العقل بوصفه مصدرا للإلزام الخلقي

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

إذا كان سؤال الأخلاق في الفكر الفلسفي القديم يبحث في ماذا ينبغي أن يكون عليه الإنسان من حيث هو إنسان، فإن المعتزلة قد أعادوا طرح هذا التساؤل بصيغة أخرى مفادها: ماذا يجب على الإنسان العاقل من حيث هو مسؤول ومكلف؟! بيد أن أمر التكليف هذا، وكما هو وارد في صميم السؤال، لا ينصرف إلى التكليف الشرعي فحسب، كما قد يتبادر إلى الذهن، وإنما ينسحب أيضا على التكليف العقلي، بحكم أن الإنسان مكلف بالعقليات - أو بالأحرى بالأخلاقيات - قبل إرسال الرسل والنبوات، ومن ثم؛ فإن الناس محجوجون بعقولهم سواء منهم من بلغه خبر الرسول أو من لم يبلغه! وتأكيدا على المنحى الأخلاقي في فلسفة المعتزلة، فقد ربطوا بين معرفة الله من جهة، باعتبار ذلك أول الواجبات التي يتعين على المكلف الإلمام بها، وواجب الإنسان بوصفه كائنا عاقلا أخلاقيا من جهة أخرى. وتلك إذن هي نقطة التقاء الميتافيزيقيا بالأخلاق في فلسفة المعتزلة.

وإذا كانت معرفة الله هي أول الواجبات؛ فإن الإنسان، من حيث هو مكلف، تلزمه بعد ذلك معرفة التكاليف بوصفها شرطا ضروريا لأدائها.. فإن الله سبحانه وتعالى الذي أوجب الواجبات وجعل العقل للإنسان لطفا، قد نصب في العقل الدلالة على جهة الوجوب ومكن المكلف من معرفة ذلك.

وإذا كان استحقاق الثواب هو غاية التكليف؛ فإنه ليس وجه وجوب الفعل الأخلاقي؛ لأن الواجب لا يكون واجبا بإيجاب موجب وإنما يختص بذلك لصفة له لا بد أن يعرفها المكلف، تستوي في ذلك الواجبات العقلية والشرعية على حد سواء. أما الواجبات العقلية؛ فتجب لصفات تخصها يكشف عنها العقل، وأما نظيرتها الشرعية فإنها - وإن وجبت للأمر - فذلك لكونها لطفا ومصلحة من حيث إن إرادة العدل الحكيم تقتضي ذلك.

وهكذا يضع المعتزلة المعرفة المؤدية إلى التفرقة بين الخير والشر - أو بين الأفعال الحسنة والأفعال القبيحة - في المرتبة الثانية بعد وجوب معرفة الله سبحانه وتعالى. وبذلك يصح القول: إن جل اهتمام المعتزلة في المعرفة ينصب على نوع المعرفة المتصلة بالسلوك الأخلاقي، كما يتركز اهتمامهم كذلك على العقل بوصفه مصدرا للأخلاق الفردية والجماعية في الجانب العملي منه، على عكس المعرفة النظرية التي لا تجب على الإنسان من حيث هو مكلف، ومن ثم لا تجب على الناس جميعا.

وحب الحصيد في فكر المعتزلة الأخلاقي، أن الأفعال إنما تُحسنُ أو تقبح لذاتها، ومعلوم أن الاتجاه العقلي في دراسة الأخلاق يتمحور حول هذه المقولة حتى تتصف القيم الخلقية بالضرورة والكلية، وهنالك تصبح مهمة العقل البشري متركزة في قدرته على الكشف عن هذه الحقيقة الموضوعية.

وفي الأحوال كلها؛ ينتهي المعتزلة إلى التأكيد على أن العقل هو الوحيد الذي بإمكانه أن يكشف عن وجه الحسن أو القبح في كل فعل بعينه، وبالتالي؛ ينبغي النظر والتأمل في الصفة التي يتقرر بها الحكم على الفعل حسنا أو قبيحا. وبذلك يميز المعتزلة بين نوعين من المعرفة في الأفعال: معرفة وجوه الحسن في الفعل الحسن، وذلك مما يحتاج إلى تأمل واستدلال، ومعرفة ما عليه الأفعال من حسن أو قبح كشرط للعمل، ومن ثم، فإنها تسبقه، بمعنى أنه إذا علم الإنسان حسن الفعل أو قبحه كان ذلك جهة دعاء إلى الفعل أو صرف عنه ما لم تعارضه الصوارف والدواعي كالحاجات والشهوات.

وتبعا لذلك؛ يمكن وصف فلسفة المعتزلة الأخلاقية بأنها فلسفة عقلية التزمت فكرة الضرورة والكلية في الأحكام الخلقية، بيد أنها لم تسرف في الصورية الخالصة من كل مادة كما فعل بعد ذلك الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، الذي في بحثه عن الفلسفة بالمعنى الكوني؛ أكد أنه يعني بهذا المفهوم علم علاقة كل معرفة وكل استعمال للعقل، بالهدف الأخير للعقل البشري الذي، بصفته هو الأعلى، لا بد من أن تُخْضَع له كل الأهداف الأخرى وأن تنتظم فيه إلى الوحدة، معتبرا أن لتشريع العقل البشري (الفلسفة) موضوعين رئيسيين هما: «الطبيعة والحرية»، كما أن العقل يتضمن قانون الطبيعة وقانون الأخلاق أيضا في منظومتين خاصتين في البداية، ولكن في النهاية في منظومة واحدة؛ تتناول الأولى كل ما هو كائن، وتتناول «فلسفة الأخلاق» ما يجب أن يكون فقط.

