مركز الملك عبد الله للحوار.. شمعة في وسط الظلام

إميل أمين

TT

هذه خطوة تقدمية تجاه الذات أولا، تصالحية مع الآخر بالتبعية، انفتاحية على العالم بالضرورة. بهذه الكلمات يمكن للمرء أن يلخص جوهر مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات، والذي انطلقت أعماله مؤخرا في العاصمة النمساوية فيينا، ليضحى منارة جديدة للوصل في زمن الفصل، وللاتفاق في أوقات الافتراق..

والشاهد أن هذه الخطوة إنما تجيء تباعا واستكمالا للمؤتمر العالمي للحوار الذي دشن أعماله خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، ونظيره الإسباني الملك خوان كارلوس في يوليو (تموز) من العالم 2008، وقد كان ولا شك فتحا جديدا مشرقا في الطريق إلى رؤى تصالحية تاريخية بين الشرق والغرب، وبين أتباع الأديان، وما كان له أن يكون لولا إرادة ملؤها العزم، ونيات يشملها الحزم، على المضي في طريق الحوار، مهما كانت العثرات في الطريق، وكيفما اتفق للبعض أن يفترقوا عن الركب السائر في طريق التصالح والتسامح، وهي المسيرة التي عرف بها خادم الحرمين الشريفين، من زمن مبادرة السلام العربية في بيروت، وصولا إلى انطلاق دعوته الأممية هذه للحوار.

ولعله من المفيد أن ينشط المرء ذاكرة القارئ بما ذهب إليه خادم الحرمين الشريفين في كلمته في ذلك المؤتمر، ولا سيما أنها تعد الأساس الفلسفي الذي تقوم عليه طموحات المركز وأعماله.. ماذا عن هذا؟

في كلمته تلك كان تأكيد خادم الحرمين الشريفين على أن البشر جميعا يؤمنون برب واحد، بعث الرسل لخير البشرية في الدنيا والآخرة، واقتضت حكمته سبحانه أن يختلف الناس في أديانهم، ولو شاء لجمع البشر على دين واحد.

وإلى أبعد من ذلك مضى خادم الحرمين الشريفين يضيف أن الأديان التي أرادها الله لإسعاد البشر يجب أن تكون وسيلة لسعادتهم، وذلك علينا أن نعلن للعالم أن الاختلاف لا ينبغي أن يؤدي إلى النزاع والصراع.

والخلاصة عند خادم الحرمين الشريفين أن المآسي التي مرت في تاريخ البشر لم تكن بسبب الأديان، ولكن بسبب التطرف الذي ابتلي به بعض أتباع كل دين سماوي، وكل عقيدة سياسية.

في هذا السياق التأصيلي يستطيع المرء أن يرى كيف أن أهداف المركز الوليد تستند إلى أهداف ميثاق الأمم المتحدة ذاتها والقرارات الأممية حول تعزيز الحوار والتفاهم والتعاون من أجل السلام بين أتباع الأديان.

ولعل من يقدر له الاطلاع على اتفاقية إنشاء المركز في فيينا سيكتشف أنها اتفاقية متعددة الأطراف، ومفتوحة أمام الدول الأخرى والمنظمات الدولية للتوقيع بصفة أطراف أو مراقبين، وهذه هي الخطوة الأولى لتأكيد مصداقية المركز في الحوار مع الآخر، من حيث إنه لا يغلق أبوابه في وجه الالتحاق بمسيرة الحوار، وبخاصة أنها اتفاقية تؤكد على توجهات إنسانية عامة منتظمة في عقد من الحفاظ على قيم الحياة وكرامة الإنسان، وصيانة حقوق جميع البشر من دون تمييز على أساس العرق أو الجنس أو اللغة أو الدين.

لماذا الحاجة إلى الحوار في تقدير خادم الحرمين الشريفين؟

حكما وبحسب نص كلمته المشار إليها سلفا، هو أن البشرية اليوم تعاني من ضياع القيم والتباس المفاهيم، وتمر بفترة حرجة تشهد على الرغم من كل التقدم العلمي تفشي الجرائم، وتنامي الإرهاب، وتفكك الأسرة، وانتهاك المخدرات لعقول الشباب، واستغلال الأقوياء للفقراء، والنزعات العنصرية البغيضة، وهذه كلها نتائج للصراع الروحي الذي يعاني منه الناس بعد أن نسوا الله فأنساهم أنفسهم، ولا مخرج لنا إلا بالالتقاء على كلمة سواء، عبر الحوار بين الأديان والحضارات.

