الرسالة السياسية في زيارة بطريرك الكنيسة الروسية إلى سوريا

إميل أمين

TT

هل يمكن نزع السوار الذي يربط بين عالمي السياسة والأديان؟

حكما أنهما صنوان لا يفترقان أبدا، كما يقول المثل الفرنسي، وكثير من أحداث التاريخ الجسام لعب فيها رجال الدين في بلاط الملوك والسلاطين دورا فاعلا، إن إيجابا أو سلبا، وبخاصة في القارة الأوروبية، وكذلك في الإمبراطورية الروسية، دون أن نغفل ما شابه في العالم العربي عبر قرون طويلة مضت.

والشاهد أن الزيارة الأخيرة التي قام بها بطريرك الكنيسة الروسية الأرثوذكسية إلى سوريا قد ألقت بظلالها على المساحة التي تتقاطع فيها مهام رجال الدين مع أغراض أصحاب القرار السياسي.

لماذا زيارة البطريرك كيريل (اسمه العلماني فلاديمير غونديايف) إلى سوريا في هذا التوقيت الملتهب؟ وهل هي زيارة دينية بالمطلق أم أن لها جوانب سياسية وإن لم يعلن ذلك على الملأ، وإن قرئ بين ثنايا السطور، ومن تحليلات الأحداث والوقائع والعلاقات بين سوريا وروسيا؟

الجواب متشعب وطويل، ويأخذنا لآفاق واسعة من الحديث، نحاول أن نختصرها في عدة ملاحظات استقرائية، تبدأ بشخصية البطريرك، ودوره على المستوى القومي الروسي، ثم علاقة كنيسته بالدولة الروسية.

لم يمض على البطريرك كيريل في منصبه الرسمي الديني سوى عامين وبضعة أشهر، وقد اختير خلفا للبطريرك الرحل «ألكسي الثاني» صاحب البصمة الواضحة جدا في الحياة الروحية والأخلاقية في روسيا، بحسب تعبير الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف.

ومعروف أن ألكسي الثاني قد استطاع توحيد الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في الداخل، وفرعها الآخر في الخارج وتحديدا في الولايات المتحدة الأميركية، واعتبر هذا الأمر إنجازا دينيا وسياسيا هائلا، زخم عودة روسيا إلى الساحة الدولية.

وعند كثير من المحللين والمتابعين للشأن الروسي، فإن شخصية البطريرك كيريل تنحو لأن تميل لجهة عالم السياسة، بقدر ما هي شخصية دينية بامتياز، وإن اختلف في بعض الملامح التجديدية عن سلفه، حتى إن المقارنات تعقد بينه وبين أحد أهم وأشهر بطاركة الكنيسة الأرثوذكسية الروسية المعروف بالبطريرك «نيكون» الملقب بالمصلح الكبير أو الحاكم الأكبر (1605 - 1681)، والذي ملك على الروس بسلطة الكنيسة الروحية، وبقوة تأثير ونفوذ سياسيين غير مسبوقين.

الملامح السياسية في حقيقة الأمر لدور البطريرك الروسي كيريل تجلت منذ اللحظات الأولى لتنصيبه الذي جرى في الأول من فبراير (شباط) عام 2009 في كاتدرائية «المسيح المخلص» في موسكو، وقد كانت المرة الأولى في تاريخ روسيا المعاصرة أن يشارك رئيس الدولة (ديمتري ميدفيديف) في حفل التنصيب، وتقديم التهنئة للبطريرك الجديد، وخلال حفل رسمي أقيم في الكرملين (قلعة الشيوعية السابقة)، أعلن ميدفيديف أن «الدولة ستدعم جهود الكنيسة الأرثوذكسية الروسية الرامية إلى تعزيز الصلات مع بلدان الجوار القريب». وأضاف «نحن ندعم جهود الكنيسة الأرثوذكسية الروسية لتعزيز الصلات الأخوية بين روسيا وشعوب الجوار القريب وإن كانت الحدود الدولية تفصل بيننا إلا أنه لدينا الماضي المشترك والمصير التاريخي المشترك».

والمثير للدهشة ويكشف مقدار النفوذ السياسي الطاغي للبطريرك الروسي والمكانة التي يحتلها داخل مراتب الدولة الروسية الحديثة، هو ترؤسه صباح الثاني من فبراير 2009، أي غداة تنصيبه بطريركا قداسا في إحدى كنائس الكرملين، التي كانت تقام فيها على مدى قرون مراسم تنصيب بطاركة روسيا في زمن القياصرة، كما كانت تجري فيها وبالمثل مراسم تنصيب القياصرة على عرش روسيا.

