هل هي العلاقة بين المسلمين والغرب أم هي التفاعلات الداخلية؟

رضوان السيد

TT

نشر مركز «غالوب» للاستطلاعات ومركزه أبوظبي تقريرا مفصلا (2010) بعنوان: «قياس العلاقة بين المسلمين والغرب.. تقييم (البداية الجديدة)». ويعني كاتبو التقرير بالبداية الجديدة سياسات الرئيس أوباما والإدارة الأميركية في عهده تجاه العرب والمسلمين، بعد تغير خطابه وخطاب إدارته، وانحسار التحديات العسكرية والأمنية. وطريقة المركز في الاستطلاع مركبة ومعقدة بعض الشيء، ويكفينا من ذلك هنا القول إنه استطلاع تم في عشرات البلدان ذات الغالبية المسلمة، وتناول آراء المسلمين والمسلمات في مسائل عدة تدور حول الرأي في الولايات المتحدة وسياساتها في السنوات الثلاث الأخيرة.

وبالفعل فإن «رؤية» المسلمين للولايات المتحدة باستثناء أفغانستان وفلسطين والعراق (هكذا بالتدريج)، تظهر تحسنا ملحوظا، وذلك في مسألتين: الموقف من الإسلام، والموقف من المسلمين في الولايات المتحدة. وهناك عدة ملاحظات يمكن ذكرها استنادا إلى نتائج الاستطلاع، منها مثلا أن آراء المسلمين في المهاجر بالولايات المتحدة والغرب بشكل عام لا تزال سلبية، ومنها أن الناس في أفغانستان وفلسطين يريدون رؤية نتائج على الأرض، ومنها أن الناس تهمهم الكرامة ودينهم جزء من كرامتهم، وهم لا يقبلون الإهانة لهذه الناحية حتى وهم بعيدون عن الجيوش الأميركية والغزوات الأميركية، التي نالت من كثير من بلدانهم في عهد الرئيس بوش الابن.

لكنني ما أردت من البدء باستطلاع نتائج هذا الاستطلاع استعراض النتائج أو موافقة باحثي «غالوب» أو معارضتهم في منهجهم، بل بحث الأمر من وجهة نظر أخرى بعد انفجار حركات التغيير العربية. فعلاقات المسلمين بالغرب متأزمة منذ قرن ونصف القرن أو أكثر من عصر نشوء ما صار يعرف بالمسألة الشرقية. وطوال هذه المدة كان الأوروبيون فالأميركيون في موقع الغزاة في العسكر والأمن والثقافة، وكان العرب والمسلمون في مواقع التلقي ومواجهة الهجمات والتصدي للغزاة وللغزو الثقافي والفكري، والسياسات الدولية. وقد نشأت نتيجة ذلك أحداث هائلة، وأدبيات كبيرة وكثيرة. فحتى الانقلابات التي قامت بسائر الدول العربية بالمشرق والمغرب، كانت تضع في برامجها المعلنة هدف مكافحة الاستعمار الأجنبي إلى جانب الإصلاح الداخلي والسياسات الداخلية الأخرى. ولذلك فإن هذا الإدراك للتحدي ما اقتصر على الانقلابات وعلى أدبيات التغريب، بل أثر تأثيرات غائرة في الثقافة والسياسة والاستراتيجيات.

إن هذا الإدراك للتحدي الغربي الذي أنشأ على سبيل المثال دولة إسرائيل، وسعى لصياغة أحلاف بالمنطقة لمواجهة الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة، كان بين أسباب الانقلابات. وسواء حققت تلك الانقلابات أهدافها أم لا؛ فإنها تحولت إلى أنظمة حكم تدهّرت حتى قيام حركات التغيير العربية في مطلع عام 2011. وخلال هذه المدة الطويلة (نحو خمسة عقود) استمرت الحملة على التغريب، واعتبار أنه حتى هذه الانقلابات - إضافة للغزو العسكري منذ مطلع التسعينات من القرن الماضي - صارت من ركائز الوجود الغربي والسياسات الدولية بالمنطقة. ونتيجة للصراع الاجتماعي والسياسي الداخلي، ولثقافة الهوية والمواجهة التي نشأت، فقد ظهرت الحركات الإسلامية وهي ذات وجهين: الوجه الجهادي، والوجه الثقافي - السياسي. ومن المعروف أن الجهاديين اتجهوا لمواجهة «الأجانب» والأنظمة الداخلية على حد سواء. في حين اتجهت الحركات الثقافية والسياسية الإسلامية لمصارعة الغرب وجمهوريات الانقلابات في الثقافة والسياسة. وبالتالي فإن ملف الغرب ورؤيته للإسلام ظل حاضرا، باعتباره تارة غازيا، وباعتباره تارة أخرى متسببا في بقاء أنظمة الحكم الاستبدادية، التي عملت مع الغرب وسياساته بالمشرق لكي تبقى، واتخذت من وجود الإسلاميين الجهاديين وغير الجهاديين حجة للخلود برضا الغرب ودعمه! إن الذي أريد الوصول إليه أن ظهور حركات التغيير العربية غيّر الإشكالية. فقد سقطت أنظمة الاستبداد أو هي على وشك السقوط، وسقطت في مقابلها الأصوليات الجهادية أو هي في طريقها لذلك. وكانت الحركات الشابة هي التي أطلقت عمليات التغيير، وهي قد اعتبرت أن المشكلات الداخلية هي الأهم، وهي متمثلة في الاستبداد والفساد. وبذلك فقد نقلت الإشكالية من الصراع مع الخارج إلى ضرورات التغيير الداخلي. ومن الطريف أن الأنظمة الجمهورية التي ثارت عليها الثورات اتهمت التغييريين تارة بأنهم متآمرون مع الغرب، وطَورا بأنهم متآمرون مع الإسلاميين المعادين للغرب، وطورا ثالثا بأن الغرب والإسلاميين معا إنما يريدون القضاء على أنظمة الممانعة والمقاومة. وكانت حجتها في ذلك أنه وخلال الثورات ما ارتفع شعار واحد ضد الولايات المتحدة أو ضد إسرائيل. وهكذا فإن الزمن العربي الجديد لا يحل المشكلة المتقادمة مع الغرب في الواقع، لكنه يحلها في الصورة، ويفتح المجال حتى أمام الإسلاميين الذين يشاركون الآن في التغيير وتكوين السلطات الجديدة، للدخول في الثقافة الجديدة التي تعتمد على نفسها في التصدي للمشكلات، وتقلل من استغلال مسائل الهوية في دعايتها، لصالح الاهتمام بالقضايا الحقيقية للناس.

