الأزهر يطلق مبادرة لدعم حرية العبادات والتعبير والبحث العلمي والفن

علماء دين إسلاميون ومسيحيون لــ«الشرق الأوسط»: الوثيقة «تاريخية» وتحافظ على حريات ثورات الربيع العربي

شيخ الأزهر خلال إلقائه بنود الوثيقة وإلى جواره الناقد الأدبي صلاح فضل والشيخ حسن الشافعي ومفتي مصر الأسبق نصر فريد واصل («الشرق الأوسط»)
TT

في محاولة من الأزهر الذي يعتبر من أهم المرجعيات السنية في العالم العربي والإسلامي، وتأكيدا على دوره باعتباره صوت الإسلام الوسطي، أطلق الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر وثيقة لدعم الحريات العامة والمساواة بين المواطنين. وتشمل هذه الوثيقة الحفاظ على حرية العبادات والأديان التي تكفلها أحكام الشريعة الإسلامية، وحرية الآراء والبحث العلمي والفن والتعبير الإبداعي.

وتعد وثيقة «الحريات العامة» ضمن سلسلة من مبادرات وتحركات تقوم بها المؤسسة الدينية الرسمية بمصر، في محاولة لرفع مكانتها بعد بروز التيار الإسلامي على المشهد السياسي، وفوزه بمعظم مقاعد البرلمان في أول انتخابات تشريعية تجرى بعد ثورة 25 يناير (كانون الثاني). ويرى مراقبون أن الهدف من هذه الوثيقة طرح رؤية إسلامية وسطية بعد ارتفاع مؤشر التخوفات لدى الجماعات العلمانية والمسيحية في مصر، خاصة بعد حصول التيار الإسلامي على الأغلبية داخل مجلس الشعب (البرلمان)، والذي يفضل بعض من قياداته تأسيس نظام إسلامي في مصر.

إلى ذلك، رحبت الكنائس المصرية الثلاث بوثيقة الأزهر للحريات، ووقع على الوثيقة البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية بطريرك الكرازة المرقسية، في آخر لقاء جمعه بشيخ الأزهر في مقر مشيخة الأزهر بالدراسة. كما رحب بها العلمانيون والليبراليون والمسيحيون، آملين أن تقدم الدعم الديني للحفاظ على حقوق ديمقراطية أوسع، حيث أنهم يخشون من أن يقوم الإسلاميون بالحد من هذه الحريات.

وبينما قال علماء دين لـ«الشرق الأوسط» إن «الوثيقة تتضمن الحفاظ على الحريات العامة التي ارتفع سقفها بعد ثورات الربيع العربي»، وصف مسيحيون من جانبهم الوثيقة بـ«التاريخية»، واعتبروها رسالة طمأنة للمسيحيين داخل مصر وخارجها، قائلين لـ«الشرق الأوسط»: «نثق في وسطية الأزهر ونعتبره المرجع الأساسي للإسلام في العالم كله».

وقال الدكتور أحمد الطيب «إن الأمة العربية والإسلامية بعد ثورات الربيع العربي التي أطلقت الحريات أحوج إلى علماء الأمة ومفكريها المثقفين، كي يحددوا العلاقة بين المبادئ الكلية للشريعة الإسلامية السمحة ومنظومة الحريات الأساسية التي أجمعت عليها المواثيق الدولية، تأصيلا لأسسها وتأكيدا لثوابتها، وتحديدا لشروطها التي تحمي حركة التطور وتفتح آفاق المستقبل، وهي «حرية العقيدة والرأي والتعبير والبحث العلمي والإبداع الأدبي والفني، على أساس ثابت من رعاية مقاصد الشريعة يتسق فيه الخطاب الثقافي مع الديني المستنير».

وأكد الدكتور الطيب أن «وثيقة الحريات العامة تنقل الأمة المصرية والعربية إلى بناء مؤسساتها الدستورية بسلام واعتدال وتوفيق من الله تعالى، وبما لا يسمح بانتشار بعض الدعوات المغرضة التي تتذرع بحجة الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، للتدخل في الحريات العامة والخاصة، الأمر الذي لا يتناسب مع التطور الحضاري والاجتماعي، في الوقت الذي تحتاج فيه البلاد إلى وحدة الكلمة والفهم الوسطي الصحيح للدين والذي هو رسالة الأزهر الدينية».