هل نحن أمام بطريرك روسي بدرجة سياسي ودبلوماسي يتجاوز دوره السياقات الراعوية الكنسية إلى ما هو أهم وأخطر في إعادة إحياء روسيا القيصرية عبر استخدام صبغات ثيؤلوجية، ومن خلال مد الجسور العقائدية مع العالم؟

الواقع يؤكد أن ذلك كذلك بالفعل، والأمر هنا ليس من قبيل التحليلات آو الاستنتاجات، وبخاصة في ظل ما صرح به ميدفيديف في حفل تنصيب البطريرك والذي يمكن للقارئ من خلاله أن يستنتج هل كانت زيارة سوريا تفقدية دينية فقط أم مزخومة بأهداف أخرى.. ما الذي قاله الرئيس الروسي؟

بحسب النص الذي أوردته «روسيا اليوم» إن «العلاقات بين الدولة والكنيسة في روسيا الحديثة تبنى على أساس المبادئ الدستورية وحرية العقيدة وعدم تدخل أجهزة الدولة في شؤون المنظمات الدينية، مع الاعتراف بدور الكنيسة الكبير في إقامة صرح الدولة وتطوير الثقافة الوطنية، وترسيخ القيم الروحية والأخلاقية في المجتمع، ونحن نقيم عاليا دور الكنيسة الاجتماعي والتنويري، ودورها في حفظ السلام وتعزيز الحوار بين الأديان والقوميات».

وللموضوعية فإن الحديث عن الخصائص الشخصية للبطريرك كيريل، وعن علاقة الدولة الروسية بكنيسته أمر يطول، غير أن هذا المدخل المطول يعكس التداخل الذي أشرنا إليه سلفا بين الدين والسياسة في كل زمان ومكان.

هل زيارة البطريرك كيريل لسوريا دينية أم سياسية؟

في تصريحات البطريرك الروسي التي أطلقها في سوريا ولبنان أكد أن زيارته إنما جاءت بصفته بطريركا، وأنه ليس سياسيا أو دبلوماسيا مضيفا: «إن هدف زيارتي هو الاطلاع على وضع المسيحيين لا سيما أن سوريا كانت مثالا للتعايش لقرون بين المسلمين والمسيحيين، ولكن بعد الأحداث الأخيرة نشعر بالقلق وخصوصا بعد ما شهدناه في العراق ومصر من عنف وأذى، تعرض له المسيحيون، وما رأيناه من هدم للعلاقات بين المسيحيين والمسلمين بعدما كانت ولزمن طويل جيدة»، كما أعرب عن أمله في ألا يحدث أمر سيئ للمسيحيين في لبنان أو سوريا أو شمال أفريقيا.

ومما لا شك فيه أن هذه التصريحات وإن حملت جزءا حقيقيا من أهداف الزيارة، إلا أنه لا يمكننا أن نتغاضى عن الطرف السياسي في المعادلة، والمتمثل في طلب الرئيس الأسد للبطريرك اغناطيوس الرابع هزيم بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس زيارة روسيا، ولقاء البطريرك كيريل، من أجل طلب دعم موسكو، والتأثير على الحكومة الروسية ولا شك، وضمان تأييدها للرئيس الأسد.

هنا يختلط كذلك الديني بالسياسي مرة جديدة، فالكنيسة في سوريا تجد نفسها بين المطرقة والسندان، فهي تخشى على مستقبلها حال انهيار نظام الأسد، ولا سيما في ظل حالة المد الراديكالي الواضحة للعيان داخل دول ما أطلق عليه الربيع العربي، والذي يراه البعض الآخر شتاء إسلاميا، وبين التحركات السياسية التي تحاول تقديم مواءمات سياسية ما، علها تحفظ لها وجودها حال تغيرت تلك الأنظمة بالفعل، وهذا ما تجلى بشكل أوقع وأوضح في زيارة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي إلى فرنسا، وتصريحاته هناك، والتي أثارت كثيرا من الغبار من حولها بين مؤيد ومعارض.

هل تحافظ روسيا الاتحادية على مصالحها السياسية والعسكرية والاقتصادية في سوريا، من خلال وسائل الدبلوماسية الدينية، ومنها هذه الزيارة التاريخية للبطريرك كيريل؟

مما لا شك فيه أن الزيارة تغلف العلاقات السياسية بمسحة دينية روحية يمكن لأحد أن يوجه لها نقدا ما، لكن خلف هذه المسحة تبقى هناك حقائق واقعية لا مجال للتنكر لها أو إنكارها، فسوريا حققت لروسيا ومن خلال ميناء طرسوس الحلم الأكبر الذي راود كل قياصرتها منذ زمن بطرس الأكبر باني نهضة روسيا الحديثة، وصولا إلى فلاديمير بوتين، ومن بعده ميدفيديف، وهو إيجاد منفذ على المياه الدافئة.