هل تجد كلمات خادم الحرمين الشريفين آذانا صاغية في الغرب الذي نطلق عليه «تجاوزا» وبصورة غير علمية أو موضوعية «المسيحي»؟ وهل يجد المستمع الغربي صنوا في الخطاب الديني الرسمي لمؤسسة ذات ثقل روحي هناك كما في حاضرة الفاتيكان؟

المقطوع به أن الخطاب ذاته يكاد يتطابق مع حديث البابا بنديكتوس السادس عشر في لقائه بمدينة بيت لحم في مايو (أيار) من عام 2009 مع رؤساء الأديان.

يقول البابا: «إن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو أي إسهام تقدمه الديانات إلى ثقافة العالم للتصدي للتأثيرات السلبية لظاهرة العولمة الآخذة بالانتشار سريعا. وبينما كثيرون مستعدون للإشارة إلى الخلافات بين الديانات التي يمكن الكشف عنها بسهولة نجد أنفسنا كمؤمنين أمام تحدي الإعلان بوضوح عما لدينا من قواسم مشتركة».

لكن قائلا يقول: «ما نفع الحوار وما جدوى استمراريته وقد انطلقت من قبل عشرات الدعوات التي تسعى في هذا الدرب، ولم يقدر لها في حقيقة الأمر أن تصيب نجاحا كبيرا، الأمر الذي يعني أن هناك خللا بنيويا ما في الدعوات السابقة أو بعض منها».

لم يكن خادم الحرمين الشريفين ليغفل تلك الإشكالية في كلمته عام 2008، إذ أشار إلى أن السبب الرئيسي في فشل معظم الحوارات في الماضي، هو أنها «تحولت إلى تراشق يركز على الفوارق ويضخمها، وهذا مجهود عقيم يزيد التوترات ولا يخفف من حدتها، أو لأنها حاولت صهر الأديان والمذاهب بحجة التقريب بينها، وهذا بدوره مجهود عقيم، فأصحاب كل دين مقتنعون بعقيدتهم، ولا يقبلون عنها بديلا. وإذا كنا نريد لمثل تلك اللقاءات والحوارات أن تنجح، فلا بد أن نتوجه إلى القواسم المشتركة التي تجمع بيننا، وهي الإيمان العميق بالله والمبادئ النبيلة والأخلاق العالية التي تمثل جوهر الديانات».

تدفعنا كلمات خادم الحرمين الشريفين إلى طرح علامتي استفهام: ما هو الهدف من الحوار؟ وهل من قيم تبنى عليها عملية الحوار؟

أولا يهدف الحوار من دون تطويل ممل أو اختصار مخل إلى إبراز إمكانية التقاء جميع الناس، على الرغم من اختلاف المعتقدات والآيديولوجيات والثقافات، وليس معنى ذلك أن نساعد الناس على الالتقاء بأي شكل من الأشكال، من دون قصد للتغيير، بل الهدف الرئيسي هو ترسيخ قبول الآخر المختلف عنا بطريقة جذرية، لا استبعاد فيها ولا إقصاء ولا تعال أو تكبر، إذ ليس هناك مكان للقهر في عالم حوار الأنداد والمتساوين.

أما عن القيم فيمكن للمرء أن يكتفي بطرح ثلاث منها:

* إن كل إنسان محبوب من الخالق سبحانه وتعالى، وبالتالي لكل الناس نفس الكرامة، فكرامة الإنسان لا تبنى على الثقافة التي لديه أو على الإيمان الذي يعتنقه، أو على المذهب السياسي الذي ينتمي إليه أو على الجنس الذي ينتسب إليه أو العمل الذي يقوم به، فكل تلك المعايير إنما هي مصدر تهميش وتفرقه، لكن كرامة الإنسان مبنية على حب الخالق للإنسان.

* القبول التام للحرية، وبالتالي الاتفاق بالإجماع، فالحقيقة ينبغي أن تعلن، ولكن ليس من حق أحد أن يفرضها، والحوار ينبغي أن يتم في إطار الاتفاق الجماعي والحرية، وإلا فلن يكون حوارا.

