الإسلام وأصول الحكم وخيارات الزمن الحاضر

رضوان السيد

TT

خلال الشهور الستة الماضية، أُعيد نشر كتاب الإسلام وأصول الحكم للشيخ علي عبد الرازق ثلاث مرات بثلاث مقدمات جديدة. في المرة الأولى (مطلع عام 2011) أعادت نشره مكتبة الإسكندرية. وفي المرة الثانية أعادت نشره دار «جداول» بلبنان (مع ردود ابن عاشور والخضر حسين عليه!) وقد قدمتُ له. وفي المرة الثالثة قبل شهر صدر مع مجلة «الدوحة» القَطَرية الشهرية، وقدّم له الكاتب السوداني حيدر إبراهيم علي.

ما أتت هذه النشرات المتكاثرة للكتاب الصادر للمرة الأولى عام 1925 مصادفةً. فالناشرون أرادوا إيصال رسالة مؤدّاها أنهم إنما يتلاءمون مع الأجواء الجديدة التي طرحتها الثورات العربية في مسألة الحكم المدني والأنظمة الديمقراطية. بيد أنه إذا صحَّ ذلك في المدى والمجال العامّ؛ فإنّ سريانه في الزمانين، زمان الصدور وزمان التوظيف (الحالي) يحتاج إلى تدقيق. وما أقوله هنا يحتاج إلى تفصيل. فالمؤلّف علي عبد الرازق (شقيق مصطفى عبد الرازق الذي صار شيخا للأزهر في أواسط الأربعينات)، يقول إنه إنما اهتم بموضوع الحكم والسلطة عندما صار قاضيا شرعيا خلال الحرب العالمية الأولى، فانطرحت لديه إشكاليات علائق القضاء بالسلطة السياسية. لكنّ هذا التعليل لتأليف الكتاب لا يستقيم، لأنه على مدى الكتاب خاض المؤلف جدالا عنيفا مع الجهات والمراجع التي تقول بأنّ الخلافة الإسلامية هي سلطةٌ دينيةٌ، لأنّ الرسول (ص) أسَّس لها، والقرآن الكريم تحدث عنها أو عن أصول السلطة في الرؤية الإسلامية. وهكذا فإنه ما كان مهموما عند إصدار الكتاب على الأقلّ (1914 - 1925) بعلائق القضاء بالسلطات السياسية، بل كان يستجيب للنقاش المستعر في الأوساط الإسلامية نتيجة إلغاء مصطفى كمال بتركيا للخلافة على مرحلتين: عام 1922 عندما قرر المجلس الوطني الكبير (= الجمعية التأسيسية) فصل الخلافة عن السلطنة، واعتبارها منصبا دينيا بحتا لا علاقة له بإدارة الدولة. وفي مايو 1924 اتخذ المجلس الوطني إياه قرارا بإلغاء الخلافة. في الخطوة الأولى أصدر المجلس الوطني دراسةً مطوَّلةً بالتركية عَلَّل فيها قراره استنادا إلى مذهب أهل السنة في اعتبار الشأن السياسي (= الإمامة) شأنا مصلحيا غير تعبدي وليس من أصول الإسلام. وترجم مثقفٌ تركي مقيم بالقاهرة اسمه عبد الغني سني بك الدراسة المذكورة إلى العربية، ونشرتها له مجلة «المنار» (التي كان يُصدرُها الشيخ محمد رشيد رضا بالقاهرة منذ عام 1898). ويومها تكاثرت المقالات المعلِّقة والمعترِضة على الدراسة، ومن ضمن تلك التعليقات سلسلة من المقالات نشرها رشيد رضا نفسه في مجلته عن الخلافة أو الإمامة العُظمى. وهو ينصُرُ فيها وجهة النظر القائلة بدينية الخلافة، وضرورتها للإسلام والمسلمين. وهذا دون أن يحدِّد طريقةً أو سبيلا للعودة إليها، لأنه ما كان في الأصل من أنصار بقاء الخلافة مكانا (لدى الأتراك) أو صيغةً بعد أن ضعُفت، وتحولت بعد عام 1908 إلى ما يشبه الملكية الدستورية. والمعروف أنه في عام 1916 نشبت الثورة العربية بقيادة الحسين بن علي أمير مكة، الذي ما لبث أن تلقب بألقاب الخليفة وأمير المؤمنين، باعتبار أنّ «الخلافة في قريش»، فهي من حقّ العرب! وقد كان هناك مَنْ قال إنه في عام 1924 وبعد إلغاء أتاتورك للخلافة، امتدّت إليها أطماع الملك فؤاد، ووقف معه في ذلك بعض شيوخ الأزهر وسياسيي البلاد العربية والإسلامية الأُخرى، باعتبار أنّ العثمانيين إنما استلبوا الخلافة في الأصل من الخليفة العباسي العربي الذي كان مقيما بمصر في ظل دولة المماليك، عندما احتلوا مصر بعد بلاد الشام عام 1517.

