جورج صليبا.. بين علوم المسلمين ونهضة الأوروبيين

إميل أمين

TT

من أين للعرب علومهم ومخترعاتهم الأولى وهل هي فقط مجرد ترجمات عن اللغة اليونانية كما يذهب البعض أم أن بصمتهم الإبداعية كائنة لا يستطيع أحد أن ينكرها حتى الساعة، وظاهرة للعيان في كثير من الأسباب التي أدت إلى قيام النهضة الأوروبية؟

حكما أن الجواب على مثل علامة الاستفهام المتقدمة وغيرها من الأسئلة السابقة كالبحث في أسباب عصور الانحطاط التي أحاطت بالعوالم والعواصم العربية والإسلامية، يجدها المرء بين ثنايا هذا العمل الفكري المهم المتمثل في كتاب «العلوم الإسلامية.. وقيام النهضة الأوروبية»، والصادر عن «كلمة» و«الدار العربية للعلوم» في أبوظبي وبيروت وأصل الكتاب في اللغة الإنجليزية وترجمته للدكتور محمود حداد.

والكتاب الموسوعة الذي يقارب الخمسمائة صفحة، يجيء في توقيت يشتد فيه الجدل بين الشرق والغرب على وقع ظهور كثير من التيارات اليمينية في أوروبا والتي لا ترى في العرب والمسلمين سوى أناس متخلفين لا علاقة لهم بالعلم والمبتكرات، ولا بالعلماء والمكتشفات.

يستوقف المرء في هذا العمل البديع كذلك أن كاتبه ومؤلفه الدكتور جورج صليبا، ينتمي إلى المسيحيين العرب والمهاجرين منذ زمن بعيد إلى الغرب، وإن لم تنقطع علاقته مع العالم العربي، محاضرا وشارحا ومؤلفا، وعبر كتابه العمدة هذا يظهر كيف أن هذا الفصيل من المواطنين العرب لا يزال يحرص كل الحرص على إظهار انتمائه الحضاري للعالم العربي والإسلامي، سيما أن أسلافه كانوا من بين الذين شاركوا في صناعة تلك الحضارة.

ويشغل الدكتور صليبا رتبة أستاذ العلوم العربية والإسلامية في جامعة كولومبيا – نيويورك، منذ أكثر من ثلاثين عاما، وله مؤلفات عديدة تتمحور جميعا حول دراسة تاريخ العلوم العربية والإسلامية وتأثيرها على تطور الحضارة الغربية وعلم الفلك الحديث، ويشغل الكثير من المناصب الإدارية والعلمية في الولايات المتحدة الأميركية حتى الساعة.

ولعل أهم ما يميز كتاب «العلوم الإسلامية.. وقيام النهضة الأوروبية»، هو تناوله لنشأة العلوم، أي الحضارة الإسلامية عبر ردها إلى أصولها، لا الاكتفاء كما فعل ويفعل الكثيرون بالبحث في الفروع، أي بردها إلى المصادر العلمية نفسها، التي كانت هي قوام هذا التراث بالدرجة الأولى والمصادر التاريخية التي كانت هي الأخرى تدلي بدلوها في تفسير نشأتها.

ولعل محورية هذا العمل الفكري الكبير، تنطلق من مغايرته لفكرة السرد الكلاسيكي الشائع، الذي يعزو نشأة هذا التراث إلى الترجمات، خلال الفترة العباسية، من الحضارات القديمة وبخاصة اليونانية كما أسلفنا.

وعند الدكتور جورج صليبا أن الدراسة المعمقة لهذه المصادر توصلنا إلى الاستنتاج بأن أعمدة هذا التراث كانت قد أرسيت خلال الفترة الأموية، وأثناء خلافة عبد الملك بن مروان بالذات التي رعت تعريب الدولة بجميع مؤسساتها.

كما يلقي الكتاب الضوء على التعقيب، والعلاقة القائمة بين العلوم والمحيط الفكري العام، وعلى المقاييس الاجتماعية والسياسية للإنتاج العلمي والعلاقة التي تربط بين التفاصيل العلمية التقنية في مجال معين والدعم الاجتماعي ومعرفة هذه المجالات.

