سياسات الأخلاق وأخلاقيات السياسة

رضوان السيد

TT

كنت في ألمانيا في الأيام الماضية، ولا شغل للألمان في هذه الأيام - رغم مشكلات الاتحاد الهائلة - إلا في «فضيحة» رئيسهم فولف، المتهم بأمرين: أنه حصل على قرض من أحد البنوك بشروط تفضيلية قبل سنوات عندما كان قياديا في الحزب الديمقراطي المسيحي، وأنه تدخل لدى صحافي قبل أسابيع لمنعه من نشر مقالة عن تلك الواقعة بالتهديد والإغراء! ويجمع المعلقون من خصوم فولف وأصدقائه، على أن ما قام به ما كان جريمة، ولكنه عمل غير أخلاقي، ويدل على مشكلات في شخصيته تجعله غير مؤهل للاستمرار في منصبه رئيسا لجمهورية ألمانيا الاتحادية! وهذا «الاتهام» أو ما يقاربه قيل في الشهور الماضية عن برلسكوني رئيس وزراء إيطاليا السابق، كما قيل عن ستروس - كان الفرنسي نجم الحزب الاشتراكي، ومدير صندوق النقد الدولي السابق، والذي كان مرشحا لرئاسة الجمهورية خلفا لساركوزي، ثم أطاحت به من المجال العام، ومن مزاج الجمهور فضائحه الجنسية والتي ما انكشفت إلا في الولايات المتحدة! وكانت آراء المراقبين قد استقرت في العقود الأخيرة على أن هناك افتراقا بين الأميركيين والأوروبيين في فهم العلائق بين العام والخاص. فالأميركيون يرون أن هناك تلازما بين الأخلاق الخاصة والعامة، وإذا اختل الخاص تطرق الاختلال إلى العام. بينما يذهب الأوروبيون إلى انفكاك العلاقة بين الأمرين، فلا يهتمون للاختلال في الخاص الأسري والأخلاقي، إن لم تكن له علائق بالعام الذي يعمل فيه السياسي. بيد أن هناك من يخصص الأمر أكثر، ويذهب إلى أن التمييز بين الخاص والعام ليس بين أميركا وأوروبا، بل هو بين البروتستانت والكاثوليك، فالبروتستانت يرتبط لديهم الخاص بالعام، والأخلاق والسياسة بالدين وإن بطرائق غير مباشرة. ولذلك يغلب على المجتمعات ذات الغلبة البروتستانتية الاهتمام بأخلاق سياسييهم الخاصة، بقدر اهتمامهم بأخلاقهم في العمل السياسي. والأمر على غير ذلك لدى الكاثوليك الذين يربطون الدين بالأخلاق الخاصة، والفردية، لكنهم لا يعتبرون أن للخطأ في المجال العام علاقة بالدين والأخلاق والفردية. ولذلك استطاع برلسكوني وثاباتيرو الإسباني الصمود رغم المشكلات الأخلاقية الخاصة، ولم يسقطا إلا نتيجة الفشل في المجال العام الاقتصادي والسياسي. وفولف الكاثوليكي إنما في مجتمع تغلب عليه القيم أو أخلاق العمل البروتستانتية، ثارت عليه الثوائر بسبب الربط بين الأخلاق الخاصة والعامة. وهناك ملاحظة أخيرة طريفة بعض الشيء، وهي تتعلق بالربط بين السياسة والأخلاق. فقد لاحظ بعض «الخبثاء» أنه في الأزمة الاقتصادية الحالية بالاتحاد الأوروبي والعالم؛ فإن المجتمعات البروتستانتية هي الناجحة في الصمود بسبب «أخلاق العمل» المتشددة فيها، بينما يتسرب الفشل إلى المجتمعات الكاثوليكية التي تعاني من جمود في المجالات الدينية والاقتصادية والسياسية! لماذا يتزايد الحديث في الأخلاق وعلائقها بالسياسة في هذه الأيام بالذات؟ يحدث ذلك لسببين: التأزم الشديد الحاصل في الاقتصاد والاجتماع السياسي، والذي ترافق مع تساؤلات بشأن أخلاقية العولمة والسوق والنظام الرأسمالي والنظام السياسي الغربي والعالمي المرتبط بالرأسمالية. والسبب الثاني الصعود الديني وبخاصة في البروتستانتية والإسلام واليهودية - هكذا بالترتيب السالف، والطرح الجديد الذي يربط أو يريد أن يربط المجتمع والدولة بمنظومة أخلاقية ذات أصل ديني. وللاجتماع السياسي العربي الإسلامي علاقة قوية بهذين السببين، فالشبان المتظاهرون بأوروبا والولايات المتحدة وروسيا (وهم في غالبيتهم من اليساريين والخضر وغير الحزبيين)، يقولون صراحة إنهم تأثروا في تحركاتهم عام 2011 بـ«الربيع العربي»، وخروج الشباب العربي من أجل الحرية والكرامة ومقاومة الاستبداد وإقامة الحكم الصالح. وبين الشبان الغربيين، كما بين الثائرين العرب، متدينون كثيرون يعتبرون أن العمل السياسي العربي والعالمي، حفل في العقود الماضية بانتهاكات فظيعة للأخلاق وحقوق الإنسان وإنسانيته. وهكذا فإن ملايين الشبان بالعالم اليوم إنما يريدون إدخال العامل الأخلاقي في العمل السياسي والفعالية السياسية. وقد اعتبروا أن مشكلاتهم الكبرى إنما أتت من غلبة اعتبارات الربح والفساد على اعتبارات الأخلاق والإنسانية في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ولذا فقد كتب كثيرون منهم ساخرين من أطروحة السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر (1864-1920)، والذي ربط صعود الرأسمالية المعقلنة بأخلاق العمل المتشددة في الكالفينية (إحدى الشيع البروتستانتية). وقد ذهبوا إلى أن الرأسمالية الجشعة، رأسمالية البنوك وشركات الاستثمار، هي أبعد الجهات عن الدين وأخلاقياته، وهي لا تحتاج إلى تبرير نفسها دينيا، وإنما يحتاج ذلك الرأسماليون البادئون في العالمين العربي والإسلامي، لأن «التقاليد الرأسمالية» ما استقرت هناك بعد، ولأن الصحوة الدينية في عالم الإسلام، أنتجت أدبيات غزيرة بشأن اقتصاد إسلامي عادل، وبشأن أخلاقيات الزكاة المزيلة للفقر، وبشأن السياسة الراشدة والأخلاقية المستندة للشريعة، ولأخلاق السلف الصالح.