* أولوية المصلحة العامة على مصلحة طرف من الأطراف، ذلك أن فرادة كل واحد بحسب الجنس أو الثقافة أو الفكر يجب أن تكون مقبولة، لا بل مفضلة، ويجب أن توضع في خدمة التضامن لا لخدمة طرف ما.

هنا يضحى التذكير واجبا من جديد بأن الإيمان الديني يتطلب الحقيقة، والمؤمن هو من يبحث عن الحقيقة ويعيش استنادا إليها، على الرغم من أن الوسيلة التي نبحث من خلالها عن الحقيقة، وندركها تختلف بعض الشيء بين ديانة وأخرى، وهو أمر لا يجب أن يحبط عزيمتنا في الشهادة لقوة الحقيقة.

يمكن القول ولا شك، إن هذه الخطوة المباركة من قبل خادم الحرمين الشريفين، لن تمر بسهولة ويسر، وإن هناك انتقادات حادة سوف توجه لها من الداخل والخارج، لا سيما من قبل أصحاب العقول الأسيرة والأبصار القصيرة، لكن هذا لا يفت في عضد الحاجة الماسة والملحة إلى مؤسسة وسيطة مثل هذا المركز.. لماذا؟

الآن وقد كاد يفقد الناس الأمل في النظم السياسية والاقتصادية والعسكرية، في تحقيق الحوار والأمن والأمان وفي تعايش سلمي يحقق التقدم والرخاء للجميع، ويضمن الاحترام الكامل لكرامة الإنسان وحقوقه، يبقى دور رجال الدين والفكر والثقافة، والذين يمكن لمركز الملك عبد الله أن يجمعهم تحت سقفه، كمحطات أنظار الناس ورجاء للبشرية، في حياة أكثر كرامة ورقيا، وحضارة أكثر سلاما ووفاقا وأمانا، رغم كل ما يمكن أن يكون بين هذه الأديان من اختلافات، وبين رجال الفكر من تباين، إلا أن الناس ينتظرون من رجال الدين والثقافة والفكر أن يتخطوا مثل هذه الاختلافات ويصالحوا هذه التباينات من أجل أن يقودوا البشرية للعبور من هذا النفق الخانق المظلم.

هل تجد هذه الرؤية لها تطبيقا على أرضية اتفاق فيينا لمركز الملك عبد الله؟ واقع الحال نعم وبامتياز، فهي تلتزم صراحة بالمبادئ الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وبخاصة الحق في حرية الفكر والاعتقاد والدين، وتتعهد بمكافحة جميع أشكال التمييز على أساس الدين أو المعتقد. كذلك فإن المركز يهدف إلى تعزيز العدالة والسلام والتصالح والتصدي لإساءة استخدام الدين من أجل تبرير القمع والعنف والصراع، وتعزيز الاحترام والمحافظة على الطابع المقدس لجميع الأماكن المقدسة والرموز الدينية، ومواجهة التحديات المعاصرة للمجتمع، والحفاظ على البيئة، والاستخدام المستدام للموارد الطبيعية، والتعليم الأخلاقي والديني والتخفيف من آثار الفقر.

يؤمن خادم الحرمين الشريفين بأن الإنسان قد يكون سببا في تدمير هذا الكوكب بكل ما فيه، وهو قادر أيضا على جعله واحة سلام واطمئنان، يتعايش فيه أتباع الأديان والمذاهب والفلسفات ويتعاون الناس فيه مع بعضهم بعضا باحترام ويواجهون المشكلات بالحوار لا بالعنف. ويشدد دائما في مبادراته المختلفة لتعزيز روح الحوار على أن هذا الإنسان قادر بعون الله، على أن تهزم الكراهية بالمحبة، والتعصب بالتسامح، وأن يجعل البشر يتمتعون بالكرامة التي هي تكريم من الخالق سبحانه لبني آدم أجمعين. ولهذا فإن فكر ومسيرة مركز الملك عبد الله يجب أن يكونا نبراسا للساعين إلى سواء السبيل، الباحثين عن حوار يناصر الإيمان في وجه الإلحاد، والفضيلة في مواجهة الرذيلة، والعدالة في مواجهة الظلم، والسلام في مواجهة الصراعات والحروب والأخوة البشرية في مواجهة العنصرية.

حفظ الله صاحب هذه المبادرة، الملك برسم رسول للسلام والحوار حول العالم، وأتم عليه الشفاء العاجل، إنه على كل شيء قدير.

* كاتب مصري