على خطى ابن تيمية.. الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

حظيت الدعوة السلفية الإصلاحية بزعامة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب باهتمام واسع من علماء العرب والمسلمين نظرا للظروف التي أحاطت بنشأتها وما ترتب عليها في دنيا المسلمين وواقع الناس. فقد ظهرت هذه الدعوة في حقبة زمانية بلغ فيها الانحطاط الفكري مبلغه في الأمة، واختلطت فيها السنن بالبدع، وغلب على الناس الجمود وحب التقليد مع غياب سلطة شرعية تسوسهم وفق مبادئ العدالة والشريعة والحق والقانون.

وقد كان من نتيجة ذلك، أن جاءت تلك الدعوة لتقويض هذه الطرائق، وتصحيح العقائد، وردها إلى مصدرها الأصيل: الكتاب والسنة. كانت دعوة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب بمثابة ثورة في العقائد، وثورة على الجمود والتقليد، وثورة في السياسة كذلك.. بعد أن استقرت في الضمائر، وتجسدت في نظام سياسي قوي البنية، متين الأركان.

وإلى جانب ذهنيته العبقرية، امتلك مؤسس الدعوة قوة نفسية متوثبة متحدية؛ فجمع في نفسه بين قدرة التنظير للتصورات الفكرية والذهنية الثاقبة التي تصرّف القوة على مسار السداد والتوفيق، كما امتلك أيضا، إلى جانب هاتين القوتين، قيما خلقية رفيعة تجسدت في شخصه وانعكست إيجابا على سلوكياته ومواقفه الحياتية.

قلّب الإمام النظر من حوله، فإذا التوحيد، مصدر قوة الإسلام الأول، قد فسد أو أوشك أن يتلاشى، وإذا الوحدة، التجسيد الأسمى لمبدأ التوحيد في الواقع، قد زالت، وذهب التفرق في العقيدة بمجد الإسلام، أو كاد! فكان لا بد أن يدعو للعودة إلى الأصل الأول الذي قام عليه أمر الدين وانبنت عليه وحدة المسلمين.

جاء الإمام على فترة من كبار المصلحين الذين بذلوا جهودا كبرى في الإصلاح والتجديد، ليطلق في الجسد الناعس صيحة مدوية بعيدة كل البعد عن تأثيرات السياسة وعصبيات القبيلة. على أن أهم ما يميز تلك الدعوة التصحيحية أن ثمة تطابقا واضحا بين الفكر والعمل وسم مؤسسها الذي كان شديد العزم كبير الهمة دائب النشاط في غير كلل أو ملل.

وقد ساعده على ذلك بنية جسمه القوية، ورجولته الناضجة التي باكرت صباه، وما رافق ذلك من حياة روحية كللها بالذهاب إلى مكة لأداء فريضة الحج، وإقامته بالمدينة لمدة شهرين متتابعين، فإذا بك تراه مصليا بالمسجد النبوي طلبا للأجر المضاعف، ومجاورا لقبر النبي، صلى الله عليه وسلم، مستنشقا أرَجَ النبوة عن كثب، ومستفيدا من سماع الدروس العلمية في زوايا وأركان المسجد النبوي، ثم يعود إلى مسقط رأسه (العيينة) موفور الحظوظ من متع الروح والقلب، مزهوا بحجه وصلواته، وفرحا بما شاهد من منازل الوحي، وبما سمع من علماء الحرمين.

أما عن تلقيه العلم، فأول ما بدأ به هو الفقه الذي تلقاه عن أبيه القاضي عبد الوهاب بن الشيخ الفقيه سليمان التميمي، ثم أقبل على كتب التفسير والحديث والعقائد بنهم شديد. ومما لفت النظر إليه في ذلك الوقت، قدرته على الحفظ، وعمق فهمه، وحدة فطنته، وسرعته في الكتابة على نحو ما كان سريعا في الفهم؛ إذ أتم حفظ القرآن الكريم ولما يبلغ العاشرة من عمره بعد! وفي الواقع؛ فإن طالب العلم لم يكتف في مراحله الأولى بالسماع والحفظ؛ وإنما أخذ يقارن بين ما يقرأ ويطالع، خاصة في العقائد، وما عليه الناس ببلده من مخالفات في طرائق تعبدهم، ووسائل تقربهم إلى المولى عز وجل. ومما جعله يبادر إلى تطبيق قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أنه رأى العلماء من حوله يرون الاعوجاج ولا يقومونه، ويعاينون المنكر من دون أن ينهوا عنه! بدأ الإمام رحلة التنقل وطور الترحال، فيمم وجهه أولا صوب البصرة والأحساء والحرمين، ثم عرج ثانيا باتجاه مصر والقدس ودمشق وحلب وإسطنبول، وبحسب بعض المؤرخين، فإنه قصد أيضا كلا من: بغداد وكردستان وهمذان وأصفهان والري وقُمْ.. ففي البصرة، التي أمّها مرتين وكانت إقامته فيها أطول إقامة قضاها خارج بلدته، تلقى علوم اللغة على يد الشيخ محمد المجموعي، كما درس أيضا علوم الحديث والفقه.