في كتابه «نقد العقل العملي»؛ لا يخفى كانط ما للتفاعل بين الحسي والعقلي ومشروطية كل منهما بالآخر لدى الإنسان؛ ففي «المعرفة النظرية» تظهر تبعية العقلي للحسي، أما في «العملي الأخلاقي» فيتبع الحسي للعقلي؛ وفي حين يعين ما هو حسي الوحدة الموضوعية لما هو موجود، تعين الكثرة التراتبية ما يجب أن يكون، أي إن في عالم الأخلاق نظام مرتبات ولا يكون هذا النظام في وحدة كاملة إلا في الله. وهذا يعني أن إخضاع الحسي للعقلي يطبق في حالة الكائنات المتناهية وبالتدريج.

هذا، ومن المعلوم أن العلاقة بين العقل العملي والعقل النظري قد شغلت كل من تابع فكر كانط منذ ظهور «النقد الثاني» قبل نحو مائتي عام. ومع ذلك؛ فإن أوسع النظريات الأخلاقية المعاصرة انتشارا تضع هذا الموضوع جانبا لتأخذ بانتقائية شديدة تضفي على أبحاثها صفة التجديد من دون العودة إلى هذه القضية الأساسية في الفلسفة الكانطية. هكذا فعلت «أخلاق الخطاب» ليورغن هابرماس، ونظرية جون رولز في «العدالة»، وكذلك نظرية «الأخلاق النفعية» وغيرها.

ومع ذلك؛ فما من أحد بإمكانه إلا أن يعترف لكانط بشكل عام بأنه ثبت أن للأخلاق بكل بساطة قانونا موضوعيا، وأن لها صفة مميزة هي قابلية مسلماتها للتعميم، وأن أصلها الذاتي يقع في استقلالية الإرادة؛ ثم إن إشكالية الخير الأسمى - إذا لم يرد الإنسان أن يتناساها أو يكبتها - لن تُحل إلا عن طريق المصادرات الثلاث: وجود الله، خلود النفس، والحرية.

وبحسب كانط؛ فإن ثمة عالما لا ينكشف إلا على الفكر وحده، وأن هذا العالم يتضمن فكرة لا يتم البرهان عليها رغم أنها ليست مناقضة للطبيعة، وإن كانت تتمتع بقوانين خاصة تمكن الحكم على الأفعال من أن يكون يقينيا هو أيضا من حيث الصحة والخطأ أخلاقيا، وهذا ما نجده في طبيعة كل إنسان.

ولما كان العقل هو الملكة الوحيدة التي باستطاعتها أن تتخطى العالم الحسي لتسأل عن «أخلاقية فعل الإرادة»، لذا يكون سؤال النقد الفلسفي: كيف يتم تعيين إرادة الإنسان، وبالتالي الذهاب إلى أبعد من طبيعته الحسية؟! وهنا لا يتمحور التساؤل حول التجربة، ولا ما يتعلق بميول ودوافع تحركها المصالح والعواطف؛ وإنما يتعلق الأمر بحقيقة أن في الخير والشر ثمة إمكانية لتعيين الإرادة.

إلا أن الخير ذاته لا يمكن أن يكون الموضوع الممكن لفعل الإرادة، بل الإرادة هي التي تكون في أساس الفعل. ومن هنا، يكون الفعل صالحا إذا لم يتم وفقا للواجب (فهذا مفهوم الشرعية)، وإنما عن واجب (وهذا هو مجال الأخلاقية)، بالإضافة إلى أنه يجب أن يتم عن احترام، وتعقل، للقانوني الأخلاقي.

يقول كانط في نص مكثف بالغ الدلالة يعبر فيه عن فكرته هذه: «إذا كان العقل المحض يستطيع من تلقاء نفسه أن يكون عمليا - وهو في حقيقة الأمر كذلك، كما يثبته الوعي بالقانون الأخلاقي - فذلك لأنه دائما عقل واحد يحكم وفقا لمبادئ قبْلية، أكان من منظور نظري أم عملي».

وكما هو ملاحظ؛ فإنه يسهل جدا الوقوع في خطأ سوء فهم الأخلاق الكانطية من قبل من يتهمونه بالقسوة، وحتى بلا إنسانية الأخلاق عنده، أو بصرامته الآتية في زعمهم عن تزمت ديني أو تربية تقَوية، لكن الخطأ - كل الخطأ - يحدث عندما يستبدل بنقاء النية النيةُ المقدسة، وباستقلالية العقل إلغاء الدافع الحسي، فهذا الإلغاء هو حالة مثالية لا يستطيع كائن مخلوق أن يصل إلى هذا الحد من تحقيقها، فكونه مخلوقا - وبالتالي خاضعا دائما لما تقتضيه مرضاته التامة بوضعه - أي إنه لن يستطيع أبدا التحرر بشكل تام من رغباته وميوله، فإنه ملزم دوما بتأسيس النية الأخلاقية لمسلماته على الإكراه الأخلاقي.. وتلك قضية أخرى!!

* كاتب مصري