الصراع على المواطنة.. المفهوم وتجلياته

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

لا شيء يثير الجدل، في أيامنا هذه، أكثر من الحديث عن مسألتي الهوية والمواطنة. صحيح أن جدلا كهذا يمتد عبر التاريخ، ويمتلك جذورا بعيدة المدى في الوعي الإنساني، وصحيح أيضا أن البدايات الأولى للاهتمام بهذه المسألة تعود إلى بشائر عصر النهضة الحديثة، لكن في المقابل من ذلك كله اكتسبت المسألة زخما إضافيا في ظل الربيع العربي، وما نتج عنه من وصول الإسلاميين إلى السلطة في كل من: تونس، ومصر، وليبيا، والمغرب، وبنتائج شبه مشابهة مستقبلا في كل من: سوريا، واليمن. وقبل أن يجرفنا الحاضر، بمساراته المتعرجة، سنبدأ أولا باستكشاف مبدئي للمفهوم في جذوره البعيدة، ثم نعرج على الانفراجة التي شهدها في بدايات عصر النهضة، ونقارن أخيرا ما بين بنية المفهوم في الفكر العربي الإسلامي من جهة، والفكر الغربي السياسي من جهة أخرى، من أجل استكشاف أعمق لإشكال المفهوم حاليا ضمن تضاعيف خطاب حركات الإسلام السياسي.

سأبدأ أولا بذكر مثالين، أحدهما قديم والآخر معاصر، يعكسان في جوهرهما الفرق الشاسع بين كل من: الهوية والمواطنة. المثال الأول، ذكره أبو حيان التوحيدي في كتابه «الإمتاع والمؤانسة»، حيث قيل لأعرابي: «أتود أن تصلب في مصلحة الأمة؟ فقال: لا، ولكني أود أن تصلب الأمة في مصلحتي!!».

أما المثال الثاني؛ فيتعلق بما قالته الممرضة الإنجليزية أديث كافيل قبل أن يعدمها الألمان رميا بالرصاص؛ لدورها في معالجة الجرحى ومواساتهم ومساعدة الأسرى الفارين من وجه النازي إبان الحرب العالمية الأولى، حيث جاء على لسانها: «لقد أدركت أخيرا أن الوطنية ليست كافية، وأن المطلوب هو ألا نكره وألا نشعر بروح العداوة إزاء بعضنا البعض»!! وحقيقة الأمر أن المثالين السابقين يعكسان الهوة الساحقة ما بين الوعي بالمصلحة الذاتية، ومن ثم الانتماء إلى عوالم المنفعة الشخصية، من جهة، وبين «الفناء» – إن صح استعارة هذا المصطلح من عالم الصوفية - في بوتقة أكبر «يتخلى» فيه السالك (المواطن) عن كل إرادة ذاتية، وصولا إلى مرحلة «التجلي» التي تتكشف فيها انتماءات كبرى، ومن ثم وعي أكبر بهوية جامعة ومواطنة شاملة!! تاريخيا؛ لا نكاد نلمح كلمة «وطن» في شعر العرب الأقدمين إلا نادرا، على الرغم من أن الشعر كان كتاب حياتهم، ومن قبيل هذا النادر القليل ما أنشده رؤبة بن العجاج حين قال: أُوطِنْتُ أرضا لم تكن من وَطَني لو لم تكنْ عَامِلها لمْ أسْكُن! وتبعا لذلك؛ كان الوطن عند العرب يعني مجرد السكن وموطئ القدم، وهو ما يتأكد لنا من تعريف أبي البقاء الكفوي للوطن في كتابه «الكليات» بأنه: «منزل الإقامة. والوطن الأصلي: مولد الإنسان أو البلدة التي تأهل فيها! ووطن الإقامة هو: البلدة أو القرية التي ليس للمسافر فيها أهل ونوى أن يقيم فيه خمسة عشر يوما فصاعدا. ووطن السكنى هو: المكان الذي ينوي المسافر أن يقيم فيه أقل من خمسة عشر يوما»!! ليس غريبا إذن، والحال هذه، ما أورده الجاحظ من أن النفر في زمن البرامكة كان إذا سافر أحدهم أخذ معه من تربة أرضه في جراب يُتداوى به!! أو أن يبلغ الأمر مداه فينشد شاعر عربي اشتد به الحنين للوطن: بلاد ألفناها على كل حالة وقد يُؤلف الشيء الذي ليس بالحسن!! وتُستعذب الأرض التي لا هوا بها ولا ماؤها عذب.. ولكنها الوطن! أما في العقود المتأخرة؛ فإننا نلمس صراعا متناميا على مفهوم المواطنة، حيث تم نقل المصطلح إلى مستوى أعلى مما سبق وامتد حوله جدل لا يزال قائما وفاعلا. وبالتالي؛ كان طبيعيا أن تختلف الرؤى وتتباين وجهات النظر حول منشأ المفهوم ومبتغاه، وأيهما أولى بالاهتمام: الهوية التي كثر الحديث - ولا يزال - عن أنها في خطر، مع أن ثمة فائضا لدينا في الهويات!! أم المواطنة المنقوصة والمواطن المهدور حقه في شتى بقاع الإسلام والعروبة؟! وفي الأحوال كلها؛ فإن الذين قبلوا المواطنة مفهوما، كالشيخ الإمام محمد عبده على سبيل المثال، قالوا بأن الوطن هو المكان الذي للمواطن فيه حقوق وعليه واجبات سياسية، مؤكدين ضرورة توحيد دوائر الولاء والانتماء، حيث «تذهب الزعامات وتبقى الأوطان».