وفي الأحساء، تتلمذ على يد فقهاء من مختلف المذاهب؛ فمنهم الحنبلي والشافعي والمالكي، ومنهم من يفتي الرجل بقول إمام، والثاني بقول آخر، والثالث بخلاف القولين، فأنكر عليهم ذلك لما لمس عند الناس من أن «مراد هذا الفقيه (أو ذاك)، هو العلو والرياء وأكل أموال الناس بالباطل»! في المدينة المنورة، صادف الإمام فريقا من العلماء يحسنون أنواعا من العلوم والفنون، وطرائق في الدروس والإقراء على نحو لا عهد له به من قبل، فنهل من مواردهم، ولكنه تأثر بدعوة عالمين اثنين أصاب عندهما - دون غيرهما - الدعوة إلى التوحيد الخالص والفكر الإصلاحي ورفض الضلال والبدع؛ أولهما عبد الله بن إبراهيم بن سيف، عالم نجد الذي أرشده إلى مؤلفات تقي الدين بن تيمية، وثانيهما الشيخ محمد حياة السِّندي.

وحاصل ما خرج به الإمام من رحلاته هذه، أنه قد وقر في قلبه أن يحقق أمرين عظيمين متلازمين، هما عنوان مشروعه الإصلاحي، أولهما: العمل على إنشاء مجتمع إسلامي موحِّد وموحَّد. وثانيهما: تكوين دولة قوية عادلة تحت راية القرآن تقضي على تعدد الإمارات وتذيب الفروق وتقيم الصلاح باسم الإسلام.

كما استقر في روعه أيضا، أنه لا صلاح لأمر المسلمين إلا بما صلح به أول أمرهم، مثلما أفضت مقارنته لما هم عليه في زمانه مع ما كان عليه الإسلام أيام مجده إلى اقتناعه التام باستحالة أن يكون من السبب الواحد (الإسلام) مُسَبَّبان متباينان: ارتقاء وهبوط، توحد وتفرق، عزة وذلة، نور وظلام، حضارة وتأخر.. إلخ، فانتهى إلى أن علة العلل تكمن فيما آل إليه المسلمون أنفسهم من انحراف بيّن عن أصلي الإسلام العظيمين: الكتاب والسنة.

هذا، وقد جمع الإمام في شخصه أيضا، إلى جانب تكامل عنصري العلم والعمل، ميزة أخرى أكثر أهمية وأشد تأثيرا؛ ألا وهي: العلم الكلي بالسياسة الشرعية، وهي الخصلة التي تتيح للزعامة أن تبلغ غايتها، فتصرِّف بها شؤون الدعوة في كل حالاتها. وتقوم هذه الخصلة العظيمة، في ما يؤكد العلامة محمد بهجة الأثري، عند صاحب الحظ العظيم على الفكر العميق الذي يتعلق بالكليات أكثر مما يتعلق بالجزئيات، ويطلب الجوهر لا العرض، واللباب لا القشور، وتلتمس في كل ذلك أسباب الحكمة وحسن التلقي والعطاء.

ويتابع قائلا: «لقد تأملت في المنظور والمسموع من سيرة الإمام محمد بن عبد الوهاب، وفي إدارته دفة ثورته التصحيحية ستين عاما، فوجدته يتمتع من هذه الخصلة بحظ عظيم، وأن علمه كله الذي اكتسب قد ارتبط عنده بالبصيرة والتفكر والتدبر، فوعيه وعي كوني في أعماقه الفكرة الإلهية راسخة الجذور وتامة الحضور، وقد قامت عنده على سواء الإيمان العميق بالذات الإلهية، وعلى سواء الحق والنزاهة والإخلاص.

