذهب اهتمامه إلى دراسة وفحص تكوين خطاب الاستشراق.

أما دور سعيد فقد تجلى في مناقشة الافتراض الأساسي الذي بنى عليه المستشرقون خطابهم، وهو وجود اختلاف جذري وتناقض حتمي بين الشرق والغرب، الشرق المتخلف المظلم التقليدي والغرب المتقدم المستنير الحديث، هذه الفرضية وهذا التمايز يؤدي إلى تعريف للذات الغربية وتعريف للآخر الشرقي، أي إن معرفة الذات في هذه الحالة تغدو مستندة استنادا أساسيا إلى صورة سلبية لآخر شرقي وهمجي، وكان دور إدوار سعيد هو دراسة ما يدعم هذا الخطاب من مؤسسات ومعاهد دراسية ومفاهيم ومصطلحات وتخصصات علمية وبيروقراطية استعمارية.

ومن خلال استرجاع رؤى الراحل الكبير نجده يحذر من عودة الاستعمار في جلباب آخر أكثر عصرنة، ويعطي مثالا بتصريحات اللورد بلفور التي تكشف الفوقية البريطانية في السيادة مقابل الدونية المصرية في رأيه، إذ يقول بلفور وهو منتفخ الأوداج في خطبة له بمجلس العموم مبررا احتلال مصر «إن الأمم الغربية فور انبثاقها في التاريخ تظهر تباشير القدرة على حكم الذات، لأنها تمتلك مزايا خاصة بها ويمكنك أن تنظر إلى تاريخ الشرقيين بأكلمة دون أن تجد أثرا لحكم الذات على الإطلاق، كل القرون العظيمة التي مرت على الشرقيين ولقد كانت عظيمة جدا انقضت في ظل الطغيان».

أما المعنى والمبنى في مقولة بلفور فهو أنه خير لهذه الأمم العظيمة أن نقوم نحن بممارسة هذا النمط من الحكم المطلق عليها، وهي ذات الاسطوانة المكررة الممجوجة التي نستمع إليها اليوم وبنفس المنطق من منابر غربية عدة.

وتبقى في هذه الصفحات القلائل الإشارة إلى أن إدوارد سعيد كان من الطليعة العربية التي استطاعت أن تفهم بحكم معطيات كثيرة ليس أقلها عدد السنوات التي أمضاها في الولايات المتحدة، دارسا وباحثا ومفكرا، نقول استطاع أن يفهم أميركا «المظهر والمخبر» وأن يفض اشتباكات الخطوط وتداخل الخيوط.

يقول في مقال له في مجلة «اللوموند ديبلوماتيك» الفرنسية تحت عنوان «الولايات المتحدة بمنظار آخر»، إن نظرة القادة العرب ومستشاريهم المتخرجين عادة من الولايات المتحدة، بعيدة تماما عن الواقعية، نظرة تفتقد فعلا إلى التماسك إذ تتمحور حول الفكرة القائلة بأن الأميركيين يقررون كل شيء في العالم، حتى وإن كان هناك في التفاصيل تشكيلة واسعة ومعقدة من الآراء المختلفة بدءا بالمقتنعة أن الولايات المتحدة ليست سوى مؤامرة يهودية، إلى تلك القائلة بأنها ليست إلا مصدرا لا ينضب للبراءة والطيبة ومساعدة الضحايا، أو أيضا أنها تدار من الألف إلى الياء من البيت الأبيض عبر شخصية بطولية تتمثل برجل أبيض لا نزاع على سلطته.

ومن معينه الشخصي يدلل على محاولاته لأن يكون جسرا بين طرفين عربي وأميركي فيذكر أنه «على مدى عشرين عاما كنت فيها أتردد على السيد ياسر عرفات، حاولت مرارا أن أوضح له أن أميركا هي مجتمع معقد، تتشابك فيه التيارات والمصالح والضغوط والقصص المتميزة، وأنها لا تحكم مثل سوريا مثلا، وأنها كحكم وسلطة نموذج مختلف يستحق الدراسة، وقد جندت لهذا الغرض صديقي المرحوم إقبال أحمد، الذي تحلى باطلاع عميق على المجتمع الأميركي والذي كان ربما أفضل المنظرين والمؤرخين، لحركات التحرر الوطنية، وقد رغبت إليه أن يبحث بمشاركة غيره من الخبراء مع السيد عرفات، في تطوير نموذج أكثر دقة، كان في إمكان الفلسطينيين أن يستفيدوا منه في الاتصالات التمهيدية مع الحكومة الأميركية، في أواخر الثمانينات لكن ذلك باء بالفشل، لأن السيد عرفات لم يكن يحلم إلا بأمر واحد وهو أن يدعي شخصيا إلى البيت الأبيض، ويتفاوض مباشرة مع هذا الرجل من البيض السيد بيل كلينتون».

ولا يفوت الدكتور سعيد أن يعرج في قراءته على أميركا المتطهرة المسيحية فيشير إلى أنها الدولة الوحيدة في العالم التي تبدي بشكل علني تمسكها بأهداف الدين، فحياة الأمة الأميركية مشبعة بالإحالات على الله، من قطع النقد إلى المباني العامة إلى الشهادات اللغوية من مثل «بالله نؤمن IN GOD WE TRUST إلى بلاد الله GOD,S COUNTRY إلى بارك الله أميركا GOD BLESS AMERICA، لكنه في الآن عينه يفصل بين عينات المتهوسين الدينيين ويؤكد على وجود جماعات مسيحية مثل الأساقفة الكاثوليك كانت قد اتخذت مواقف تقدمية لافتة في مسائل الحرب والسلام، وقد ثاروا مرارا على انتهاك حقوق الإنسان في الخارج وعلى الموازنات العسكرية الضخمة وعلى السياسة الاقتصادية النيوليبرالية التي قضت على القطاع العام الأميركي منذ أوائل ثمانينات القرن الماضي.

والمقطوع به أن هذه السطور ليست إلا تحريكا للماء الراكد إن بالاتفاق أو بالافتراق مع مواقف الراحل الكبير د. إدوارد سعيد والتي لا تفيه حقه، لكنها على قصرها واختزالها، إنما تدفعنا للدخول في لجة عواصف الأفكار التي أثارها ابن القدس حتى يجعل منها جسرا ناقلا الإسلام والعروبة إلى الولايات المتحدة، جاعلا من ذاته تيارا عكسيا لعل بلاده تعي ماذا يدور داخل الإمبراطورية الأميركية، لذا يبقى الرجل رغم رحيله على الدوام داخل الأوطان وليس خارج المكان.

* كاتب مصري