ومن جانبه، قال الدكتور حسن الشافعي، رئيس المكتب الفني لشيخ الأزهر، إن «وثيقة الحريات قد مررت على السلطات لوضعها في الاعتبار أثناء صياغة الدستور الجديد لمصر»، لافتا إلى أن «الوثيقة صيغت في ثلاثة أشهر بالتشاور مع المفكرين الإسلاميين والمسيحيين»، موضحا أنها تحظى بالقوة المعنوية لأنها مدعومة من علماء الأزهر والمثقفين.

وأكد الدكتور محمد مهنا، عضو المكتب الفني لشيخ الأزهر، أن «الوثيقة تتضمن منظومة محددة للحريات العامة وشروط تطبيقها وضمان الحفاظ عليها، خاصة بعدما ارتفع سقفها بعد ثورات الربيع العربي»، وقال «تشمل الوثيقة معايير محددة تناسب المجتمع المصري في المرحلة الراهنة، بحيث لا تكون هذه الحريات مطلقة، وإنما سيتم وضع ضوابط محددة لتنفيذها مثل الالتزام بالقيم والأخلاق الدينية». من جهته، وصف القس صموئيل صادق، راعي الكنيسة الإنجيلية، الوثيقة بـ«التاريخية»، وقال إنها «تطمئن المسيحيين في داخل مصر وخارجها»، مضيفا «نثق في الأزهر ووسطيته، ونعتبره المرجع الأساسي للإسلام في العالم كله». وقال الناشط المسيحي صفوت جرجس إن «توقيت الوثيقة مناسب جدا، خاصة في ظل ظهور أفكار غريبة متشددة عن المجتمع المصري خلال الفترة الأخيرة»، مشيدا بتأكيد الوثيقة على حرية الفن والتعبير والعقيدة، موضحا أن «جميع الكنائس المصرية متفقة على محتوى الوثيقة».

وفي السياق ذاته، قال الدكتور بهي الدين حسن، مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، إن «الهدف من الوثيقة هو طرح رؤية إسلامية وسطية»، مؤكدا قدرة الأزهر على جمع القوى السياسية تحت مظلته، لكونه يمثل المرجعية الإسلامية التاريخية ويمثل الوسطية المصرية بعيدا عن التيارات المتشددة التي تعتنق فهما طقوسيا وشعائريا للدين بعيدا عن مقاصد الإسلام والشريعة السمحة.

وعن وثيقة «الحريات العامة»، قال شيخ الأزهر إن «حرية العقيدة وما يرتبط بها من حق المواطنة الكاملة للجميع، القائمة على المساواة التامة في الحقوق والواجبات، هي حجر الزاوية في البناء المجتمعي الحديث، وهي مكفولة بثوابت النصوص الدينية القطعية وصريح الأصول الدستورية والقانونية، مصداقا لقول الله تعالي: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)، وقوله: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)». وتابع «يترتّب على ذلك تجريم أي مظهر للإكراه في الدين، أو الاضطهاد أو التمييز بسببه، فلكل فرد في المجتمع أن يعتنق من الأفكار ما يشاء، من دون أن يمس حق المجتمع في الحفاظ على العقائد السماوية، فللأديان الإلهية الثلاثة قداستها، وللأفراد حرية إقامة شعائرها من دون عدوان على مشاعر بعضهم أو مساس بحرمتها قولا أو فعلا، ومن دون إخلال بالنظام العام»، لافتا إلى أنه لما كان الوطن العربي مهبط الوحي السماوي وحاضن الأديان الإلهية، كان أشد التزاما برعاية قداستها واحترام شعائرها وصيانة حقوق المؤمنين بها في حرية وكرامة وإخاء».

وأضاف الدكتور الطيب خلال إلقائه نصوص الوثيقة وإلى جواره عدد من علماء الأزهر ومثقفي مصر «يترتب على حق حرية الاعتقاد التسليم بمشروعية التعدد ورعاية حق الاختلاف، ووجوب مراعاة كل مواطن مشاعر الآخرين والمساواة بينهم على أساس متين من المواطنة والشراكة وتكافؤ الفرص في جميع الحقوق والواجبات، كما يترتب أيضا على احترام حرية الاعتقاد رفض نزعات الإقصاء والتكفير، ورفض التوجهات التي تدين عقائد الآخرين ومحاولات التفتيش في ضمائر المؤمنين بهذه العقائد، بناء على ما استقر من نظم دستورية؛ بل بناء على ما استقر بين علماء المسلمين من أحكام صريحة قاطعة قررتها الشريعة السمحة في الأثر النبوي الشريف، والتي قررها إمام أهل المدينة المنورة الإمام مالك والأئمة الآخرون بقوله: (إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حُمِلَ على الإيمان ولا يجوز حَمْلُه على الكفر)، وقد أعلى أئمة الاجتهاد والتشريع من شأن العقل في الإسلام، وتركوا لنا قاعدتهم الذهبية التي تقرر أنه: (إذا تعارض العقل والنقل قُدَّم العقل وأُوّل النقل) تغليبا للمصلحة، المعتبرة وإعمالا لمقاصد الشريعة».