لكن في المقابل من ذلك؛ ثمة من أبدى تحفظا شديدا على مفهوم «الوطنية»، كعبد العزيز جاويش الذي اعتبر أنه مصطلح أجنبي ظهر فجأة بأوروبا إبان القرن الثامن عشر، ثم انتقل إلى الشرق عن طريق العلوم الغربية التي تنافح عن المدنية الحديثة!! وما بين هذا وذاك؛ ثمة من يؤكد تشوه المصطلح في ذاكرتنا الجماعية، بحيث إننا لو عدنا إلى جذور تبلوره في الحالة العربية لوجدناه مرتبطا إلى حد كبير بالمعاناة المتولدة عن هيمنة الاستعمار؛ أي سلب الأراضي والاعتقالات والتعذيب والقتل، وكل الحالات المرتبطة بتجربة الاحتلال والمؤسسة على نكران حق وجود الآخر، على عكس الحالة الغربية التي كان فيها وعي الإنسان بالوطن امتدادا طبيعيا لوعي الإنسان بذاته، مما يعيدنا مرة أخرى إلى بحث مسألة تشكل الوعي العربي والإسلامي المعاصر، سواء فيما يتعلق بتحديد الهوية، أو ما يختص بفهمه الخاص لمسألة المواطنة! وبغض النظر عن إشكالية أيهما ظهر للوجود أولا؛ فمن المعلوم أن المفهوم يتشكل تعريفه عادة بعدة أبعاد أساسية؛ يتمثل البعد الأول في التحديد اللغوي للمفهوم، بينما يتمثل البعد الثاني في التحديد الذي يفرضه السياق الحضاري للمفهوم (سياسيا وثقافيا واجتماعيا)؛ في الوقت الذي يرتبط التحديد العلمي للمفهوم بالتراث الثقافي الذي ينتمي إليه تاريخيا. وبطبيعة الحال؛ ليس ثمة شك في وجود علاقة بين هذه الأبعاد الثلاثة؛ خاصة أننا نعيش أزمة تحديد المفاهيم والمصطلحات في عالمنا العربي المعاصر بكل تجلياتها، والتي يمكن - بحسب البعض - نسبة جذورها إلى بعدين أساسيين:

أولهما: التغيرات المتسارعة التي تقع على الصعيد القطري والإقليمي والعالمي، والتي لعبت دورا بارزا في إعادة بناء أو تشكيل المتغيرات الواقعية؛ ما أدى إلى سقوط خاصية التطابق بين الرموز، أو المفاهيم، والمتغيرات التي تشير إليها.

أما البعد الثاني؛ فيستند للأزمة التصورية، أو المفاهيمية، في التراكم الفكري الذي بدأ يتحقق على الصعيد العالمي في مختلف النظم العقلية، بخاصة العلوم الإنسانية والاجتماعية! ومن ثم؛ يمكننا على مستوى الصعيد الأخير أن نقف على مجموعة من الإشكاليات المتعلقة بمفهوم المواطنة، كما تبدو واضحة في النقاشات الصاخبة التي تسيطر على فكرنا العربي المعاصر!! وأول ما يمكن ملاحظته هو أن ثمة إشكالية كبرى تتعلق بمفهوم المواطنة ودقته في اللغة العربية للتعبير عن مصطلح Citizenship كما هو مستخدم في إطار الحضارة الغربية.

ونتيجة لذلك؛ يرى البعض ضرورة الاستعاضة عن هذا المفهوم بمصطلح آخر؛ بحجة أن المواطنة والمواطن في العربية إنما تشتقان من الوطن، أي المنزل الذي تقيم به، وهو موطن الإنسان ومحله حسب تعبير ابن منظور، الذي يقول: «أوطنت الأرض ووطنتها توطينا واستوطنتها: أي اتخذتها وطنا، ومنه أيضا الاستيطان والوطنية»، وبهذا المعنى صاغ ابن الرومي أبياته الشهيرة في وصف مكانة منزله عنده وحرصه عليه، حين قال: ولي وطن آليت ألا أبيعه وألا أرى غيري له الدهر مالكا! لقد ألفته النفس حتى كأنه لها جسد إن بان غُودر هالكا وحبب أوطانَ الرجال إليهمُ مآربُ قضاها الشباب هنالكا إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهمُ عهود الهوى فيها فحنوا لذلكا!! والحال؛ أنه جرى تغيير كبير على استعمال كلمة الوطن في الشعر العربي المعاصر بحيث صار يقصد منها «الدولة القطرية»، كما في قول أمير الشعراء: وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي!! إذ يقصد بالوطن هنا مصر، فيما يعبر المصطلح في بيئته الغربية عن وضع حقوقي وسياسي محدد، لا تنحصر الكلمة فيه بالمقام الجغرافي أو البعد المكاني!! وضمن هذا السياق، يشير هيثم مناع إلى أنه عند استخدام الكلمة في اللغة اليومية الدارجة (الكلمات، الخطابات، المقالات)، وعلى الرغم من تكرارها في كل نداء، فإنها قلما استعملت في الوعي، أو اللاوعي الجماعي، بالمعنى السياسي العميق لها، وغالبا ما انحسر معناها في ذهن القائل والسامع بأبناء هذا الوطن، الأمر الذي غيب عن الواقع، وأبعد عن الذهن، ضرورة الحديث في مفهوم المواطنة وأهميته في بناء وعي حضاري إنساني جديد يسهم في تجاوز المجتمع العضوي إلى المجتمع المدني، والحق المطلق إلى حقوق الإنسان!! وختاما؛ يبقى القول: إن مفهوم المواطنة في العربية المعاصرة يقرب إلى الأذهان مضامين الأصل الإنجليزي للكلمة، ويربطه بفكرة الوطنية ذات المركزية الكبرى في إرساء قواعد العمل المشترك بين جميع مواطني الدولة الواحدة.. أما الواقع المعيش؛ فتلك قضية أخرى!

*كاتب مصري