أحمد خان وجهوده الإصلاحية في القارة الهندية

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

يتربع السيد أحمد خان (1817م - 1898م) على عرش التيار التحديثي الليبرالي بشبه القارة الهندية. وقد ترعرع في ظل أسرة أرستقراطية تمتاز بأصولها العريقة، حيث رحل أجداده الأوائل من بلاد الغرب إلى مدينة «هراة» ثم منها إلى العاصمة «دلهي» في عهد الملك «أكبر شاه».

ولد أحمد خان في السابع عشر من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1817م، وتوفي والده عام 1254هـ - 1838م وهو لا يزال في التاسعة عشرة من عمره. وعلى عكس أسرته التي كانت تتحرج كثيرا من إبداء صلتها بالإنجليز، التحق السيد أحمد خان بخدمة الحكومة أمينا للسجلات في القلم الجنائي بمدينة دلهي ثم سرعان ما عين منصفا، أي قاضيا مدنيا، في مقاطعة «فاتح بور» الواقعة ضمن إقليم «أكرا» لينتقل بعد ذلك بنفس مسماه الوظيفي إلى مدينة «بنجور» قبيل وقوع الثورة الهندية بقليل عام 1274هـ - 1857م.

وواقع الأمر، فإنه كان يمكن لحياة السيد خان أن تسير على نفس طريقتها فيترقى في سلك القضاء لولا وقوع الثورة الهندية التي كانت الحدث الفصل في حياته وتحولاته الفكرية، حيث لم يعرف عنه اهتمامه بقضايا الإصلاح والتجديد قبلها؛ وإنما كان مهتما فقط ببحث آثار دلهي القديمة حيث ألف في هذا السياق كتابه «آثار الصناديد» عام 1264هـ - 1847م. وما إن اندلعت الثورة الهندية حتى انتهت بالفشل كآخر محاولة عسكرية قامت بها سلطات المغول الإسلامية في وجه الغزو الأوروبي. لكن ما حدث لاحقا، بعد انتهاء الثورة، هو الذي غير مجرى المياه الراكدة في الحياة السياسية الهندية، حيث امتدت مرحلتا الاضطهاد والقمع لدرجة أن عمد ضابط بريطاني اسمه الكابتن هدسون إلى جميع أفراد الأسرة المالكة فذبحها عن بكرة أبيها ولم يستثن منها إلا الإمبراطور الطاعن في السن «بهادر شاه الثاني»، والذي توفي بمنفاه في مدينة رانجون بعد ذلك.

في هذه الأثناء، أبيحت المدينة للجيش الذي انطلق جنوده لنهب المساكن وذبح المواطنين فإذا بأحمد خان يجير أسرة بريطانية من محاولة الاعتداء عليها وينقذها من الموت ومن ثم نظرت إليه السلطات الإنجليزية بعين الرضا وكافأته على ذلك بترقيته وظيفيا. ولم يكتف السيد خان بذلك وإنما أعلن عن رأيه في مناهضة الإنجليز فألف كتابا بعنوان «أسباب بغاوت هند»، أي أسباب الثورة الهندية، حلل فيه الأوضاع الاجتماعية والسياسية كافة في شبه القارة الهندية، مؤكدا أن المواجهة العسكرية مع البريطانيين لم تكن في موضعها، وأن الفرصة لا تزال رغم ذلك مواتية للمسلمين للدخول في مناقشة ذات مضمون علمي وثقافي أكبر لمواجهة القوة الأوروبية المتنامية.

كما سعى أحمد خان إلى تقديم تفسير جديد لنظرية «الجهاد» بعد أن ساد في هذه الفترة أن الهند أصبحت «دار حرب» ومن ثم فقد وجب الجهاد المسلح على أبنائها المسلمين دفاعا عن دينهم. ففي سنة 1804م قام الحاج شريعة الله بتأسيس حزب إصلاحي يقوم على عدم صحة صلاة الجمعة في الهند بحجة أنها ليست «دار إسلام»!! ولذا، فقد سمي حزبه هذا بـ«جماعة اللاجمعة».

وعلى عكس هذا الفهم تماما، أكد السيد خان أن الجهاد ليس مباحا إلا في حالة وقوع القهر البالغ، أو الحيلولة بين المسلمين وأداء شعائرهم الدينية. وتبعا لذلك، فإنه لما كان الأمر الأخير غير متحقق في الواقع، نظرا لأن الإنجليز كانوا يكفلون الحرية الدينية، فإن ذلك لا يبرر الجهاد ضدهم بحال من الأحوال.

وبطبيعة الحال، لاقت آراء السيد خان اعتراضا شديدا من قبل الأوساط الجهادية، خاصة أن عدد المسلمين في الهند وقتها كان قد جاوز السبعين مليونا فإذا بأغلبهم يعيشون في حالة من الجهل والفقر وبؤس العيش وحتى من تعلم منهم لم يتجاوز تعليمه الإطار التقليدي (التعليم الديني).

رأى السيد خان أن أغلبية الشعب خاضع لسلطة رجال الدين الذين لا يفهمون من الإسلام إلا رسمه ويرون «أن المدنية الحديثة بعلمها ونظمها ووسائلها ومقاصدها (ليست إلا) مدنية كفر لا يصح للمسلم أن يستمد منها، ولا أن يتعاون مع أهلها، وأنهم إذا فتحوا صدورهم لها أحاطت عقائدهم (ونالت) من دينهم».