وأوضح شيخ الأزهر أن «حرية الرأي هي أم الحريات كلها، وتتجلى في التعبير عن الرأي تعبيرا حرا بمختلف وسائل التعبير من كتابة وخطابة وإنتاج فني وتواصل رقمي، وهي مظهر الحريات الاجتماعية التي تتجاوز الأفراد لتشمل غيرهم مثل تكوين الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، كما تشمل حرية الصحافة والإعلام المسموع والمرئي والرقمي، وحرية الحصول على المعلومات اللازمة لإبداء الرأي، ولا بد أن تكون مكفولة بالنصوص الدستورية لتسمو على القوانين العادية القابلة للتغيير»، لافتا إلى أنه ليس من حق أحد أن يثير الفتن الطائفية أو النعرات المذهبية باسم حرية التعبير.

أما عن حرية البحث العلمي في العلوم الإنسانية والطبيعية والرياضية وغيرها، فوصفها شيخ الأزهر بأنها قاطرة التقدم البشري ووسيلة اكتشاف سنن الكون ومعرفة قوانينه لتسخيرها لخير الإنسانية، مضيفا «لا يمكن للبحث العلمي أن يتم ويؤتي ثماره النظرية والتطبيقية من دون تكريس طاقة الأمة له وحشد إمكاناتها من أجله»، وتابع «لقد أفاضت النصوص القرآنية الكريمة في الحث على النظر والتفكر والاستنباط والقياس والتأمل في الظواهر الكونية والإنسانية لاكتشاف سننها وقوانينها، ومهدت الطريق لأكبر نهضة علمية في تاريخ الشرق، نزلت إلى الواقع وأسعدت الإنسان شرقا وغربا، وقادها علماء الإسلام ونقلوا شعلتها لتضيء عصر النهضة الغربية كما هو معروف وثابت، وإذا كان التفكير في عمومه فريضة إسلامية في مختلف المعارف والفنون كما يقول المجتهدون، فإن البحث العلمي النظري والتجريبي هو أداة هذا الفكر، وأهم شروطه أن تمتلك المؤسسات البحثية والعلماء المتخصصون حرية أكاديمية تامة في إجراء التجارب وفرض الفروض والاحتمالات واختبارها بالمعايير العلمية الدقيقة».

واستطرد شيخ الأزهر قائلا «آن الأوان للأمة العربية والإسلامية أن تعود إلى سباق القوة وتدخل عصر المعرفة، فقد أصبح العلم مصدر القوة العسكرية والاقتصادية وسبب التقدم والتنمية والرخاء، وأصبح البحث العلمي الحر مناط نهضة التعليم وسيادة الفكر العلمي وازدهار مراكز الإنتاج». وتابع «آن الأوان ليدخل المصريون والعرب والمسلمون ساحة المنافسة العلمية والحضارية، ولديهم ما يؤهلهم من الطاقات الروحية والمادية والبشرية وغيرها من شروط التقدم في عالم لا يحترم الضعفاء والمتخلفين».

وقال الدكتور الطيب إن «الآداب والفنون في جملتها تستهدف تنمية الوعي بالواقع، وتنشيط الخيال، وترقية الإحساس الجمالي وتثقيف الحواس الإنسانية وتوسيع مداركها وتعميق خبرة الإنسان بالحياة والمجتمع، كما تقوم بنقد المجتمع أحيانا والاستشراف لما هو أرقى وأفضل منه، وكلها وظائف سامية تؤدي في حقيقة الأمر إلى إثراء اللغة والثقافة وتنشيط الخيال وتنمية الفكر، مع مراعاة القيم الدينية العليا والفضائل الأخلاقية»، موضحا أن كثيرا من العلماء القائمين على الثقافة العربية والإسلامية من شيوخ وأئمة كانوا من رواة الشعر والقصص بجميع أشكالهما.