وقد أعان الغرب نفسه على التقليل من الأخطار الناجمة عن تعظيم المشكلة بين الإسلام والغرب. فقد قلت كثيرا بالفعل الإعلانات الدعائية والعصبية ضد الإسلام. ومع الأزمة الاقتصادية العالمية التي بدأت عام 2008، اعتبر الغربيون أن مشكلاتهم نابعة من عندهم ومن نظامهم، وليس من الإرهاب أو اغتراب المسلمين. ولذلك صارت خطابات أوباما في القاهرة واسطنبول وجاكرتا لها صدقية من جهتين: جهة الانصراف عن الغزو العسكري، وجهة التفكير الجدي في علاقات متوازنة مع العرب والمسلمين. وقد حدثت انتكاسة من نوع ما في الرأي تجاه أميركا عندما وقفت إدارة أوباما مع إسرائيل في مجلس الأمن، وفي الأمم المتحدة، إنما خفف من آثارها وقوف سائر الغربيين الكبار قولا وفعلا مع حركات التغيير العربي. فهم لم يكتفوا بالترحيب بها، بل عملوا على مساعدتها عسكريا وسياسيا، وأعلنوا عن مساعدات اقتصادية كبيرة لتونس ومصر، ورحبوا أخيرا بالإسلاميين في السلطة والشأن العام إن جاءوا بطريق الانتخابات الحرة. وكما سبق القول؛ فإنه لا تزال هناك مشكلتان في العلاقة تنشران المرارة: القضية الفلسطينية والانحياز الأميركي والغربي لإسرائيل، وتأثيرات السلبيات السابقة للغزو والحصارات من مثل ما حدث ويحدث بالعراق وأفغانستان. لقد تغيّرت الإشكالية تغيرا واسعا. وقد جاء هذا التغيير من جانب شباب العرب الثائرين. وقد رحب الغربيون بالتغيير ولم يقفوا مع الأنظمة التي تتساقط بالتدريج، وكانوا على علاقة حسنة بها طوال عقود. والكرة الآن في ملعب العرب والمسلمين، ليس لأن السياسات الغربية ما عاد لها ذنب أو سيئة؛ بل لأن ثقافة الهوية التي عمل عليها العسكريون والأمنيون، عمل عليها أكثر الإسلاميين لتصدير المشاكل، والزعم أنهم معتدى عليهم، وأنهم لا يستطيعون شيئا إزاء ذلك، والذنب على الغرب الجاهلي والكفار.

هناك مشكلات حقيقية مع الغرب ناجمة عن السيطرة الغربية على العالم منذ أكثر من قرنين. بيد أن الأمم والثقافات الأخرى نجح كثير منها في التخلص من السيطرة والتبعية، والعمل على صياغة علاقات جديدة قائمة على الندية. أما لجهة العرب والمسلمين فقد كانت الهجمات عليهم أشد، لكنهم من جهة ثانية اجترحوا مقاومات أضرت بهم أكثر مما أضرت بالغربيين الأوروبيين والأميركيين.

إن حركات التغيير العربية تذهب إلى أن المشكلات الأساسية التي نعاني منها هي مشكلات واقعية، ويمكن التصدي لها بالمعالجة من الداخل. أما القضايا الثقافية مثل الهوية والتغريب والغزو الثقافي، فلا سبيل للتصدي لها إلا بالنهوض الثقافي، وليس بالدخول في خصومة لا مبرر لها مع العالم، بل بالتعاون معه. فالقيم والشعارات التي رفعها شباب الثورات مثل الحرية والكرامة والعدالة ومكافحة الفساد، هي شعارات عالمية بقدر ما هي عربية وإسلامية. وهذا الإدراك لوهميات مسألة الهوية الخاصة في مواجهة الغرب، كان موجودا قبل الثورات. ففي استطلاع «غالوب» عن رؤية المسلمين للغرب، ظل أكثر من 20 في المائة من الذين سئلوا عن هذا الأمر أو ذاك في العلاقة يقولون «لا ندري»، أو أنه «لا موقف لنا»، أو «لنضع الأمر في قالب آخَر». لقد تغيرت الإشكاليات، ورجع التغيير وإراداته إلى شبابنا. وهذا خير وأبقى.