ويطول الحديث كذلك عن الاستثمارات الروسية في سوريا في قطاعات البنية التحتية، وقطاع الطاقة والسياحة والتي تجاوزت مؤخرا العشرين مليار دولار، ناهيك عن صفقات الأسلحة الصاروخية والطائرات المتقدمة، التي فشلت الأوليجاركية الصهيونية التابعة لإسرائيل في موسكو في إفشالها.

ولا نفشي سرا إن قلنا أن هناك ما يتردد وراء الكواليس حول الدور الذي لعبه بطريرك روسيا الأرثوذكسية في مسيرة عمل المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري، وهو دور فاعل وناجز قادها نهاية الأمر إلى بلورة رؤية واستخلاص اتهامات، مما يدلل على نفوذه الحقيقي على مستوى روسيا الحديثة والعالم برمته على أعتاب القرن الحادي والعشرين.

على أن علامة الاستفهام التي لا ينبغي لنا أن نغفلها في هذا السياق: هل يزعج تنامي دور الكنيسة الأرثوذكسية الروسية دولة ما بعينها، وترى أن هذا الدور المتعاظم يختصم من نفوذها؟

الجواب يقودنا إلى المناطق الرمادية التي تختلط فيها خيوط الديني بخطوط السياسي، والدولة المقصودة هنا هي الولايات لمتحدة الأميركية التي تعمل جاهدة على قطع الطريق على روسيا للعودة مرة أخرى إلى زمن القطبية الثنائية.

والمثير للسخرية هنا هو أن واشنطن لا تغير من ميكانيزماتها المنحولة التي اعتادت عليها حتى مع دولة ذات صبغة مسيحية كروسيا، وفي مواجهة كنيسة عريقة كالكنيسة الأرثوذكسية الروسية، والتي لا قبل للأميركيين تاريخا أو عقيدة بمواجهتها.

يقول تقرير صادر عن وزارة الخارجية الأميركية العام الفائت إن: «الكنيسة الأرثوذكسية الروسية تشهد مزيدا من النفوذ السياسي في روسيا، فيما يتراجع احترام حرية العقيدة للمجموعات الدينية الأخرى»، وجاء في التقرير أيضا أن «مراقبين أعربوا عن قلقهم من تزايد السلطة السياسية للكنيسة الأرثوذكسية الروسية، فدائما ما وقف المسؤولون الحكوميون على رأي مسؤولي الكنيسة في سياساتهم، ويحق للكنيسة أن تدرس أي قانون سيطرح على البرلمان».

التقرير أيضا يدافع عن مجموعات عقائدية غير مسيحية بالمرة ومعروفة بتحالفاتها مع الصهيونية العالمية في مقدمتها جماعة «شهود يهوه»، إذ يعرب عن قلقه من الصعوبات التي يواجهها هؤلاء في تسجيل أنفسهم كمؤسسات دينية عاملة على الأراضي الروسية، ولا يغفل كذلك عن جماعات مسيحية إنجيلية أميركية الهوى والهوية كالجماعات المعمدانية واسعة الانتشار في أميركا.

هذا التقرير جوبه برفض صارم من المتحدث باسم الكنيسة الأرثوذكسية الروسية (الأب فلاديميبر فيجيوليانسكي) الذي اعتبره تعميما في غير محله، مشير في تصريحاته لوكالة الصحافة الفرنسية إلى أنه لا علم له بأن السلطات تشاورت مع مسؤولي الكنيسة الأرثوذكسية الروسية حول مسائل سياسية. ويبقى قبل الانصراف تساؤل: هل أخطا البطريرك كيريل في قيامه بهذه الزيارة على أهميتها في مثل هذا التوقيت والذي تتحرك فيه بوارج حربية روسية نحو الشاطئ السوري في خطوة سياسية وعسكرية بالغة الدلالة؟

حكما أن هذا الأمر لم يفت أن يلفت إليه البطريرك كيريل الأنظار، فرغم إقراره بأن سوريا والشرق الأوسط عموما يمران بمرحلة صعبة فإنه مع ذلك ارتأى ألا يؤجل زيارته إلى سوريا لأن المطلوب - بحسب تصريحاته - من الكنسية أن تبقى دائما مع الناس وإلى جانبهم وخاصة في الأوقات العصيبة.

ومع ذلك يخشى المرء من أن يكون إظهار الدعم الكنسي الروسي المرتبط بمصالح أخرى واقعية، اختصاما من حضور مسيحيي سوريا أو لبنان أو الشرق الأوسط والعالم العربي برمته، لا سيما إذا اعتبر دعما لنظام الأسد الغارق في لغة الدم.

غير أن الحقيقة المؤكدة التي كشفت عنها هذه الزيارة هي أننا بمواجهة صحوة روسية دينية سياسية في عالم بات متعدد الهويات، آملين ألا تكون ومن جديد هويات قاتلة.

* كاتب مصري