في كل أمورك اذكر غايتك.. هكذا تكلم الفلاسفة منذ أجيال بعيدة.. ولهذا نتساءل.. ما الدافع عند الدكتور صليبا للإقدام على تلك المغامرة الفكرية الجريئة غير المنمطة بآراء الأولين؟

يلفت المؤلف إلى أنه لا ينبغي قراءة هذا الكتاب كتعبير عن عظمة التراث العلمي الإسلامي، مع أنه كان حقا أحد أعظم أنواع التراث، لكنه يحث الجميع على قراءته كدعوة من أجل التفكير حول معنى تاريخهم، بخاصة خلال فترة «ما بعد الاستعمار»، والفترة الاستعمارية في العالم الإسلامي والعالم العربي، ويتمنى قلبيا على هؤلاء القراء القادمين، التفكير مليا في النوع التاريخي الذي يمكن أن يدون حين يغض المرء النظر عن التركيز على التاريخ السياسي والديني الاعتيادي، الذي غالبا ما يسرد دائما، ويميز في المقابل الإنتاج العلمي والظروف الاجتماعية والاقتصادية والفكرية المعقدة التي سمحت بنشأة هذا الإنتاج.

بين الماضي بأمجاده والحاضر بآلامه يربط الباحث والمفكر الدكتور صليبا الأجواء بحثا عن فائدة آنية، فلا مصلحة من التاريخ إذا كان سردية كلامية جوفاء، بدون تجارب قابلة لإعادة الإحياء أو للاستفادة منها ولو بروح عصرية في أضعف الإيمان، ولهذا يؤكد على أنه لو كان ثمة عبرة يستفيد منها المرء من تاريخ العلوم العربية والإسلامية لصالح عصرنا المتقدم الحالي أو أي أمل بتعلم شيء حول الآليات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تسمح للإنتاج العلمي بالازدهار بهدف تحقيق نمو عصري في أغلبية الدول التي هي في طور النمو، وبغض النظر عن انتمائهم الديني والثقافي، فيجب أن نجدها في هذا النوع من علم التاريخ الذي يلقي الضوء دائما على التفاصيل التقنية للفكر العلمي ذاته، وفي الوقت عينه يستثمر الآليات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، التي سمحت بازدهار هذا الفكر وما زالت تسمح به. ويهدف الكتاب إلى إلقاء الضوء على هذه المسائل.

والمقطوع به استحالة استخلاص ما ورد بالكتاب الموضوعي العلمي في المسطح المتاح لهذا المقال، ولهذا فإننا سنركز على النقاط الأهم فيه، وفي مقدمتها تلك المتعلقة بإشكالية «السرد الكلاسيكي» لكل ما يتصل بالعلوم العربية والإسلامية، والذي يبدأ بافتراض أن الحضارة الإسلامية كانت حضارة صحراوية مقفرة بعيدة عن الحياة الحضرية، التي لم تتح لها الفرصة الملائمة لتطوير العلوم بمفردها، مما يمكن أن يشكل موضع اهتمام للثقافات الأخرى.

والرواية الكلاسيكية المعروفة مركزها القول بأن الحضارة الإسلامية – العربية بدأت بتطوير الفكر العلمي فقط حين بدأت تحتك مع حضارات قديمة أخرى، كانت تعتبر أكثر تقدما، مع فرق صغير في معنى التقدم.

وتشمل الحضارات المعنية الحضارة اليونانية والهلينية في الجهة الغربية من النطاق الجغرافي للحضارة الإسلامية، وهي الجهة التي تتقاطع معها، والحضارة الساسانية «المرتبطة بالحضارة الهندية»، في شرقها وأقصى جنوبها، وتتميز عادة هذه الحضارات المتجاورة بالقدم وبأعلى درجات الإنتاج العلمي، على الأقل في حقبة ما من تاريخها، وبمستوى معين من الحيوية التي لم تكن لتوجد في الحضارة الإسلامية الصحراوية.

وفي نقده للسرد الكلاسيكي يرى الدكتور صليبا أن القول بان هذه الحضارة الإسلامية كانت منعزلة في بيئة صحراوية، هو قول لا يخلو من بعض السذاجة والتبسيط، وكما هو معروف فالحضارة الإسلامية ظهرت حول مدينتي مكة المكرمة والمدينة المنورة، وحول مناطق القبائل العربية التي لم تكن صحراوية تماما. ووسط هذه البيئة كانت حضارة ما قبل الإسلام قد طورت بعض العلوم الأساسية الفلكية والطبية التي استمرت حتى العصر الإسلامي.

