المهدي ابن تومرت مؤسس دولة الموحدين

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

في القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي، قامت دولة مغربية تمكنت من توحيد شمال القارة الأفريقية - من تخوم مصر إلى البحر المحيط - وضمت إليها البلاد الأندلسية عبر بحر الزقاق، وأخذت على عاتقها مهمة حماية العروبة والإسلام.

وبفضل تنظيم هذه الدولة القوية، فقد طبعت بلاد المغرب الأقصى بطابعها الخاص لعدة قرون، وتركت فيه آثارها الباقية حتى اليوم. ويكفي أن يزور المرء الآن جامع «الكتبية» في مدينة مراكش الحمراء، ومنارته الفخمة، أو بقايا جامع «حسان» بمدينة الرباط، ومنارته التي تشرف على وادي أبي الرقراق ومدينة سلا، أو إلى صومعة جامع «إشبيلية» المعروفة حاليا باسم «الجيرالد»، نسبة إلى تمثال العذراء الذي تحمله في قمتها، لتأخذه الدهشة من هذه الآثار المعمارية لدولة الموحدين التي أسسها محمد بن تومرت المتوفى سنة 524هـ/ 1130م.

وبحسب البعض، فإن هذه العملية التاريخية التي انتهت عمليا بتأسيس دولة الموحدين ونقلت بلاد المغرب من حال إلى حال، هي التي يصح أن يطلق عليها حركة التجديد، وفقا لنظريات ابن خلدون في الملك وقيام الدول. كما أنها أيضا حركة للإحياء كما عرفها رجال الدين، بعد أن قام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي (المتوفى 505هـ) بعملية التوفيق بين المذاهب الإسلامية المختلفة في سبيل «إحياء علوم الدين»، وهو العنوان الذي سمى به أشهر مؤلفاته.

وبذلك تصبح حركة ابن تومرت في المغرب بمثابة رد فعل لإحياء الغزالي في المشرق، مما يعني أن متطلبات الإصلاح والتجديد كانت لازمة في المغرب كما كانت ضرورية في المشرق مثلا بمثل، على أساس الوحدة العضوية بين جناحي العالم العربي والإسلامي. واستجابة لهذه المطالب الملحة، لبت قبائل الملثمين دعوة الفقيه المالكي عبد الله بن ياسين وكونوا دولة «المرابطين» التي أعادت الوحدة لبلاد المغرب والأندلس وحملت راية الجهاد ضد أعداء الدين محققة انتصارها الكبير في موقعة الزلاقة سنة 479هـ/1186م.

بيد أنه لم يقدر لدولة المرابطين أن تستمر طويلا، إذ سرعان ما انغمس مؤسسوها في حياة البذخ والترف، تاركين مقاليد الأمور للمتشددين من الفقهاء الذين تشبثوا بعلم الفروع، وحاربوا ما سواه من كلام وفلسفة ورأي وتأويل.

وكعادة الأئمة المجددين، فقد أظهر ابن تومرت منذ صغره رغبة في العلم وكلفا بالدرس ونبوغا في التحصيل، إلى درجة أنه لقب باسم «أسفو»، ومعناه بالبربرية «الضياء»، لملازمته إيقاد القناديل في المسجد بغرض القراءة والصلاة، وهو بعد صغير. وبعد أن أتم حفظ القرآن الكريم، رحل إلى الأندلس لطلب العلم، ثم إلى بلاد المشرق العربي في أوائل القرن السادس الهجري.

في بغداد تلقى الإمام دروسه في أصول الفقه، وأصول الدين، والحديث على مشاهير العلماء وقتئذ، كأبي بكر الشاسي وعلي بن المبارك وغيرهما. وفي طريق عودته إلى المغرب توقف بالإسكندرية مندفعا بكل كيانه نحو تحقيق رسالته كرقيب على الأخلاق العامة، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، مترددا على درس شيخ الإسكندرية الشهير أبي بكر الطرطوشي.