والواقع أنه ينبغي أن نفرق بين الوعي الأخلاقي للشبان المدنيين الذين أطلقوا الثورات، وتيارات الصحوة الإسلامية، والإسلام السياسي، المنظمة حزبيا والتي كسبت في الانتخابات في مصر وتونس والمغرب. فالشبان المدنيون يملكون نزوعا أخلاقيا قويا، لكنه نزوع أدنى إلى أخلاق الواجب الوطني والمدني. أما أهل الصحوة فيحملون على لا أخلاقية العمل السياسي في الأنظمة الساقطة، لكنهم يريدون الاستبدال بها، أو استبدال الشريعة بها. والشريعة في نظر الإسلاميين الحزبيين هي النظام الأخلاقي الكامل، والنظام الكفيل بضرب الفساد وإحباطه، وإعلان عدالة الله في الأرض. وهكذا فإن هناك فرقا بين الأخلاق السياسية التي يريدها المدنيون العرب وغيرهم، والأخلاق السياسية التي يريدها الصحويون من أهل الديانات جميعا. فالصحويون والإحيائيون على سبيل المثال لا يريدون الإجهاض ولا يقبلونه، ويعتبرون الزواج المدني عملا شائنا، ويفضلون السياسي المتدين، على النظيف الكف المستنكر للنفاق باسم الدين من أجل المناصب والفوائد.

على أن هذه الأمثلة لا تعكس الافتراقات والتفاوتات الكبيرة بين الشبان المدنيين والصحويين من المسلمين والبروتستانت واليهود. ذلك أن الشبان المدنيين مصرون على إدخال الأخلاق إلى العمل السياسي من أجل إصلاحه بالشفافية والنزاهة والابتعاد عن الكذب والاستغلال والرأسمالية الجشعة. أما الصحويون الحزبيون أو المتشددون الأرثوذكس من اليهود، أو المولودون ثانية (كما يسمون أنفسهم) من الإنجيليين، فإنهم في الواقع يريدون إدخال الدين في بطن الدولة بجعلها أخلاقية (لدى البروتستانت)، أو لجعلها يهودية حقا (لدى الأصوليين اليهود)، أو لجعلها دولة إسلامية تطبق الشريعة (لدى الأصوليين المسلمين). وفي الحالات الثلاث، يحدث صراع بين الصحويين والحزبيين والإحيائيين من جهة، والمجموعات الأخرى الدينية والمدنية، فيتضرر الدين، ولا تستفيد الدولة. فالدعوة الدينية أو الأخلاقية هي دعوة مطلقة ولا تقبل النسبيات، ولذلك لا يستطيع القائلون بتسييس الدين التنازل لبعضهم أو ترك الأمور على غاربها، إذ إنهم يعتقدون أنهم على حق لا يمكن التساهل فيه! ولنعد إلى بداية الحديث. هناك مطالبة عامة من جانب شبان العالم المتدينين وغير المتدينين بإعادة الاعتبار للأخلاق في المجال السياسي. وبعد هذه المقدمة تفترق الأمزجة والأهداف. فالشبان في المجتمعات الغربية يشكون من فساد العمل السياسي، ويريدون إعطاءه جرعة أخلاقية من أجل إصلاحه وتقويمه. والشبان في المجتمعات العربية والإسلامية يشكون من إلغاء العمل السياسي، مما أحدث أزمة أخلاقية عاتية. وهذه الأزمة يريد الشبان المدنيون تجاوزها بإعادة بناء المجتمع السياسي على أسس أخلاقية. أما الإسلاميون الحزبيون، فإنهم يريدون وضع النظام الجديد تحت مقولة أخلاقية عقائدية هي: الإسلام هو الحل! ولا يزال الأمر في الحالتين موضع تجاذب وصعوبة بالغة، في سنة الثورة العربية الأولى!