وتبعا لرأي السيد خان المتعلق بضرورة البدء بإصلاح العقول من خلال التثقيف والتهذيب، يبدو أنه بذلك أقرب شبها بالشيخ الإمام محمد عبده (ت 1905م) بعد مفارقته جمال الدين الأفغاني وعودته إلى الوطن من نفيه، فكلاهما يؤمن بأنه لا وجود لاستقلال مع الجهل وسيادة الخرافة، وكلاهما يؤمن بأن عماد الدولة الحرة الأبية إنما يقوم على العلم بالدين والدنيا، وأن الإسلام إذا ما تم فهمه على حقيقته ليس فيه ما يمنع الإنسان من أن يصل إلى أعلى الدرجات في العلوم ونظم الدنيا إلى غايتها بل على العكس من ذلك تماما، فإن في الإسلام ما يشجع على التدبر في آيات الله وملكوته.

جانب آخر يشترك فيه كلا المجددين، محمد عبده وأحمد خان، ألا وهو الجانب الواقعي وقراءة المشهد السياسي لكلا البلدين في ضوء الحاصل فعلا، وليس بهدي من بواعث الأمل أو التمني. فقد أقر كلاهما بأن مرد السلطة في بلديهما إلى الإنجليز وحدهم وأن هؤلاء يملكون ناصية الأمور من ناحية العتاد والقوة وإحكام السيطرة على البلاد، وهو ما ليس بإمكان البلدين، مصر والهند، مواجهته أو مقاومته مرحليا.

لكنهما إلى ذلك أقرا بأن اتحاد قوى الشعب من خلال المقاومة كفيل بردع ودحر القوات الإنجليزية. على أن التساؤل الذي قفز أمامهما إزاء هذا الافتراض هو: كيف يكون اتحادهم مع واقع جهلهم وضعف خلقهم؟ أضف إلى ذلك فساد أمرائهم؟! إلى هذا الحد من المقاربة تأكد للمجددين أن لا مناص من البدء أولا بتثقيف الشعب، وحتى يتم ذلك يتوجب على النخبة الثقافية والسياسية أن تجلس إلى مائدة المفاوضات مع الإنجليز في كلا البلدين للاستفادة بأكبر قدر ممكن في هذا السياق، فما لا يدرك كله لا يترك جله. ومن النواحي الأخرى التي اشترك فيها المجددان، أن كليهما قد ناله من الاتهامات بسبب آرائه الشيء الكثير. ولعل ذلك ما يفسر سبب رحيل السيد خان إلى أوروبا عقب انتهاء الثورة مباشرة ليسجل إعجابه بالتيارات الفكرية الأوروبية وقتذاك في كتابه «سفر نامه» الذي جاء فيه: «إن الذين يريدون إصلاح الهند الحقيقي يجب أن يجعلوا نصب أعينهم نقل العلوم والفنون والآداب الأوروبية إلى لغة البلاد الأصلية. إن تقدم الغربيين إنما جاء من أنهم عالجوا الآداب والعلوم بلغتهم، ولو كانت العلوم والفنون تعلم في إنجلترا باللغة اللاتينية أو اليونانية أو العربية أو الفارسية لظلوا جاهلين جهل الهند فما لم نهضم العلوم والفنون ونتمثلها بلغتنا فسنظل في حالتنا السيئة (هذه)».

لكنه في المقابل من ذلك، صدم مرة أخرى إزاء جهل الأوروبيين بالإسلام ونبيه فكتب بدافع هذه التجربة، وهو في إنجلترا، كتابا بعنوان «خطبة أحمد» تحدث فيها عن سيرة النبي، عليه الصلاة والسلام، وفكره، مدللا على ذلك بالأحاديث النبوية.

وعندما عاد السيد خان من رحلته الأوروبية سارع بإنشاء «الجمعية الإسلامية العلمية». ثم أسس لاحقا (عام 1860م) «كلية عليكرة الإنجليزية الإسلامية» التي أصبحت فيما بعد «جامعة عليكرة الإسلامية».

وفي الأحوال كلها، فإن من شأن الآراء التي قال بها المجددان، محمد عبده وأحمد خان، أن تجر عليهما ويلات لا قبل لهما بها. ومن ثم، كان يتوجب على صاحب هذه الآراء أن يحارب في وقت واحد على جبهات ثلاث: الجبهة الأولى: تتمثل في رجال الدين الذين يرون في الدعوة لاقتباس العلوم الحديثة مفسدة تضر بالدين، وأن القول بقيام كل شيء على السببية كفر بالقضاء والقدر إلى جانب القول بزندقة من ينكر على المشايخ والأولياء سلطتهم الروحية.

الجبهة الثانية: تتمثل في دعاة الوطنية والاستقلال، وهؤلاء يرون في الدعوة لمهادنة الإنجليز خيانة للقضية الوطنية وأنه لا تفاوض ولا مسالمة إلا بعد الجلاء وكل من يطلب دون ذلك يتهم بالعمالة، خاصة إذا انضوى تحت لواء الحكومات اللاشرعية وترقى ضمن وظائف الدولة المحتلة.

الجبهة الثالثة: تتمثل في قوى الاستعمار، وهؤلاء سرعان ما يضيقون ذرعا بمطالب المصلحين فيعمدون إلى نفيهم خارج البلاد أو مصادرة كتبهم سعيا وراء الحد من نفوذهم وخوفا من سلطانهم على حد سواء.. وتلك قضية أخرى!

* كاتب مصري