كان مشروعه الإصلاحي يتمركز في نقاط ثلاث هي: إماتة المنكر، وإحياء العلم، وإخماد البدع! ورغم تشدده هذا، فقد كان مدعاة للافتتان من قبل الكثيرين؛ ففي مصر آخاه نحو خمسين رجلا «كانوا له مثل أعضاء جسده»، منهم تميم بن عوف الإسكندراني. وفي تلمسان، استطاع أن يستميل «وجوه أهلها، وملَك قلوبها».

على أنه اكتسب المكانة الكبرى حين استقر ببلدته بين أبناء عشيرته من «الهرغيين»، إحدى قبائل المصامدة، القاطنة بجبال درن (أطلس العليا) من إقليم السوس، ولذلك عرف بالفقيه السوسي.

بدأ ابن تومرت بالعمل على جبهتين متوازيتين: الأولى القضاء على الجهالة الدينية والبدع المنتشرة في مختلف ربوع البلاد، ونشر الإسلام النقي الصحيح، إسلام العصر الأول. الثانية: تكوين جماعة أو دولة فتية تعيد للإسلام مجده الحربي، وتعاود الفتوحات في دار الحرب وتلزم الممالك الإسبانية حدودَها في جزيرة الأندلس.

وهكذا نجح ابن تومرت في توطين مذهب ديني جديد، هو مذهب التوحيد، مدونا إياه في كتابه المعروف بـ«العقيدة والمرشدة»، والذي يعرف أيضا باسم «أعز ما يطلب»، وهو عبارة عن مزيج من الأفكار والاتجاهات الدينية التي كانت معروفة في عصره والتي وضعت بعضها إلى جانب بعض، وظهرت غير متجانسة في بعض الأحيان، بل ومتضاربة أحيانا أخرى! وهكذا استنادا إلى اسم المذهب، الذي اشتق منه عنوان الدولة فيما بعد، فإن الفكرة الرئيسية في مذهب ابن تومرت هي فكرة «التوحيد» التي أخذها عن المعتزلة. وهي، في جوهرها، إنما ترمي إلى تصور ذات الله تصورا روحيا صرفا، مجردا من كل مادية أو تشبيه أو تجسيم، وذلك عن طريق إنكار كون الصفات الإلهية أمرا خارجا عن ذات الله، وبتأكيد أن الله، عز وجل، ليس كالأشياء، وأنه ليس بجسم ولا عرض ولا عنصر ولا جزء ولا جوهر، بل هو الخالق لكل هذه الأشياء، وإن شيئا من الحواس لا يدركه في الدنيا ولا في الآخرة.

ولكنه اشتط في تأييده لفكرة التوحيد هذه، حتى إنه - على عكس كل من سبقوه في الدعوة إليها - قام بتكفير كل من لا يعتنقها راميا إياهم بالشرك! وهكذا سمى أعداءه السياسيين من المرابطين بـ«المجسمين»، والكفرة والمرتدين! وإلى جانب ذلك، أخذ بفكرة الأشاعرة ومدرسة الغزالي الخاصة بالتأويل، وهي فكرة الوسط بين آراء المتزمتين من أهل السنة الذين يقولون بأن العقل ليس له في الشرع مجال، وبين أفكار أهل الكلام والجدل المنطقي ممن يحكمون العقل وسلامة الحس في الحكم على الأشياء.

أيضا أخذ ابن تومرت عن الشيعة فكرة المهدي، أو الإمام المعصوم، الذي ينشر العدل ويرفع الظلم. غير أن البعض يذهب إلى أن ابن تومرت كان مضطرا إلى اصطناع فكرة المهدي وتضمينها في مذهبه حتى يشيع رغبة دفينة لدى جمهور البربر الذين افتتنوا به وأرادوا أن يكون زعيمهم فوق مستوى البشر.

وهكذا بدأ المهدي ينظم جماعته تنظيما دينيا عسكريا أشبه بتنظيم الجماعة الإسلامية الأولى على عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، بالمدينة، حتى إنه قسم الموحدين إلى صنفين أشبه ما يكونون بالمهاجرين والأنصار: فالمهاجرون هم الذين التقوا به أثناء دعوته، قبل عودته إلى وطنه، وذهبوا معه إلى بلاد المصامدة، والأنصار هم أهل قبيلته الذين ناصروه ودافعوا عنه! وبهذا نجح ابن تومرت في إعادة تشكيل وضعية القبائل في منطقة جبال المصامدة، مما ساعده على نشر مذهبه التوفيقي، أو التلفيقي بحسب معارضيه، الذي جمع فيه بين تعاليم أهل السنة وآراء الفلاسفة والمتكلمين.

