الرحابة الإلهية أو عقيدة العناية والرحمة

رضوان السيد

TT

تعتمد مقاربات التقارب والتواصل بين المسيحيين والمسلمين أحد سبيلين: السبيل الشامل القائل بانغمار سائر بني البشر في رحمة الله سبحانه وفضله، ومن ضمن هؤلاء المسيحيون والمسلمون. والسبيل الآخر المراجعة والنقد للمقاربات القديمة سواء أكانت نصية أو كلامية، واجتراح قراءة أخرى للنصوص في الكتب المقدسة تدعم توجهات التقارب والتضامن وتطلب الخيرات الآتية. ولكل من المقاربتين ميزاتها وصعوباتها. فالمقاربة الأولى، مقاربة الرحمة الشاملة، المستندة عند المسلمين إلى قوله تعالى: «كتب على نفسه الرحمة»، وقوله: «ورحمتي وسعت كل شيء»؛ صعوباتها وعقباتها أنها تواجه باختلافات النصوص المقدسة حتى ضمن ظواهر النص الواحد، كما أنها تواجه بالتواريخ اللاهوتية للنزاعات، والتواريخ السياسية والماضية للحروب والانقسامات. ثم إنها تفضي إلى أنه ليست هناك ميزة لديانات أهل الكتاب أو الديانات الإبراهيمية في بلوغ هذا الخلاص الكبير. أما السبيل الآخر القائل بإعادة القراءة لتحقيق هذا الانتظام في العلائق فيلاقي صعوبات الحصرية الظاهرة في كثير من النصوص، والأنظمة العقدية أو اللاهوتية التي تعتبر أن هذه الإطلاقية والحصرية في بلوغ الخلاص ميزة ومبرر وجود كل دين واستمراره. ذلك أن النسبية التي تشعر بها إعادة التأويل، تجعل من كل النظام اللاهوتي في الدينين أو الأديان الإبراهيمية عرضة للتساؤل أو التداعي في نظر المؤمنين المحافظين والمتشددين.

أما مؤلفا كتاب «الرحابة الإلهية» فإنهما اعتمدا الطريق الضيق، أي الثاني. وهو الطريق الأصعب كما سبق القول. فالطريق الأول، أي طريق الإيمان وحده، هو سبيل النخب والقلة عبر التاريخ، ولا أمل أن يؤثر في العامة (أو الجمهور) والتي تعتمد النص والتقليد. وهذا هو السبب الذي كان فيما أظن وراء مصير نايلا طبارة وفادي ضو إلى اعتناق السبيل الثاني. فهناك الجمهور من جهة، والذي ينبغي التواصل معه وإقناعه عبر ما يعرف ويألف. وهناك ذلك الاقتناع العميق بأن المنطق الداخلي للكتب المقدسة، يوصل في النهاية إلى لاهوت جديد-قديم أو أصيل هو لاهوت العناية والرحمة. وما دام الأمر كذلك فالواقع أن سبيل التأويل التوليفي هذا أسهل لدى المسيحيين منه لدى المسلمين. فهناك تطورات كبيرة تمت على مستويين عبر القرنين الماضيين: تطورات تتصل بالإصلاح الديني، وتطورات تتصل بمقاربة الكتب المقدسة. فقد أدى الإصلاح الديني إلى إخراج الدين من بطن الدولة، والسلطة من عقل الدين. فما عاد الصراع على السلطة في المجتمعات الغربية أو السطوة الدنيوية سبيلا من سبل الخوض في مسالك السيطرة باسم الدين استنصارا واستغلالا.

أما التطورات في تفسير العهدين أو قراءة وظائفهما؛ فإنها أدت إلى تغيير النظرة تجاه اليهود أولا، وتجاه المسلمين لاحقا، وفي العقود الأخيرة بعد المجمع الفاتيكاني الثاني تجاه سائر الأديان والثقافات. ومع ذلك فإن المؤلف فادي ضو مضى في فصلي الكتاب الأولين أبعد بكثير مما ذهبت إليه مقولات اللاهوتيين الليبراليين. ويعرف الأستاذ الكبير عادل تيودور خوري وهو اللاهوتي الضليع، - والذي أقبل منفتحا ومتواضعا على ترجمة الكتاب إلى العربية - أن ما أوغل فيه فادي ضو يحتاج بالفعل إلى الفهم العميق، واقتضته الشجاعة والنزاهة، ولا بد أن يساعد فيه وعليه. ذلك أنه في المسيحية الكاثوليكية على الخصوص، هذا النزوع الإصلاحي الراديكالي من جانب أهل المؤسسة، وليس من خارجها، هو الذي يؤدي في النهاية إلى التطوير والتجديد.