كما أنه كان لا ينفك يعمل على نقل مُدركاته، التي تشير إلى النظر المحيط والتصفية والتيقظ للجوهر وطلبه، من أصول العلم الكلي بالسياسة الشرعية إلى جمهوره ومريديه وتلامذته من الدعاة الذين أعدهم على سواء العلم والحق والعمل. فأهل العلم يقولون: إن الذي يأخذ على عاتقه مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تلزمه ثلاثة أمور:

أولها، أن يعرف (حقيقة) ما يأمر به وينهى عنه. وثانيها، أن يكون رفيقا في ما يأمر به وينهى عنه. وثالثها، أن يكون صابرا على ما يجيئه من الأذى! ولذلك، عاب الإمام على بعض علماء الدين أنهم، في سياق إنكارهم المنكر، يخطئون في تغليظ الأمر إلى شيء يوجب التفرقة بين الإخوان، والله تعالى يقول: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا..)».

ومن هذا المدخل المهم، خاصية العلم الكلي بالسياسة الشرعية، يمكننا فهم جوهر المشروع الإصلاحي في فكر الإمام محمد بن عبد الوهاب، الذي لاحظ فيه أن تمام الدين لا يكون إلا بالدولة التي أطلق عليها اسم الولاية!! فقرر - تبعا لذلك - أن المصلحة فيهما (الدين والدولة) لا تتم إلا بالاجتماع، وأن هذا الاجتماع لا بد له من آمر وناه، وهو الولاية التي يُسعى من خلالها لضمان حفظ مقاصد الشرع ومصالح العباد.

ففي فقرة متناهية الدقة بالغة الدلالة، يحدد الإمام مقصوده بمفهوم الولاية حيث يقول: «إن جميع الولايات مقصودها أن يكون الدين كله لله، فإنه سبحانه إنما خلق الخلق لذلك، ولا تتم المصلحة في الدين والدنيا إلا بالاجتماع، وإذا اجتمعوا فلا بد من أمور يجتنبونها لدفع المفسدة، ويقومون للأمر بها والنهي عنها، فلا بد (إذن) من (ضرورة وجود) آمر وناه، ولهذا أمر، صلى الله عليه وسلم، أمته بتولية ولاة الأمور عليهم، وأمر ولاة الأمور أن يؤدوا الأمانة، وأن يحكموا بالعدل، وأمر بطاعتهم (ما التزموا بذلك)»!! على أن دعوة الإمام قد تعرضت - كغيرها من دعوات المصلحين والمجددين - لكثير من النقد من قبل خصومها، كما أثيرت حولها العديد من الشبهات في حياة الشيخ نفسه، وقد قام بالرد عليها، وبعد وفاته، فتكفل تلامذته بالرد عليها. ومن أبرز تلك الشبهات: أنه يبطل كتب المذاهب الأربعة ويقول بأن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء، وبأنه يدعي الاجتهاد وأنه خارج عن التقليد حيث يرى أن اختلاف العلماء نقمة، وأنه يحرم زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وزيارة قبر الوالدين وغيرهما، وأنه يكفر من حلف بغير الله تعالى.. إلخ.

والحال، أن مذهب الإمام قد تعرض لكثير من الهجوم والتحريف لدرجة أن بعض خصومه اتهموه زورا بأنه ينكر أمورا معلومة من الدين بالضرورة كالشفاعة، وكرامات الأولياء، والصلاة على النبي، مما دفع ولده الشيخ عبد الله إلى القول: «إن من روى عنا شيئا من ذلك أو نسبه إلينا فقد كذب علينا، ومن شاهد حالنا وحضر مجلسنا وتحقق ما عندنا علم قطعا أن جميع ذلك وضعه وافتراه علينا أعداء الدين وإخوان الشياطين تنفيرا للناس عن الإذعان بإخلاص التوحيد لله تعالى بالعبادة وترك أنواع الشرك الذي نص الله عليه بأن الله لا يغفره». وقد انتهى إلى تأكيد أن مرتكب الكبيرة لا يخرج بفعله ذلك عن دائرة الإسلام ولا يخلد به في النار، وأنهم لا ينكرون كرامات الأولياء بل على العكس من ذلك تماما يعترفون لهم بالحق وأنهم على هدى من ربهم متى التزموا طريق الشرع، إلا أنهم لا يستحقون شيئا من أنواع العبادات لا حال الحياة ولا بعد الممات، بل يطلب من أحدهم الدعاء في حال حياته.

* كاتب مصري