وعندما استوثق من شدة ولائهم، دعاهم أولا إلى القيام معه على صورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا غير، ثم وجههم إلى قتال من سماهم «المارقين المبدلين الذين تسموا بالمرابطين». ومن اللافت للنظر في هذا السياق، أنه عندما بدأ نشاطه الحربي بقي محتفظا بالزعامة الروحية فقط، فيما أوكل إلى أقرب أصحابه عبد المؤمن بن علي مهمة القيادة العسكرية ونفث فيه من عزمه وروحه، حاثا إياه على الثبات واعدا إياه بالنصر والسلام.

ولم يلبث ابن تومرت طويلا حتى ألم به المرض، فجمع أصحابه وخطبهم خطبة الوداع، فأشاد بالراشدين وثبات دينهم، وأشار إلى ما انتاب العالم الإسلامي من الفتن بعدهم، وبين لهم كيف أن الله خصهم بحقيقة توحيده وهداهم بعد الضلال وجمعهم بعد الفرقة، ثم حذرهم من الاختلاف، ناصحا إياهم بأن يكونوا يدا واحدة على أعدائهم.

وكان قد سبق أن أعلن لممثلي القبائل من أهل طبقة الخمسين أنه لا يوجد «على وجه الأرض من يؤمن إيمانكم، وأنتم العصابة المعنيون بقوله، عليه الصلاة والسلام: لا تزال طائفة بالمغرب ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله. وأنتم الذين يفتح الله بكم فارس والروم.. ولا يزال الأمر فيكم إلى قيام الساعة»! وهكذا توالت الانتصارات حتى سقطت عاصمة المرابطين سنة 541هـ، بعد وفاة ابن تومرت بنحو عشرين عاما، فانفتح كل المغرب الأقصى أمامهم، ثم استولوا بعد ذلك على مدن الأندلس، والمغرب الأوسط، وأفريقية. وبهذا تم توحيد بلاد المغرب والأندلس في أكبر دولة مغربية عرفت في التاريخ.

وبهذه الروح القوية التي نفثها «الإمام المعصوم، المهدي المعلوم» - وهو اللقب الرسمي لابن تومرت في مخاطبات الدولة الرسمية - في عساكر الموحدين نزل هؤلاء بالأندلس فألحقوا الهزائم بقشتالة وليون وأرجون والبرتقال، ويعيدون إلى الأذهان ذكريات جهاد عبد الرحمن الداخل وانتصارات عبد الرحمن الناصر، وسطوة المنصور بن أبي عامر قاهر أعداء العروبة والإسلام.

ورغم ذلك؛ فقد كان طبيعيا أن تنهار أول النقط الضعيفة في مذهب ابن تومرت تاريخيا، وهي فكرة الاعتقاد بعصمته أو هدايته، وذلك على عهد يعقوب المنصور ثالث الخلفاء الموحدين. وكان معنى إنكار الإمامة على ابن تومرت هو عدم الاعتقاد برسالته، إذ سرعان ما ترك مذهبه وأخذ بالمذهب الظاهري الذي لا يعترف إلا بالقرآن والحديث كأساس لكل ما يتعلق بالشرع، شريطة أن يؤخذ النص على ظاهره من دون تأويل ولا تقييد.

وقد ظل التجاذب قائما بين مذهب الموحدين في صورته الجديدة هذه، وبين المالكية، زهاء خمسة قرون إلى أن كتب للمذهب المالكي الانتصار نهائيا على توحيد ابن تومرت في أيام ثامن خلفاء الموحدين «المأمون»، بعد أن كانت الدولة قد انهارت سياسيا، فكانت العودة إلى المالكية بمثابة حركة تجديد لنظام ابن تومرت المنهار.

* كاتب مصري