ويشير المؤلف إلى أنه حاول في فصل كتبه قبل زهاء 15 عاما وإن لم يقدر له أن ينشر إلا لاحقا، أن يلخص المعرفة العلمية العائدة إلى عرب ما قبل الإسلام، واستنتج أن العلوم التي يمكن توثيقها من تلك الفترة لم تكن مختلفة كثير الاختلاف من حيث النوعية عن العلوم التي كانت متداولة في المناطق المجاورة مثل بيزنطة أو إيران الساسانية أو حتى الهند.

إلا أن الأمر الأهم هو أن السرد الكلاسيكي يتركنا أمام مشاكل أكثر أهمية ولا تفسير لها، وهي تتعلق ببدايات العلوم الإسلامية وبتدهورها وانحلالها في النهاية.

ويتناول بالحديث المفصل علم الفلك الإسلامي وكيف أنه كون شخصيته الذاتية ويشرح إبداعاته المفصلية، وقد كان النوع الأكثر انتشارا لعلم الفلك في الحضارة الإسلامية، والأكثر حيوية هو علم الفلك الجديد المسمى بعلم الهيئة «أي علم هيئة العالم»، وهي عبارة ولدت من غير معادل لها في اللغة اليونانية.

يأخذنا الدكتور صليبا كذلك إلى ما عرفته الحضارة العربية والإسلامية من مقابلة بين الفلسفة والدين والعالم قائم في وسطهما مدللا بقضايا علم الفلك ومدى بعدها أو قربها من عالم التنجيم، ويرد كثيرا من الاتهامات التي تذهب إلى أن الدين الإسلامي كان بذاته عقبة في طريق تطور العلوم التجريبية عبر الزمان والمكان.

وفي الفصل قبل الأخير الذي يتناول تشابك الحضور الفاعل للعالم الإسلامي مع النهضة الأوروبية والصلة مع فلك كوبرنيك العالم الأوروبي الشهير في مجال الفضاء، يؤكد كيف أن سرد جميع الأدلة التي يشير إليها هو إقرار بأنها جمعت خصيصا لتفسير الصلات المحددة بين النصوص الفلكية والكوبرنيكية ونصوص أسلافه العرب من العالم الإسلامي، وهنا يبدو وكأننا تعثرنا في صندوق باندورا Pandora’s Box أي ذلك الوعاء الذي يكشف عن المفاجأة تلو الأخرى والتي توضح أن مستوى العلاقة التي ربطت عصر النهضة الأوروبية بالعالم الإسلامي، كان مختلفا تماما عن مستوى الارتباط الذي كان لقوم يعتمدون أكثر على الترجمات، وكانوا ينتظرون صدورها قبل أن يستخدموها.

هذه هي الطريقة التي أثرت فيها ترجمات ابن رشد في المفكرين اللاتين، ولكن في عصر النهضة يبدو أن رجال العلم أصبحوا هم أنفسهم مستعربين ولم يعودوا بحاجة إلى الترجمات، إذ أصبح بإمكانهم استخدام النصوص العربية مباشرة واستخدام أفكارها.

على أن السؤال المؤلم الذي لا بد أن يواجهه الباحث الجاد في شأن الحضارة الإسلامية والعربية.. ما الذي جرى وقاد تلك النهضة إلى عصور الانحطاط؟

يرى الدكتور صليبا أنه من الطبيعي أن تبدو جميع الحضارات غير الغربية وكأنها تمر في عصر من الانحطاط وأنه قد بدا انحطاطها خلال القرن السادس عشر، أي بعد اكتشاف العالم الجديد بزهاء القرن عندما تعلمت البيوتات الملكية الأوروبية كيفية ترجمة فوائد هذا الاكتشاف إلى سلطة سياسية واقتصادية.

والخلاصة التي لا شك فيها أن مشكلة اللحاق بالعالم الغربي لم تعد بحسب المؤلف قاصرة على العالم الإسلامي وحده، ولكنها أصبحت مشكلة العالمين الثاني والثالث المزعومين أيضا.. مما يجعل ربح سباق النهضة العلمية يبقى لصالح الغرب حتى وإن بدا عربيا في حقبة ما.

*كاتب مصري