تاريخ الفكر الإسلامي في كتابٍ جديد

رضوان السيد

TT

صاحب «تاريخ الفكر العربي الإسلامي» هو دارسُ الإسلاميات الفرنسي دومينيك أورفوا Urvoy، والكتاب صادرٌ عام 2006، وكنتُ قد قرأتُه في نشرةٍ شعبيةٍ عام 2008، لكنه تُرجم الآن إلى العربية. وكان الفرنسيون الذين يميلون للقراءات السوسيولوجية القصيرة، قد استعادوا شغفهم بالتاريخ من خلال مساعي مدرسة الحوليات الماركسية الميول، والتي شكّلت على نحوٍ ما فرعا على التاريخانية الألمانية العريقة. ثم ظهر في الاستشراق الفرنسي عَلَمان بارزان مختلفان في المنهج، لكنهما استقطبا سائر الدارسين للإسلام من الفرنسيين على مدى نصف قرن؛ وهما: لويس ماسينيون، وكلود كاهن. أما كلود كاهن، فقد تابع إنجازات مدرسة الحوليات في مجال الإسلاميات، وكتب كثيرا في تاريخ الإسلام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. وأمّا ماسينيون فقرأ الحياة الروحية في الإسلام، في توازٍ حادٍّ أحيانا مع مناهج مدرسة الحوليات.

ودومينيك أورفوا لا يمكن حسبانُه بالطبع على أحد التيارين، وإن يكن أقرب إلى توجهات كاهن. وقد قرأتُ له من قبل كتابا عمن سماهم المفكرين الأحرار في الإسلام، وهم الذين عرفهم الأقدمون باسم الزنادقة. كما قرأْتُ له دراسةً طريفةً عن ابن رشد بوصفه «مثقفا» مسلما يحمل إشكاليات المثقف مع السلطان، على الطريقة الفرنسية، إنما في العصور الوسطى! وعلى أي حال، ما أردْتُ من وراء الفقرة السابقة السخرية من الرجل، فهو كاتبٌ جادٌّ وواسعُ الاطّلاع. وما عاد يمكن الحكم على هؤلاء من خلال المفاهيم التي نعرفُها للاستشراق القديم أو الجديد. بل هم متخصصون في الفكر الإسلامي، مثل تخصص غيرهم في الأدب الفرنسي أو علم الاجتماع.. إلخ. فقد حفلت العقود الأربعة الماضية بالمناهج والثورات النقدية التي كسرت العلاقة بين الكاتب وموضوعه، فما عاد يمكن التعرف على «هوية» الكاتب من خلال ما يكتب، كما لم يعد ممكنا الحديث عن كلّ غربي يكتب عن الإسلام بوصفه مستشرقا، بما صار لهذا المصطلح من ظلال خلال قرن من الانتقادات العنيفة له والموقف منه من المثقفين العرب والمسلمين. وإنما يمكن الحكم على «رؤية» الكاتب من خلال المنهج الذي اتّبعه، والعناصر والموادّ التي استخدمها أو استبعدها، والبناء الذي أقامه. و«التاريخ الثقافي» مصطلحٌ محدَّدٌ منذ نحو القرنين، يسلك سبيل التعرف على «روح الأمة» من خلال الثقافة التي ظهرت في أوساطها عبر العصور، وشكّلت من خلالها رؤيتها للعالم - وهي في المجال العربي الإسلامي حواريةٌ مع التجربة التاريخية في عناصرها الدينية والاجتماعية والجيوسياسي فيها، ومثالاتها الأخلاقية الكبرى. والتاريخ الثقافي منجزٌ ألماني في الأصل، باعتبار أنّ الألمان يميّزون أنفسهم بأنّ أمتهم تشكّلت ثقافيا وفكريا قبل أن تظهر فيها الدولة/ الأمة عام 1870 بخلاف عددٍ من الأُمَم الأوروبية الأُخرى وبخاصةٍ فرنسا وبريطانيا. وقد أضاف الفرنسيون في عملهم على التاريخ الثقافي الأبعاد السوسيولوجية المعروفة عنهم. أمّا كاتب هذا الموجز للفكر العربي الإسلامي فهو دارسٌ تنويريٌّ من الجيل الشاب الذي درس في السبعينات والثمانينات. وهكذا فليس عنده أوهامٌ حول المركزية الأوروبية، ولا حول فرادة التجربة الغربية. لكنه من جهةٍ ثانية «فرنسي» حقيقي، أي أنه لا يملك ذاك الإحساس العميق بدور الدين في تشكيل رؤية العالم للأفراد والجماعات، وإنما يحلُّ عنده التاريخ والتجربة محلّ الدين، وهو شديد الاعتزاز بالتدبُّر العقلي أو النزوع التأمُّلي النقدي.