ما كان كل المصريين مسرورين من تصدير مشكلة الخلافة إليهم، رغم ما أثاره إلغاؤها من اندفاعاتٍ عاطفية في سائر أنحاء العالم الإسلامي (وبخاصةٍ الهند ومصر والملايو وآسيا الوسطى)، وانعقدت مؤتمرات في عدة بلاد لإحياء الخلافة في مصر أو الحجاز إن لم تقبل تركيا باستعادتها. وقد جاء هذا الأمر بعد ثورة عام 1919 بزعامة سعد زغلول والوفد، وكتابة الدستور والاستقلال والملكية الدستورية عام 1922. وقد كان رأي المثقفين المصريين الإصلاحيين أنه مهما كانت الميزات الرمزية لمصر نتيجة استقدام الخلافة؛ فإنّ اصطباغ الملكية المصرية بصبغةٍ دينيةٍ حري أن يدمّر الدستور، ويجعل من الملك إمبراطورا. ولا شكّ أنّ هذا الحرص على الدولة الدستورية الناشئة، هو الذي حرَّك جماعات من المثقفين هبوا لنصرة ثورة عام 1919 وقيمها ونتائجها، من طريق الدفاع عن مسألة مدنية السلطة بطريقتين: الطريقة الحديثة المعروفة في الأنظمة الديمقراطية الغربية، والطريقة التاريخية النقدية التي تستند إلى الموروث الإسلامي في اعتبار أنّ نظام الحكم في الإسلام في الأصل هو نظامٌ مدني تعاقدي، لأنّ «الأصل في الإمامة الاختيار»، كما يقول المتكلمون والفقهاء. انصرف للعمل على الطريقة الحديثة كلٌّ من أحمد لطفي السيد ومحمد حسين هيكل وطه حسين وآخرون، الذين ترجموا كتبا عن الفرنسية، كما كتبوا مقالاتٍ في الدستور والديمقراطية. في حين انصرف علي عبد الرازق للعمل بالطريقة الفقهية والتاريخية والنقد الكلامي للوصول إلى الفكرة نفسها: فكرة أنّ الخلافة ليست جزءًا من الدين، أو ليست نظاما سياسيا يفرضه الإسلام. وعلي عبد الرازق أزهري مثل شقيقه مصطفى. وقد درس مثله أيضا الحقوق في فرنسا. لكنه لا يُضاهي رشيد رضا في المعرفة بالموروث الإسلامي الحديثي والفقهي والكلامي. بل إنه أغفل بعض النصوص الكلامية والفقهية التي كان يمكن أن تؤيد وجهة نظره. وبذلك فقد خضع جزئيا للمسار الذي فرضه أنصار دينية الخلافة، وحاول الخروج منه من طريق التأويل؛ لكنه ظلَّ مصرا على أمرين: أنّ الخلافة إجماعٌ من جانب الصحابة ولا نصَّ عليها في الكتاب أو السنة، وأنه وإن كان النبي (ص) قد انشأ سلطةً سياسيةً فإنها ما كانت مُلْزمةً في صيغتها بل إنه ما كانت لها صيغة محدَّدة، وما صارت جزءًا من الرسالة النبوية مثل العبادات والزكاة والعقائد والأركان. فالنبي رسولٌ وليس قائدا سياسيا معيَّنا من الله عزّ وجلّ. ولو كان كذلك لكان على أهل السنة أن يعتنقوا نظرية الإمامة الشيعية التي تقول بعصمة الإمام مثل عصمة الرسول.

إنّ الطريف أنّ كتاب عبد الرازق الذي أثار عاصفةً كبرى في الصحف والمجلات، وحاكم الأزهر الرجل وسحب منه شهادة العالمية، ما كان أكثر الرادين عليه من المصريين. فقد ردَّ عليه كلٌّ من محمد رشيد رضا (الشام)، والطاهر بن عاشور ومحمد الخضر حسين (تونس). وطُبعت كتب هؤلاء بالقاهرة في عامي 1925 و1926. وعاش علي عبد الرازق طويلا حتى توفي عام 1966، وما ردَّ ولا ناقش. ورغم الغضب عليه، فإنه صار وزيرا للأوقاف في الأربعينات. وقد زعم محمد عمارة في كتابٍ له من الثمانينات أنّ علي عبد الرازق ليس هو الكاتب بل طه حسين! ماذا يفيد نشر الكتاب الآن هذه النشرات المتكاثرة؟ الزمان مختلف، وساحات النقاش مختلفة. ولا أحد يقول اليوم إنّ الحكم لا ينبغي أن يكون مدنيا. لكنّ هناك من يقول بتطبيق الشريعة أو بالحاكمية، وتبقى السلطة مع ذلك مدنية، لعدم عصمة الحاكم! وهؤلاء الذين يذهبون هذا المذهب، ليسوا من التقليديين الذين واجههم علي عبد الرازق، بل من الإحيائيين والحزبيين الإسلاميين الذين طوّروا رؤاهم هذه في ستينات القرن العشرين وما بعد. وهؤلاء تأصيليون، بمعنى أنهم يرجعون إلى القرآن، ويؤولونه تأويلا جديدا ذا طابع سياسي. وفي هذا المعنى ربما يبقى كتاب علي عبد الرازق ذا دلالةٍ في السياقات الجديدة، لأنه يعتبر السلطة مسألةً إنسانيةً ومصلحيةً بحتةً، ليس لدى المحدَثين، بل ولدى الفقهاء القدامى.