وسلكت نايلا طبارة السبيل الضيق في التعامل مع وعي المسلمين، وليس مع النص القرآني. فالمقاربة التأويلية الجديدة التي تابعتها مع النص محتملة وقوية إن من حيث البنية اللغوية أو من حيث السياقات. وأنا من أنصار هذا التوجه في الدراسات التي قمت بها ونشرتها في أعمال مؤتمرات البلمند وحريصا والأزهر والندوات الفقهية بعمان. إنما ينبغي أن نعمل نحن المسلمين بالإضافة إلى هذه الدراسات والقراءات النقدية على الوعي الإسلامي، والذي عانى ويعاني من إرغامات وحصارات وطوال القرنين التاسع عشر والعشرين. وقد كانت هناك محاولات إصلاحية قوية عملت على النص القرآني من خلال تفاسير جديدة للقرآن. وكان القائمون بها من علماء الدين بالطبع. لكنها لم تؤثر في الجمهور المتعلم، لاختلاف العلائق عند أهل السنة بين النخبة الدينية والجمهور عنها لدى الكاثوليك (والبروتستانت) والشيعة. ثم دخل عنصر ضاغط آخر هو ظهور الأحزاب السياسية الإسلامية، أي التي استخدمت وتستخدم الدين في الصراع على السلطة. فصار صعبا التقدم بأي اتجاه وسط استعلاء تيارات الخصوصية والهوية والتمايز عن الآخر الديني والثقافي. وإذا كان النهوض بالفكر الإسلامي نقدا وإصلاحا ضروريا وهو مهمة النخبة من العلماء المختصين، والدارسين المهتمين؛ فإن الهم الحاضر في ظل حركات التغيير العربية الجارية التعامل الواضح والصريح مع الإسلام السياسي باعتباره في شتى تياراته، إنما يريد إدخال الدين في عمليات الصراع على السلطة. ولا خوف من وراء ذلك على الدولة، لأن الناس في المرحلة الجديدة قرروا إنهاء الجمهوريات الوراثية الخالدة، وإدارة شأنهم العام بأنفسهم، وإنما الخوف على الدين باعتباره لحمة المجتمع وأساس الشرعية فيه. إذ إن كل فريق من فرقاء الإسلام السياسي إنما يريد الاستنصار بالدين للفوز في معركته السلطوية، ويترتب على ذلك انقسام أو انقسامات في الدين أو باسم الدين. فالأجواء تشبه لدى هؤلاء أو بعضهم أجواء الفرق الإسلامية في الأزمنة الوسيطة. فالصراعات الأولى كانت في الأساس صراعات سياسية وفي عهد عثمان كما في عهد علي. وبسبب الاستخدامات السياسية للإسلام، حصلت انقسامات دينية، وتحولت التيارات السياسية إلى فرق دينية تتقاذف بقذائف التفسيق والتكفير. ولا ينبغي الخوف أو التردد بسبب الاتهام بالعلمانية أو فصل الدين عن الدولة. فقد كان الفرنسيون يخافون على الدولة والمجتمع من الكنيسة فاشترعوا تلك العلمانية الشرسة، التي قلدهم فيها مصطفى كمال. أما الأميركيون فكانوا وما يزالون يخشون السلطة على الدين، ولذلك منع الدستور الأميركي الكونغرس من الاشتراع في الشأن الديني. فنحن معنيون بالإفادة من الإسلام باعتباره أس النظام القيمي والأخلاقي في مجتمعاتنا، وهو يؤثر في الحياة العامة من خلال المشاركين في الشأن العام، وليس من خلال حزب سياسي، يحدد ما هو الدين بحجة تطبيق الشريعة! لقد تابعت عمل مؤسسة «أديان» في السنوات الأخيرة، وقرأت محاولة طبارة وضو مخطوطة بالعربية في ترجمة مشرقة للأستاذ الجليل، عادل تيودور خوري. وأنا أرى أن عمل الدارسين الفاضلين هو عمل أكاديمي مهم، وهو عمل رسالي مسؤول. ولا بد من الدعم والمتابعة النقدية وبكل السبل، إيمانا باستباق الخيرات، واحتسابا عند رب العناية والرحمة: «فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض».

* تعليق ومداخلة على كتاب: «الرحابة الإلهية، لاهوت الآخر في المسيحية والإسلام» لفادي ضو ونايلا طبارة (2011). وألقيت المداخلة في مركز «لقاء للحوار العالمي» (لبنان - الربوة) بتاريخ 28-10-2011.