ما تلبَّث دومينيك أورفوا كثيرا عند حِقَب ما قبل الإسلام، وإنما سارع إلى عجالةٍ في التاريخ الإسلامي الأول من راشديين وأُمويين، ليحطَّ رحاله بعد حديثٍ عن الاتجاهات الرئيسية السياسية/ الدينية عند كتابات ابن المقفَّع وعبد الحميد بن يحيى. ومن خلال الأجواء الدينية والثقافية في الزمن الأُموي والآخَر العباسي الأول، وقد ركّز فيها على العلائق بالتقاليد السلطوية عند الفرس والبيزنطيين وكيف أثّرت، وعلى الأديان الموجودة وكيف تداخلتْ مع الإسلام - انصرف الرجل لقراءةٍ مستفيضةٍ في نشأة علم الكلام وأعلامه الأوائل. والواضح أنه تأثر في هذا الفصل الطويل بكتب جوزف فان أس ومقالاته، وبخاصةٍ الجزء الأول من كتابه الضخم ذي المجلدات الستة: «الكلام والمجتمع في القرنين الثاني والثالث للهجرة»، ومقدمته التي ظهرت بالفرنسية عن علم الكلام الإسلامي وازدهاره وموضوعاته. ووجهة النظر هذه تقول إنّ المعتزلة هم الذين أنشأوا علم الكلام. ويذهب مؤرخو علم الكلام من الغربيين (وليس فان أس بالذات) إلى تقسيم المناهج فيه مثلها عند اليهود والمسيحيين، أي إلى عقلية ونصية أو المعتزلة وأهل السنة. وهذا دون أن يُنكروا التمايزات داخل المدرستين، ثم يطرحون أفكار الفلاسفة والصوفية. وهذا توجُّهٌ جديدٌ نسْبيا، وإلاّ فإنّ المستشرقين الأقدم كانوا يضعون الفلاسفة الإسلاميين في مقدمة الصورة، ويعتبرون هؤلاء تنويريي الإسلام إلى جانب الذين كانوا متهمين بالزندقة.

وما اهتمَّ أورفوا لقراءة الفكر الشيعي المبكّر؛ بل ركّز عليه عمليا بعد العهد البويهي، وهو العهد الأول لتشكُّل الاثني عشرية. وقد اهتمّ إلى جانب ذلك بالإسماعيلية والفاطميين إنما بطريقةٍ سريعةٍ، إلاّ إذا اعتبرنا اهتمامه برسائل إخوان الصفا دليلا على الاهتمام بالاتجاهات الشيعية الأُخرى. ويكون علينا إنصافا للكتاب أن نقول إنّ اهتمامه بالقرآن والفقه جاء بطريقةٍ جديدةٍ، فقد تتبع النصّ القرآني من خلال العلوم التي نشأت من حوله مثل الفقه واللغة والنحو والعلوم المتفرعة مثل الأُصول والأخلاقيات.

ومن الطبيعي أن يهتمَّ الكاتب للتاريخ الثقافي لأهل السنة من متكلمين ومثقفين وفقهاء وصوفية وسلفيين أو أهل الحديث والحنابلة. وهو من بين الذين كتبوا في العقود القليلة الماضية في التاريخ الثقافي، اهتمَّ على غير العادة بالغزالي مع تحفظاتٍ شديدة. وتبعا لنزعته التنويرية فقد اختزل كثيرا عمل ابن تيمية وتأثيراته دون إنكارٍ لأهميته في المجرى العام للفكر الإسلامي هو والغزالي، على اختلاف شخصيهما وتباعُد أفكارهما. والتفاتُهُ إلى الأندلس بدءًا بابن حزم ليس قليلا، إنما القليلُ عنده (وربما كان ذلك هو التوازُن الصحيح) هو الحديث عن حركة الترجمة وعن تلاقُح الأفكار مع المسيحية واليهودية، وعن التأثير الإسلامي في أوروبا الوسيطة.

إنّ الطريف أنّ الكاتب أورفوا ختم الحديث عن المرحلة الكلاسيكية في الثقافة العربية الإسلامية بثلاثة فصول: فصل سمّاه: ازدهار الفكر «الذمي» وأُفوله. وهو يقصد بالذمي، أفكار اليهود والمسيحيين وكتاباتهم. وما ركّز كثيرا على الكتابات اليهودية، بل أَوغل أكثر في كتب المسيحيين اللاهوتية والردود على الإسلام. وما تعرض بشيءٍ لما ظهر في العقود الثلاثة الماضية من تأثيراتٍ إسلاميةٍ في علم الكلام اليهودي. فقد تبين أنّ اليهود القرّائين تبنَّوا الفكر المعتزلي، ونقلوا كتب المعتزلة إلى العبرية من طريق الحروف، أو الترجمة الكاملة. أما المسيحيون فإنّ أدبهم الجدالي ضد الإسلام استمر بالعربية واليونانية حتى مشارف الأزمنة الحديثة. وقد نشرتْ مجلة «التسامُح» العُمانية على حلقتين دراسةً لكاتبةٍ يونانيةٍ ذكرت فيها زُهاء المائتي كتاب ورسالة باليونانية حتى القرن التاسع عشر في الردّ على الإسلام. وهكذا فالفكر المسيحي لم يأفُلْ، لكنّ الكاتب ربما قصد أنّ الكتابات المسيحية التي تتميز بالجدَّة قلّتْ بالعربية.

أمّا الفصل الآخَرُ الذي اتجه فيه الكاتب إلى خاتمة مؤلَّفة فهو بعنوان: «تعميق السُنّية» وهو يشمل فيه ابن تيمية وتلامذته، والأشاعرة المتأخرين، والمتصوفة الكبار. لكنه ولسببٍ ما ما اهتمّ اهتماما كافيا بالعصر العثماني، ولا عذر له في أنّ الكتابات ما كانت بالعربية. فالإنتاج الفقهي والكلامي ظلَّ بالعربية. وضمن فصل «تعميق السنية»، عقد المؤلّف فقرةً لابن خلدون بدت تلخيصا لدراسات الفرنسيين عنها، وقد خَلَتْ ويا للعجب من الاهتمام السوسيولوجي. ثم جاء الفصل الأخير عن المرحلة الكلاسيكية عما ورائيي فارس، أو تيارات التفلسُف العِرفاني. والكاتب ليس بارعا في العرض لهذه الناحية، وربما ما أحبَّ وهو الليبرالي التنويري توجهاتها الغنوصية.

وبعد هذه الفصول الختامية، انصرف المؤلّف فورا إلى الحِقَب الحديثة والمعاصرة في زُهاء الخمسين صفحة وليس أكثر، وبعنوان: «رد الفعل على التحدي الغربي». وعلى غير عادة المؤلفين الآخرين، فإنه ما تلبَّث طويلا عند الأفغاني وعبده والطهطاوي والكواكبي، بل سارع وبنفس واحدٍ إلى عرض تحدي علي عبد الرازق لقدسيات الخلافة والتاريخ ومن بعده طه حسين ومحمد أحمد خلف الله وصادق جلال العظم وعزيز العظمة. وقد خصَّص فقرةً لعرض آراء خصوم الإسلام السياسي، دون أن يقول الكثير عن الإسلام السياسي ذاته وأدبياته.

لا قيمة للفصل الأخير من كتاب أورفوا موزونا بميزان التاريخ الثقافي. أمّا فيما عدا ذلك، فالكتاب موجَزٌ مهمٌّ ذو منهج في عرض التاريخ الثقافي للتجربة العربية الإسلامية الوسيطة. وصحيح أنّ الليبرالية التنويرية كانت مسلطةً عليها، لكنها ما كانت مزعجةً لأنها تسخر بخفةٍ ولا تُلغي، كما أنها تعرضُ أفقا جديدا للثقافة الإسلامية الكلاسيكية يحاول التوازُن واحترام سائر العناصر والمؤثرات، ومن خلال البُنى والاهتمامات، وليس من طريق التاريخ المسطَّح.